"الإجراءات الاحترازية" و"التباعد الجسدي" و"الكمامة أمان" و"غسل الأيدي بالصابون لمدة خمس دقائق" عبارات أحيلت لتقاعد مبكر. أزمة "بروتوكول العلاج" انتهت. شح المعروض من الكمامات تحول إلى تخمة تدعو إلى تنزيلات وعروض "فوق البيعة"، حيث تحصل على علبة كمامات مع كل عبوة صابون غسالة أوتوماتيك، أو سائل تنظيف أرضيات الرخام. مقاعد المقاهي وطاولاتها ثارت على تباعدها واتخذت خطوات للتقارب والتلاصق، فالصيف يحب اللمة ودور "الطاولة" لا يكتمل إلا بمتابعة جمهرة الأهل والأصدقاء، وشاي العصر لا يحلو إلا بما لا يقل عن عشرة من أقران المهنة.
باصات النقل العام وعربات مترو الأنفاق والـ"سرفيس" الملقب قائدوه بـ"عفاريت الأسفلت" تحمل ملايين البشر على مدار الساعة، ولسان حال الغالبية المطلقة "لا كورونا بعد اليوم". حتى "الموجة الرابعة" الواضحة معالمها في إصابات الأهل والأصدقاء، والبادية ملامحها في تدوينات صفحات النقابات ورابطات العاملين هنا والمتقاعدين هناك، حيث مناشدة للدعاء بالشفاء للصديق الراقد في الرعاية الفائقة بسبب مضاعفات الفيروس اللعين، أو الدعاء بالرحمة للزميلة التي قضت بضربة قاضية من كورونا في موجتها الرابعة.
دون استئذان
الموجة الرابعة من "كوفيد-19" دخلت مصر دون استئذان، على الرغم من توقع العقل والمنطق قدومها منذ أسابيع، مع هيمنة واقع كثير من التواكل وسوء فهم مبدأ حيث "خليها على الله" لا يصحبها "اعقلها" قبل أن تتوكل. الموجة الجديدة تدخل في ظل سلام نفسي شعبي عجيب وهدوء أعصاب في الشارع غريب، ولم يتبق إلا أن يرفع أحدهم لافتة ترحاب بـ"كورونا الغالية في موجتها الرابعة وتحوراتها المذهلة".
الذهول الذي بدا على طبيب الباطنة والكلى محمد مصطفى حين دخل مستوصفاً يديره أحد تلاميذه في منطقة شعبية، لم يكن له تعليل أو تفسير سوى ما قاله الممرض، "خليها على الله يا دكتور، وعلى الله يتوكل المتوكلون". السجال العميق الذي خاضه الطبيب مع الممرض محاولاً إقناعه بأن "الكمامة" صارت بديهية من بديهيات الحياة، وأن التلاصق بين المرضى وأقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم في قاعة الانتظار لا يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة فقط، ألا وهي إصابات سريعة وكثيرة بالفيروس اللعين انتهى لصالح الأخير الذي أمعن في المجاهرة بكل ما تبادر إلى ذهنه من آيات وأحاديث وأقوال مأثورة عن قيمة التوكل على الله سبحانه وتعالى والإيمان والتسليم بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
تكتم النفس
وعلى الرغم من أن المكتوب على باب المستوصف الخيري هو "الالتزام بالكمامة وتطهير الأيدي" إلا أن الواقع يشير إلى غير ذلك. حجج وأعذار الكمامة التي تكتم النفس أو تصيب الوجه بالحساسية أو تجرح الأذنين أو تضايق الخدين أو تلهب الشفتين، تأتي مدمجة بـ"قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، فتضع المحتج في خانة الاعتراض على "كلام ربنا" الترويعية.
الصيغة الترويعية التي أعلن بها مستشار الرئيس المصري للشؤون الصحية والوقائية محمد عوض تاج الدين أثارت قليلاً من الخوف وكثيراً من الحوقلة والبسملة مع مطالبة من قبل البعض له بالتحذير دون ترويع. قال تاج الدين: "تخطينا الـ200 حالة يومياً، وهذا يعني أن هناك زيادة كبيرة في الإصابات. وعدد الحالات التي تدخل المستشفيات في زيادة والإصابات الخطيرة أيضاً. وهذا يعني أن مصر بالفعل دخلت الموجة الرابعة لفيروس كورونا. وهناك زيادة في عدد حالات الإصابة تتضح على مستوى دخول المستشفيات والحاجة إلى الرعاية الحرجة". وعلى الرغم من أن تاج الدين قال "إن زيادة الإصابات غير مصحوبة بارتفاع أعداد الوفيات"، إلا أنه أشار إلى أن الإصابات العائلية كثيرة وعلى الجميع الحذر البالغ.
استشراف شعبي
لكن الحذر البالغ لم يعرف بعد طريقه إلى غالبية المصريين. كثيرون يتخذون من السياسات والقرارات المتبعة على أصعدة أخرى مقياساً لهم يخبرهم بمدى خطورة الموقف، ويستشرفون به حقيقة الوضع الوبائي. تقول بسنت السيد (34 سنة) (ربة منزل)، "لو كانت الإصابات خطيرة وتتزايد لصدر قرار إغلاق المدارس كما فعلت الحكومة في بداية الوباء. ولأغلقوا دور السينما والمقاهي وغيرها. وبصراحة شديدة، مللت وتعبت من هذه الإجراءات السخيفة، وربنا يستر".
ستر ربنا مع عدم اتباع الإجراءات "السخيفة" لا يتواءمان. المتابع للشارع المصري يجد أن الإجراءات "السخيفة" تكاد تكون غائبة تماماً، وتتمثل في ارتداء الكمامة أعلى الأنف وليس أسفله، وتطهير اليدين مراراً وتكراراً وليس حسب التساهيل، وغسلهما بالماء والصابون لمدة لا تقل عن 20 ثانية وليس ثانيتين، والتباعد الجسدي وليس التلاصق أو التقارب، والامتناع عن القبل والأحضان ولو كانت من خلف الكمامات.
كمامات الأسرة
ومن خلف تل علب الكمامات المرصوصة على هيئة جبل في مدخل السوبرماركت الشهير وقف مندوب المبيعات يدعو المتسوقين والمتسوقات إلى قبول العرض الرائع. علبة كمامات هدية مع شراء هذا الصابون أو تلك القهوة أو هذه التوابل. قبل عام واحد فقط من عمر الوباء، كانت سوقاً سوداء قد نشأت وازدهرت واحتكرت مبيعات الكمامات والمطهرات. وكانت الصيدليات تضع حداً أقصى لعدد الكمامات التي يمكن أن يشتريها الشخص الواحد. وكانت الابتكارات الشعبية الأصيلة قد بدأت تتفجر من رحم الأزمة، حيث يذهب وليد إلى الصيدلية لشراء ثلاث كمامات، يعقبه حسام، ثم شيماء، وقبلهم يكون كل من "بابا" و"ماما" قد حصلا على الكمامات الثلاث المسموح بها. اليوم تتراص الكمامات لا تجد من يشتريها.
شراء مستلزمات المدارس كذلك في مثل هذا الوقت من العام الماضي، استوجب ضم "قناع بلاستيكي للوجه" وعشرات عبوات مطهرات الأيدي وصابون وكمامات، لكن هذا العام عادت الكراسات والأقلام وحقائب "باتمان" و"سوبرمان" و"سبايدر مان" و"باربي" لتحتل صدارتها الموسمية.
حتى الباعة الذين يفترشون الأرصفة، الذين أفسحوا جانباً من الرصيف للكمامات القماش التي تستخدم مرات كثيرة عادوا وأحالوها إلى الصفوف الخلفية في ضوء قناعة شعبية تتأرجح بين "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" و"لقد تغلبنا على كورونا".
هزيمة كورونا؟
التغلب على كورونا والانتصار عليها وإلحاق هزيمة نكراء بها "جرائم" يرتكبها البعض من ضيوف القنوات الفضائية ربما بحسن نية. فبين محاولات تهدئة روع المواطنين ومحاولات ضمان رضا المسؤولين، يمعن البعض من الأطباء و"محللي" الأخبار ممن تستضيفهم قنوات تلفزيونية أو صحف أو مواقع خبرية ليدلوا بدلوهم في شأن الوباء، يطلقون أنباء الهزيمة النكراء للوباء، وهو ما يؤتي نتائج عكسية تماماً. أحد هؤلاء ظهر على قناة فضائية قبل أيام وقال "إن مصر قادرة على تخطي الموجة الرابعة للوباء". ودلل على كلامه بقوله، "مصر تغلبت على ثلاث موجات من فيروس كورونا، والرابعة ستلحق بها".
وحيث إن "التساهيل علامة الإذن"، فإن بدء مصر في خطتها الطموحة لإنتاج نحو مليار جرعة لقاح "سينوفاك" المضاد للفيروس من خلال مصنعين في القاهرة، بحسب ما أعلنت وزيرة الصحة والسكان هالة زايد قبل أيام، جعل البعض يشعر أن وضع الفيروس تحت السيطرة تماماً، ومن ثم لا داعي للقلق. همام حسين (موظف متقاعد) يزف البشرى لأصدقائه بينما يقرأ تفاصيلها في الجريدة، ثم يؤكد لهم أن هذا لا يعني سوى أن وضع الوباء تحت السيطرة تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنتاج ملياري وسيطرة
الربط بين الإنتاج الملياري للقاح والسيطرة على وضع الوباء ونوايا انتشاره وتحوراته أشبه بالربط بين "الشلولو" (وجبة مصرية عتيقة تتكون من الملوخية والليمون والفلفل الحار) والوقاية من كورونا. وكان "الشلولو" قد سرى سريان النار في الهشيم في بدايات الوباء في مصر، حين ظهر متخصص تغذية في برنامج تلفزيوني مؤكداً أن "الشلولو" مهم جداً للوقاية من الأمراض والفيروسات لا سيما كورونا.
ارتفاع منحنى
جائحة كورونا التي يشهد منحناها في مصر ارتفاعاً واضحاً تجد مقاومة عتيدة من قبل المصريين. لكنها مقاومة لفكرة الوقاية، وليس مقاومة الفيروس. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وعلى الرغم من إصدار الهيئة القومية للأنفاق والشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق تحذيرات صارمة في شأن اتباع الإجراءات الاحترازية من قبل الركاب، إضافة إلى الخطوات التي تتخذها للتعقيم الكامل لعربات المترو والمحطات، في ضوء بدء الموجة الرابعة من الوباء، إلا أن واقع الحال في محطات المترو وعرباته تشير إلى غياب شبه كامل للإجراءات المطلوبة من تباعد وكمامات بين الركاب. وعلى الرغم من ظهور عمال التطهير في المحطات وقيامهم بتطهير أرجائها، إلا أن التعليمات باتباع الإجراءات الاحترازية والتحذير من توقيع غرامة قدرها 50 جنيهاً (3.18 دولار أميركي) على من لا يرتدي الكمامة عبر الإذاعة الداخلية، إلا أن لسان حال الركاب هو "ربنا هو الحامي".
الحماية الإلهية لا تتطلب فقط إجراءات احترازية غائبة، بل تستوجب تطعيماً لأكبر عدد ممكن من المواطنين والمقيمين. وحتى أمس وصل عدد جرعات اللقاح التي أخذها المواطنون 9.39 مليون جرعة. وبلغ عدد من تم تلقيحهم بالجرعتين 3.21 مليون شخص بنسبة 3.2 في المئة من المصريين، وهي نسبة قليلة للغاية.
جاهز بكمامتي
قلة النسبة لها أسباب كثيرة تتراوح بين الخوف من تلقي اللقاح والاستهانة بالفيروس وافتقاد الثقة في أن القيام بالتسجيل على الموقع المخصص للتطعيم سيسفر عن تحديد موعد وتلقي اللقاح بالفعل، إضافة إلى التسويف. بهدوء شديد وسكينة يحسد عليها، قال أيمن مشعل (سائق أجرة) الذي يعلق كمامته على مرآة السيارة، "باكر أو بعد باكر سأسأل". لكن المسألة لا تحتاج سؤالاً. تحتاج حجزاً من طريق الموقع الإلكتروني. يقول بالهدوء نفسه والسكينة ذاتها، "باكر أو بعد باكر سأحجز". وهل لديك وسيلة اتصال بالإنترنت على هاتفك؟ أجاب بالنفي. فكيف ستحجز إذاً؟ قال بهدوئه وسكينته، "باكر أو بعد باكر سأسأل أحد أصدقائي ممن لديهم اتصال بالإنترنت". أما سبب تعليق الكمامة على مرآة السيارة، قال بابتسامة عريضة، "لو عادت الشرطة لحكاية توقيف السيارات التي يرتدي من فيها الكمامة أكون أنا جاهز بكمامتي". ومنذ متى وهذه الكمامة معلقة هنا؟ قال، "منذ بداية الموجة الثالثة".
موجات وهبات
بداية الموجة الثالثة وقبلها الثانية وسبقتها الأولى شهدت حملات مكثفة وهبات مباغتة على أصعدة التوعية الإعلامية والتغطية الخبرية وتطبيق الغرامات الفورية على المخالفين للإجراءات الاحترازية، وهي الحملات التي تبدأ شديدة عتيدة ثم تسكن وتهمد. والمتوقع أن تبدأ موجة جديدة من الزخم الرسمي في ما يختص بكورونا التي تسن أسنان موجتها الرابعة مكتفية حتى اللحظة بمتحورة "دلتا" وتترقب "مو" بحذر ووجل.
المعلومات الصادرة عن اللجنة العلمية لمكافحة فيروس كورونا تشير إلى أن الإجراءات الاحترازية يجب اتباعها في جميع الأحوال، سواء كان هناك تحورات جديدة أو موجات حديثة، وسواء كان الشخص حاصلاً على التطعيم أم لا. كما تشير اللجنة إلى أن المتحور "مو" لم يصل إلى مصر بعد، وأن المعلومات المتاحة عنه هي تلك التي ترد من الدول التي وصلها.
أعداد ومقارنات
بيان وزارة الصحة والسكان، أمس الجمعة، أشار إلى تسجيل 318 حالة جديدة ثبتت إيجابية تحاليلها معملياً، إضافة إلى 11 وفاة. يبدو عدد الإصابات قليلاً مقارنة مع دول أخرى تعلن آلاف الإصابات. لكن مقارنة مع أيام سابقة لم تتعد فيها الإصابات بعض عشرات، فإن الزيادة واضحة. كما أن آخرين يصابون بالفيروس ولا يلجأون إلى التحليل المعملي أو حتى الطبيب.
المتحدث باسم وزارة الصحة والسكان خالد مجاهد يقول، "إن إجمالي العدد الذي تم تسجيله إصابته بفيروس كورونا حتى أمس هو 289 ألفاً و353 شخصاً، شفي منهم 240 ألفاً و976 شخصاً، وتوفي 16 ألفاً و766 شخصاً". ويأمل البقية في الشفاء.
أمل الشفاء ومعه رجاء الوقاية وتمني النجاة لن تتحقق إلا في حالتين لا ثالث لهما، انتهاء الوباء، والعودة واستدامة الاحتراز. وحيث إن الأولى في علم الغيب، كما تؤكد منظمة الصحة العالمية في إفاداتها اليومية حتى اللحظة، فإن الأخيرة هي المتاحة. ومع تكشير الموجة الرابعة عن أنيابها، واستمرار الأريحية الشعبية في كنف الفيروس، فإن هذا في الأغلب سيؤدي إلى فرض رسمي قريب للإجراءات الاحترازية بالغرامات والمخالفات.
عودة غير معلنة
وعلى الرغم من عدم صدور تصريحات رسمية بعد في شأن عودة تطبيق الإجراءات الاحترازية الحازمة والحاسمة لاحتواء الموجة الرابعة، فإن التقرير المقدم من وزيرة الصحة هالة زايد لمجلس الوزراء المصري قبل أيام، يشير إلى زيادة عدد الحالات، وتزايد المترددين على المستشفيات مع خطورة متحورة "دلتا" واحتمالات الوفاة التي يأتي بها نظراً لتأثيره على القلب والرئتين، وما يؤكده مستشار الرئيس للشؤون الصحية والوقائية محمد عوض تاج الدين من خطورة المتحور الجديد مع توقع وصول الموجة ذروتها في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، تزامناً مع دخول المدارس والجامعات، جميعها عوامل تجعل توقع العودة إلى فرض إجراءات احترازية حازمة منطقياً. المنطق يقول إن ارتفاع منحنى الإصابة حين يصاحبه انخفاض الوعي والاهتمام، فإن ذراع القانون وأيادي الاحتراز الإجباري يجب أن تتدخل لحين ضبط المنحنيات.