ارتفعت أسعار الغاز حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، أكبر منتج ومستهلك للغاز، ومن أكبر المصدرين في العالم. فقد ارتفعت أسعار الغاز من نحو 2.50 دولار لكل مليون وحدة حرارية في شهر مارس (آذار) الماضي، إلى نحو 4.75 دولار أخيراً (الحديث عن سعر الغاز المعياري المعروف بـ"هنري هب"). أما أسعار الغاز المسال في الأسواق الآسيوية، فقد ارتفعت بأكثر من ثلاثة أضعاف في الأشهر الخمسة الأخيرة، وتجاوزت 20 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية أخيراً.
لهذا الارتفاع انعكاسات عديدة، إلا أن البعض يرى أن هذا الارتفاع سيستمر، وقد ترتفع أسعار "هنري هب" إلى سبعة أو ثمانية دولارات لكل مليون وحدة حرارية. هذا الارتفاع الكبير ستكون له آثار كبيرة حول العالم، لدرجة أن أزمة الغاز ستكون أكبر خطر على العالم من أي أزمة نفطية قادمة. وعلى الرغم من أنني أعتقد أن سيناريو الارتفاع لن يحصل لأنه ليس هناك ما يدعمه، فإن عدداً لا بأس به من الخبراء وتجار الغاز يعتقدون أن الأسعار سترتفع وستبقى في تلك المستويات لفترات طويلة. وسأناقش في هذا المقال بعض الآثار المحتملة لهذا الارتفاع الكبير، على الرغم من أنني شخصياً غير مقتنع، حسب المعطيات الحالية، باحتمالية هذا السيناريو.
المثير في الأمر أن السبب الرئيس للأثر الكبير عالمياً هو تخلص الدول المتقدمة من محطات الكهرباء العاملة بالفحم والطاقة النووية، في الوقت الذي لن تفي فيه الطاقة المتجددة باحتياجات هذه الدول، وهو السبب نفسه الذي جعل البعض يعتقد أن أسعار الغاز ستستمر بالارتفاع وستبقى في مستويات عالية، وهو السبب نفسه الذي يجعلني أقتنع أن أسعار الغاز لن ترتفع كما يقول هؤلاء، وأن أي ارتفاع، ولأي مستوى، سيكون لفترة وجيزة فقط.
كيف يمكن شرح هذا التناقض؟ أعتقد جازماً، وبناء على أدلة تاريخية كثيرة، أن ارتفاع تكاليف توليد الكهرباء أو أي عجز في الإمدادات سيجعلان أعتى المنادين بمحاربة التغير المناخي يعودون لتشغيل محطات الفحم والطاقة النووية بحجة أنه تشغيل مؤقت لتفادي الأزمة، ومن ثم فإن الطلب على الغاز سينخفض، وتنخفض معه الأسعار. بالنسبة إلى السوق الأميركية، أعتقد أيضاً بأن التحول من الغاز إلى الفحم في الفترة الأخيرة مع ارتفاع أسعار الغاز لم ينته، وأن هناك مجالاً لمزيد من التحول، الأمر الذي يخفض الطلب على الغاز. كما أن صادرات الغاز المسال قد تنخفض، ليس فقط بسبب انخفاض الطلب عليه نتيجة ارتفاع الأسعار، ولكن أيضاً بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات. فضمن نطاق سعري معين للفرق بين أسعار "هنري هب" والغاز المسال في آسيا وأوروبا لا يمكن تصدير الغاز المسال الأميركي غير المتعاقد عليه، ومن ثم سيتحول هذا الغاز من التصدير إلى الأسواق المحلية فتزيد الإمدادات. إضافة إلى ذلك، فإن كندا تستطيع تصدير المزيد من الغاز للولايات المتحدة، ما يزيد من الإمدادات أيضاً ويضغط على الأسعار. أضف إلى ذلك أن منتجي الغاز الصخري يستطيعون البدء بإضافة كميات كبيرة من الغاز خلال أربعة أشهر.
ولكن بفرض أنني كنت مخطئاً، أو أن الطلب فاق التوقعات على الرغم من كل ما ذكر أعلاه، وارتفعت الأسعار، وبقيت في مستويات عالية، ما أثر ذلك عالمياً؟
كل البيانات والأخبار تشير إلى تحول العديد من الدول من الغاز إلى الفحم والنفط، والذي يعني بالضرورة زيادة انبعاثات الكربون، في الوقت الذي يهدفون فيه إلى تخفيض انبعاثات الكربون! التحول لا يحصل في الدول المستهلكة فقط، وإنما أيضاً في الدول النفطية المصدرة للغاز، بخاصة أن سعر الغاز المسال أعلى من سعر النفط، بناءً على كمية الوحدات الحرارية، ما بين 20 و40 في المئة حالياً في الأسواق الفورية. هذا يعني أن الدول النفطية المصدرة للغاز تحقق وفورات مالية إذا عادت إلى حرق زيت الوقود في محطات الكهرباء.
الغاز المسال
ويتضح من التطورات الأخيرة أن الدول المستوردة للغاز التي تخلصت من عقود الغاز المسال الطويلة المدة، وهي العقود المرتبطة بأسعار النفط، لصالح الشراء من الأسواق الفورية، ستدفع ثمن سياستها الخاطئة غالياً. وتأتي الهند في مقدمة هذه الدول إذ اشتكت دائماً من ارتفاع أسعار النفط، الذي رفع معه أسعار الغاز المسال، وضغطت على قطر إما لإنهاء العقود وإما لتغييرها للحصول على عقود أفضل، وقررت الشراء من الأسواق الفورية لأن الغاز المسال كان أرخص، وافتخر المسؤولون بنجاحهم الباهر، على الرغم من تحذيرات الخبراء من عدم التفاؤل المفرط وضرورة التعامل مع ملف واردات الغاز المسال كأنه ملف استثماري طويل المدى أحد أهدافه الرئيسة تقليل المخاطرة. ثم ضغط المسؤولون على الشركات الهندية لتفادي استيراد النفط والغاز من دول الخليج، والتركيز على الشراء من دول أخرى، ومن الأسواق الفورية، فارتفعت أسعار النفط الفورية، ودفعوا الثمن غالياً. وها هي ذي الصفعة الآن تأتي من أسعار الغاز. وإذا ارتفعت أسعار الغاز كما يتوقع البعض، فإن الهند ستكون أكبر الخاسرين، وسيندم المسؤولون على عدم توقيع المزيد من العقود الطويلة المدى مع قطر وغيرها.
باختصار، ارتفاع أسعار الغاز عالمياً لا يؤثر في أسعار الغاز في العقود الطويلة المدى سواء كان عبر أنابيب أو غازاً مسالاً، وإنما يؤثر في أسعار الغاز الفورية غير المرتبطة بعقود طويلة المدى.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، هناك نوعان من عقود صادرات الغاز المسال: الأول هو عقد إيجار، إذ إن محطة الغاز المسال تُسيل الغاز مقابل أجر، بينما تشتري الشركات العالمية، غالباً شركات كهرباء في آسيا، الغاز الأميركي بسعر السوق، ثم تدفع إيجار التسييل، ثم تنقل الغاز المسال إلى محطاتها الكهربائية في اليابان أو كوريا الجنوبية أو الصين، أو غيرها. هذه الشركات مرتبطة بعقود طويلة المدى مع محطات التسييل الأميركية بسعة معينة، سواء قامت الشركة بتسييل الغاز أم لا. بعبارة أخرى، الشركات تستأجر سعة تسييل، بغض النظر عما إذا تم التسييل أم لا. في هذه الحالة، فإن الشركات ستستمر بشراء الغاز الأميركي وتسييله طالما أن سعر الغاز في الدول الآسيوية يغطي كل التكاليف. الأسعار الحالية للغاز في آسيا مغرية لهذه الشركات، لذلك فقد نرى زيادة في صادرات الغاز المسال الأميركية "المتعاقد عليها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من ناحية أخرى، هناك محطات لم توقع عقود لكل سعتها، ومن ثم تستطيع هي نفسها شراء الغاز وتسييله وبيعه في الأسواق الفورية. وضعها مثل الشركات الآسيوية: الأسعار الحالية مغرية، ومن ثم ستُصدر المزيد من الغاز المسال.
المشكلة أن بعض هذه الشركات الآسيوية قد تجد أنها تحقق أرباحاً أكثر لو أعادت بيع الشحنات إلى شركات أو دول أخرى في الأسواق الفورية، بخاصة إذا كانت تستطيع استخدام الفحم والنفط. فيزيد المعروض في السوق الفورية، ويضغط على الأسعار.
المشكلة أن عدداً من الدول التي تشتري الغاز المسال من الأسواق الفورية توقفت عن شراء الغاز المسال وتحولت إلى الفحم والنفط، ومن ثم فإن الطلب على الغاز المسال غير المتعاقد عليه ينخفض، وهذا بدوره سيخفض الأسعار.
المشكلة الكبرى أن ما ذكر أعلاه يؤدي في النهاية إلى زيادة انبعاثات الكربون، على عكس ما تريد الدول المتقدمة.
ارتفاع أسعار الطاقة
نظراً إلى التحول من الغاز إلى الفحم في محطات الكهرباء في الولايات المتحدة ودول كثيرة، فقد ارتفعت أسعار الفحم بشكل كبير، وزاد الطين بلة حظر الصين استيراد الفحم من أستراليا، وزيادة استيراده من الولايات المتحدة. الآن لنستحضر المشهد: ارتفاع أسعار النفط والغاز والفحم، في وقت لا تستطيع الطاقة المتجددة أن تفي بالتزاماتها مع ارتفاع درجات الحرارة (ارتفاع الحرارة يعني عدم وجود رياح، ومن ثم فإن طاقة الرياح لا تجدي، كما أن الطاقة الشمسية لا تنفع ليلاً). نتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الكهرباء إلى مستويات تاريخية في عدة دول. لهذا الارتفاع نتائج اقتصادية عديدة، أهمها ارتفاع التكاليف والتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، وقد يؤدي في النهاية إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
لنستكمل المشهد: ما وصف أعلاه هو الوضع الحالي، وأسعار "هنري هب" أقل من خمسة دولارات، وأسعار الغاز المسال في الأسواق الفورية وصلت إلى 20 دولاراً، فما بالك لو ارتفعت أسعار "هنري هب" إلى سبعة- ثمانية دولارات، وتجاوزت أسعار الغاز المسال 25 دولاراً؟ ماذا سيحصل للاقتصاد العالمي؟ وعندما يتم التحول إلى مزيد من الفحم والنفط، ماذا سيحصل لانبعاثات الكربون؟
ولكن المشهد لن يكون كاملاً إلا إذا نظرنا إلى مصدري الغاز: المستفيد الأكبر من الارتفاع الشديد في أسعار الغاز هو الشركات والدول المصدرة، التي لم ترتبط بعقود طويلة المدى تم فيها ربط أسعار الغاز بالنفط، أو أن جزءاً من صادراتها غير مرتبط بهذه العقود. وبناء على ذلك، فإن ارتفاع أسعار الغاز لا يعني بالضرورة استفادة كبار مصدري الغاز والغاز المسال، وذلك لأنهم ارتبطوا بعقود طويلة المدى وهذه العقود أغلبها مربوط بأسعار النفط. وهنا يبرز دور مصر والغاز المصري يليه الغاز الليبي. من جانب آخر، فإن إيران لن تستفيد من الارتفاع الأخير في الأسعار لعدم استطاعتها تصدير الغاز إلى دول أخرى، بخاصة باكستان والهند. باختصار، ستستفيد هذه الدول من تصدير الكميات غير المرتبطة بعقود طويلة المدى.
الغاز والسياسة
وفي هذا الصدد، فإنه من الواضح أن تركيا ستستفيد من سفنها التي تستخدم كمحطات كهرباء حول العالم، والتي تستخدم المنتجات النفطية وقوداً، لأن أسعار الكهرباء ستكون منافسة جداً في ظل أسعار غاز مرتفعة. كما تستفيد بسبب عقودها مع دول آسيا الوسطى، بخاصة تركمانستان. والأهم من ذلك كله، أن ارتفاع أسعار الغاز سيجعل الاستثمار في حقول الغاز التركية التي يتم تطويرها حالياً أكثر جدوى. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما مصير الصراع على غاز شرق البحر المتوسط إذا ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي لفترات طويلة؟
وهنا سؤال ثان: في ظل الارتفاع المستمر في أسعار الغاز، ماذا سيحصل للمشروع الأميركي المقترح بشأن توفير الغاز المصري لكل من لبنان والأردن، بحيث يقوم الأردن باستخدام جزء من الغاز المصري ثم تصدير الكهرباء للبنان عبر سوريا، بينما يتم تصدير الغاز المتبقي عبر الأردن وسوريا إلى لبنان؟
والسؤال الثالث والأهم: هل سيؤدي ارتفاع أسعار الغاز الكبير لفترة طويلة من الزمن إلى اتفاق دولي على تحقيق الاستقرار في أفغانستان لنقل الغاز التركماني إلى باكستان والهند، وربما الصين، عبر أفغانستان؟
خلاصة القول إن لسيناريو أسعار الغاز المرتفعة آثاراً اقتصادية وسياسية كبيرة، ليس لأنه يؤثر في إمدادات الكهرباء والنمو الاقتصادي فقط، ولكن لأنه يؤدي إلى زيادة انبعاثات الكربون بشكل كبير، في الوقت نفسه الذي ستنعقد فيه قمة المناخ! وما ذكر أعلاه هو غيض من فيض.