تسلق عبد الكريم بوري وعائلته الجبال وقطعوا الصحاري وواجهوا قطاع الطرق، وأفلتوا من أيدي حراس الحدود الخطرين المسلحين في عدة بلدان، كي يشقوا طريقهم انطلاقاً من قريتهم الواقعة في قبضة الحرب في أقصى الشمال الأفغاني باتجاه هذه البلدة الواقعة على ضفاف بحيرة في تركيا.
إنما الآن، وبعد نجاحه في الانتقال من قريته التي تسيطر عليها حركة "طالبان" في شمال أفغانستان إلى مكان آمن نسبياً، بات هو وعائلته يجدون أنفسهم عالقين، ويواجهون نقصاً في الموارد المالية، ويعيشون في الخفاء في هذه البلدة التركية الشرقية القريبة من الحدود الإيرانية.
ويقول "كان الأمر صعباً للغاية، عندما وصلنا، قضينا ثلاثة أيام في الشارع. لكن لا يمكننا العودة إلى موطننا أبداً".
ينبذ العالم الذي أنهكه اللاجئون وتداعيات الأزمات الإنسانية بكل قسوة الأفغان الهاربين من الحرب والقمع السياسي والفقر المدقع في بلادهم. وبدأت الحكومات الإيرانية والتركية واليونانية -أي الدول التي اعتاد المهاجرون الأفغان على قطعها طيلة عقود من أجل بلوغ أوروبا- بالتعاون العلني لمنع الأفغان من الوصول إلى مدن بلادها.
قال وزير داخلية النمسا، كارل نيهامر، إنه يريد إبقاء اللاجئين الأفغان في منطقتهم الخاصة، فيما أعلن تأييده إنشاء "مراكز ترحيل" على طول الحدود الأفغانية، كي يتسنى نقل من رُفضت طلبات لجوئهم إلى الخارج. ومن جهته، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن "أوروبا لا تقدر أن تتحمل وحدها عبء تداعيات" الأزمة الأفغانية وعليها حماية نفسها من موجات الهجرة غير النظامية.
واجه الأفغان الفارون من بلادهم برودة مماثلة في التعامل من تركيا، التي تستضيف أساساً أكبر عدد من اللاجئين في العالم. ويعيش في تركيا 300 ألف أفغاني في الأقل، بالإضافة إلى أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وتبني البلاد حاجزاً أسمنتياً ارتفاعه ثلاثة أمتار على امتداد حدودها مع إيران لمنع عمليات عبور الحدود.
وصرح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، يوم الأحد، في ختام محادثاته مع نظيره الألماني هايكو ماس "لقد اضطلعنا بمسؤولياتنا الأخلاقية والإنسانية بما يكفي في موضوع الهجرة. وبالنسبة إلينا، لا مجال للبحث حتى في مسألة تحمل عبء المزيد من اللاجئين".
يوم الثلاثاء، تجمع المسؤولون الأوروبيون المذعورون من احتمال وصول موجة جديدة من اللاجئين إلى حدودهم عبر تركيا. تبني اليونان جداراً حديدياً، وتنشر سياجاً شائكاً وطائرات مسيرة وكاميرات لمنع الأفغان من عبور حدودها.
وفيما يُحتمل أن يكون بعض الأفغان يهربون من الحرمان الاقتصادي، لدى البعض الآخر أسس شرعية لطلب اللجوء. كان لبوري، المنتمي إلى أقلية الأوزبك في أفغانستان، سبب وجيه كي يخشى "طالبان". فقد عارض أقاربه الحركة وخدم عدة أشخاص منهم في الجيش الأفغاني الوطني. وفي المناطق الواقعة تحت سيطرة "طالبان" "لا حياة في أي شيء"، كما يقول. حاولت معلمة من المنطقة وزوجها الذهاب إلى عملهما لكنهما مُنعا من ذلك فيما اقتيد الرجل إلى التعذيب. وقد عانى لكسب ما يكفي من المال من خلال العمل في مزرعة لكي يلبي حاجة عائلته وعائلة أخيه الذي قُتل منذ أشهر.
إنما طفح الكيل منذ بضعة أشهر حين سقطت قذيفة هاون بالخطأ على منزلهم خلال أحد الاشتباكات الكثيرة بين "طالبان" والقوات الأفغانية من أجل السيطرة على قريتهم. وقُتل اثنان من أولاد أخيه الراحل فيما فقد ابنه ذراعه اليسرى.
وانطلقت زوجة بوري وأولادهما وزوجة أخيه الراحل الحامل وأولادها في رحلة خطيرة من أفغانستان إلى تركيا، مروراً بباكستان وإيران. وتقول زوجة أخ بوري، نسرين غول "كانت رحلة مريعة بالفعل. كنا نجهل موقعنا نصف الوقت. وقعت عدة مرات. لكنني لم أرد البقاء في أفغانستان فعلياً. أردت حياة أفضل لأطفالي وأن أعلم بناتي".
لا ينجح أشخاص كثيرون في البقاء على قيد الحياة وإتمام الرحلة. تضم مدينة فان مقبرة دُفن فيها عشرات الأشخاص الذين عُثر على رفاتهم في جبال طوروس على الحدود الإيرانية التركية. وكُتب على شواهد قبورهم بخط اليد موقع وتاريخ العثور عليهم. غرق كثيرون أثناء محاولتهم عبور بحيرة فان، التي تبلغ مساحتها 74 ميلاً وتقع إلى غربي المدينة.
ويرى محمود كاجان، المحامي المختص بشؤون الهجرة وحقوق الإنسان المستقر في فان أنه "وضع حزين للغاية. يموت البعض برداً. ويقضي آخرون على أثر هجوم الحيوانات البرية عليهم. ويموت العديد من الناس في حوادث السير لأن المهربين يحشرونهم داخل السيارات".
تسعى الحكومة التركية جاهدةً كي تبرهن لشعبها الذي سئم توافد المهاجرين من سوريا وأفغانستان أنها تضاعف جهودها من أجل منعهم من دخول البلاد. على طول الحدود، زاد الجنود وعناصر الشرطة دورياتهم وكثفوا جهودهم لبناء الحاجز الأسمنتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اصطحبت السلطات منذ فترة قصيرة مجموعة من الصحافيين في جولة موسعة داخل منشأة الترحيل في فان، وأرتهم صالونات الحلاقة وأماكن اللعب المخصصة للأطفال وحتى أقسام الدراسة للمهاجرين غير القانونيين المحتجزين في المركز قبل أن ترحلهم إلى بلدانهم.
في الوقت الحالي، يقر المسؤولون الأتراك بعجزهم عن إعادة الناس جواً إلى أفغانستان، إذ عُلقت الرحلات الجوية إلى البلد. وهم يتوقعون وصول أعداد أكبر منهم خلال الأيام المقبلة. ويقول جما أومورجا، مدير شؤون الهجرة في محافظة فان "لم نرَ بعد موجة الهاربين من سقوط كابول. من ترونهم الآن هم الأشخاص الذين استشرفوا الأحداث قبل وقوعها".
تضم عائلة بوري 11 شخصاً يعيشون محشورين داخل شقة يستأجرونها لقاء 61 جنيهاً استرلينياً شهرياً في وسط مدينة فان المزدحم. في يوم زيارة الصحافيين، كان أصغر أفراد العائلة البالغ من العمر 18 شهراً يعاني ارتفاع الحرارة.
ومع ذلك، هم أكثر حظاً من معظم اللاجئين الأفغان في تركيا. وباعتبارهم من إثنية الأوزبك في أفغانستان، قيمهم قريبة من تركيا وآسيا الوسطى كما أنهم يتحدثون إحدى اللغات الأتراكية، حتى إن عبد الكريم استطاع تأمين عمل يكسب منه 4.39 جنيه في اليوم تقريباً من غسل الصحون وطهي الوجبات السريعة في مطعم محلي.
لكن معظم الأشخاص الذين ينجحون في عبور الحدود يجدون أنفسهم مطاردين ويعيشون في الخفاء. بعد أن سلم كل ما معه من أموال لمهرب بلا ضمير تخلى عنه، استقر دوست محمد، 21 سنة، من مدينة باغلان، في منزل مهجور في فان كان من المقرر هدمه.
ويقول "نمشي ونختبئ، وعندما نلمح الشرطة نهرب".
يقول عبد الجليل هازارغول، البالغ من العمر 30 سنة من سكان كابول، إنه هرب من العاصمة الأفغانية في مطلع أغسطس (آب) فيما طوقت حركة "طالبان" المدينة. عمل لصالح القوات الدولية في قاعدة باغرام الجوية لعدة سنوات، وكان مرعوباً من أن يجد عناصر "طالبان" سجل عمله.
وقد انضم إلى مهاجرين آخرين من محافظات أفغانية قرب جلال أباد، ومزار الشريف وقندهار. عبروا الجبال وشقوا طريقهم عبر باكستان وإيران وتسلقوا الجدار الذي بنته تركيا ودفعوا المال للمهربين على طول الطريق.
في يوم غير بعيد من الشهر الماضي، كان يتسلل برفقة عشرة مواطنين أفغان آخرين عبر الحقول الزراعية، وينهلون الماء من الجداول. ويأمل في أن يتمكن من بلوغ إسطنبول وإيجاد عمل.
ويقول "إن كنت سأسدي غيري من الأفغان نصيحة واحدة، أقول لهم لا تأتوا لأن المخاطر كثيرة. فالحدود خطيرة والجبال مرتفعة والطعام مفقود".
هددت الحكومة التركية بمقاضاة أي شخص ينقل مهاجرين غير شرعيين بتهمة الاتجار بالبشر، لكن ذلك لا يمنع المواطنين الأتراك من مساعدتهم. خلال مسيرة على الأقدام عبر الأراضي الزراعية، التقى هازارغول والمسافرين معه محمد دميركول، وهو أربعيني يسكن قرية خارج تاتفان على الطرف الغربي لبحيرة فان.
ويقول دميركول الذي ينتمي إلى الأقلية الكردية المُحاربة في تركيا "أنا إنسان لدي مشاعر أولاً وآخراً. هؤلاء أشخاص جائعون يهربون من الحرب. من الناحية العقلية والدينية، نعلم أنهم بحاجة إلى مساعدة. نحن بشر ونفهم ما الذي يمر به الجائعون. فقد عشناه أيضاً".
© The Independent