سأتحدث هنا عن التطرف الديني في البلدان العربية والمغاربية وظلاله على العالم. في البدء يجب أن نقر بأن التطرف الديني لا يعرف الجغرافيا ولا التاريخ، إنه مرض عابر للقارات وللأزمنة أيضاً. يظهر التطرف الديني ويزدهر كلما غاب الحوار الفكري الحر، وغاب الاجتهاد الشجاع.
حين يبدأ المثقف ومن خلفه المجتمع في تفسير كل شيء بالدين، في البحث عن كل شيء في الدين، الرياضيات والفيزياء والملاحة الجوية والذرة ومرض السرطان وتركيبة الباراسيتامول، فاعلم أن المجتمع هذا يغرق في خطاب أعمى ومغلق ولن يؤدي إلا إلى التشدد والانغلاق وإنتاج كراهية ثقافات الآخرين، وهو في ذلك يسيء للدين نفسه.
حين تعلم المدرسة الأطفال في سن الحضانة كيفية تغسيل الميت وزيارة المقابر وطرق الذبح وصلاة الجنازة والطلاق والفتوحات فاعلم أننا نهيئ لجيل متطرف سيجعل الدم ماء، والآخر عدواً والحياة كذبة، والعيش معاً في سلام سذاجة.
حين تنشر دور النشر عندنا كتباً عن عذاب القبر للأطفال وواجب القتال ضد غير المسلمين وأن المرأة عورة وجهاد النكاح، فاعلم أن الحقل الثقافي ميدان آخر للتطرف لا فضاء للحرية والتعدد والتسامح.
حين يرفض رياضي جزائري إجراء مقابلة مع لاعب آخر لا لشيء إلا لأن خصمه من دولة استعمارية هي إسرائيل التي تغتصب فلسطين، يحدث هذا في محفل رياضي عالمي حيث القانون الأساسي لهذا المحفل هو فصل الرياضة عن السياسة، ومحاولة جعل الرياضة طريقاً للتعايش بين الشعوب، فاعلم أن التطرف حالة ذهنية وبنيوية تمس القطاعات كلها، والأخطر من ذلك حين تقرر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي جمعية لها وزنها التاريخي، تكريم هذا اللاعب المنسحب من المنافسة بوسام غريب، فهذا تكريس للتطرف وتبريره بالدين الذي يزرع الألغام في حقل الرياضة التي من المفروض أن تكون واحدة من الممارسات التي تنشد السلم والتعايش بين الشعوب والديانات... والنتيجة هي منع هذا الرياضي الشاب الطموح من المشاركة في كل التظاهرات الدولية لمدة عشر سنوات، وهو القرار الذي اتخذه الاتحاد الدولي للجودو، بهذا المعنى يكون التطرف قد قضى على مستقبل رياضي كان يمكنه أن يسجل اسمه واسم الجزائر عالياً.
إن التطرف هو مرض الدين بالسياسة، إصابة الدين بفيروس السياسة المفتوحة على العنف والتشدد ورفض الآخر، وهو مرض صاحب الإسلام منذ وفاة الرسول (ص) وبداية الصراعات على السلطة السياسية وزج الدين فيها عن طريق تجنيد بعض الفقهاء لتبرير هذا الموقف من هذا الخليفة أو ذاك. يصنع الإعلام التطرف ويغذيه حين يجعل من الشيطان ملاكاً، ولا نعني بالإعلام هنا ذلك الإعلام التابع بشكل مباشر للجماعات المتطرفة أو الأيديولوجية، فذاك يدخل في باب الدعاية المباشرة والتجييش العلني وهو مكشوف الرسالة، ولكن الأخطر من ذلك هو حين يمرر هذا الخطاب المرافع عن المتطرف في إعلام يتظاهر بالموضوعية والحرفية ومرات كثيرة يكون تابعاً لنظام سياسي يدعي الدفاع عن قيم الجمهورية وحقوق الإنسان.
التطرف الفكري مصدر الإرهاب الجسدي
لمواجهة التطرف يجب محاربته في منابعه الفكرية والأيديولوجية والتربوية التي تُغرق العالم العربي والمغاربي. وللدخول في المعركة ضد التطرف الفكري والديني علينا أن نقتنع بأن التطرف ليس قدراً، إنه برنامج تعليمي وثقافي وتربوي وإعلامي. لذا أول ما يجب العمل عليه على المستوى الإسلامي هو التفكير في عقد ملتقى لمفكرين أحرار من مختلف التخصصات: الدينية (جميع الديانات) والفلسفية والاجتماعية والنفسية واللغوية والأمنية لمناقشة، وبكل جرأة، البرامج التي تُدرس في مؤسسة الأزهر الشريف، بوصفه المرجعية الأكثر تأثيراً في الثقافة الدينية في العالم الإسلامي السني، في باب العقيدة وفروعها، فإذا لم نذهب مباشرة إلى مؤسسة هي مركز توزيع الفكر الإسلامي، وإعادة النظر في ما يُقدَم لأجيال مطالبة بالعيش في زمن غير زمن غابر مليء بخلافات الأئمة وما نتج عن ذلك من سجالات تورط المسلم اليوم في أمور هامشية تبعده عن صناعة مستقبل ناجح لبلده ولنفسه وتوصله إلى باب مسدود وإلى حيرة أيديولوجية ترمي به في فم الغول مباشرة، فم الغول الذي هو التطرف السياسي والديني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولإصلاح هذه المؤسسة علينا أن نؤمن أولاً بأن الدين هو مسألة فردية، علاقة تربط المؤمن بربه مباشرة، وأنه لا وصاية على الإيمان، ووحده الله، تبارك وتعالى، هو من يدرك ويحاسب ويقيّم درجة إيمان الفرد أو غير ذلك، ويجب علينا إدانة أصحاب الفتاوى التكفيرية الذين يقومون بمهمة هي من اختصاص الله، تبارك وتعالى، وحده.
إن تاريخ التطرف وما نتج عنه من تكفير في العالم العربي وما ترتب عنه في الأربعة عقود الأخيرة من مآس وتخريب أوطان واغتيال وملاحقة المفكرين والأدباء يؤكد أن محاربة التطرف يجب أن تنطلق من تفكيك المنابع الفكرية له، ليس بشكل أمني فقط إنما بطريقة إعادة النظر في منظومتنا التعليمية والإعلامية، وهذا هو الأساس.
أن يتم اغتيال فرج فودة وحسين مروة وعبد القادر علولة ومهدي عامل والطاهر جاووت وشكري بلعيد ومحمد البراهمي... وينجو نجيب محفوظ بأعجوبة ويخرج بعاهة مزمنة من محاولة اغتيال والقائمة طويلة، كل هذا ليس قدراً إنما هي عمليات إجرامية حدثت بفعل فاعل أيديولوجي متطرف أولاً، والفاعل هنا هو ضحية تلك الفتاوى التكفير التي أطلقها كثير من "الدعاة المتطرفين" فالتقطتها العامة وطبقت ما قيل لها في خطب المساجد وفي وسائل الإعلام.
أن نسمع بالدعوة إلى طرد تونس من حظيرة مؤتمر الدول الإسلامية لأنها دعت إلى التساوي في الإرث بين المرأة والرجل في ظل نقاش مجتمعي فكري اجتهادي، فهذا يدل على أن التطرف يضرب أيضاً استقرار الدول، وخلق الفتنة ما بين أبناء البلد الواحد.
تتحمل أيضاً كثير من الدول الأوروبية مسؤولية إنعاش التطرف الإسلامي وحمايته وجمركته سياسياً، وذلك من خلال استقبال كثير من قادة التطرف على أراضيها، بعد أن تتم ملاحقتهم في بلدانهم الأصلية، استقبال واحتضان يتم تحت شعار "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" و"حرية الرأي" وما إلى ذلك، إن التطرف ليس برأي، إنه مرض فكري يجب محاربته. يتم استقبال هؤلاء المتطرفين الملاحَقين في بلدانهم من قبل بعض الدول الغربية لاستعمالهم كورقة ضغط على بعض الأنظمة العربية والمغاربية. ويذكر كثيرون ما حدث في فرنسا في عهد الرئيس فرانسوا ميتران حين استقبل عدداً من قادة "الفيس" (الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة) المتطرفين من العسكريين والأيديولوجيين الذين كانوا وراء القتل والدمار في الجزائر.
ويبدو أن السحر انقلب على الساحر، فما تعيشه اليوم للأسف كثير من الدول الأوروبية التي استقبلت في الماضي هذه المجموعة من المتطرفين، من ممارسات تهدد قوانين الجمهورية فيها وتدعو بوضوح إلى تفكيك لحمة المجتمع الأوروبي الذي احتضنها، وتشن حرباً ضد العلمانية التي وفرت لهم هامش حرية ممارسة الحياة الدينية الخاصة بهم، وقد وصل التطرف بهم إلى تجنيد مواطني هذه الدول وإرسالهم إلى معسكرات الحرب الإرهابية في سوريا والعراق وأفغانستان... أمام هذا الوضع المعقد والمتداخل يجعلنا نقول إن التطرف لا جغرافية له، لقد أصبح، إن من الناحية الأيديولوجية أو الأمنية، معضلة عالمية لا يمكن حلها جهوياً أو إقليمياً أو وطنياً.