قبالة شاطئ بحر غزة، وأمام تضارب الأمواج، يعكف خالد وفريق عمله على قص جذوع شجر "الكينا" لتحويلها إلى أخشاب صالحة لهيكل سفينة عملاقة شرع في بنائها، الإرهاق نتيجة ضغط العمل المتواصل بالأدوات البسيطة التي يستخدمونها بات واضحاً على وجوههم، إلا أن نسمات الهواء العليل المندفعة مع تجدد موج البحر تعيد إليهم الهدوء والتركيز.
15 عاماً مضت على آخر قارب صنعه خالد، إلا أن الخبرة المتراكمة عن 40 سنة من العمل سابقاً، بدت واضحة في دقة وحرفية يديه، وهو يطرق على ألواح الأخشاب التي شكلت جسم السفينة ليتأكد من قوتها في مواجهة تضارب الأمواج.
إحياء مهنة مندثرة
السفينة التي صممت بعرض ستة أمتار، وطول 21 متراً، أحيت مهنة صناعة القوارب التي اندثرت كلياً في قطاع غزة، بعد تراجع حرفة الصيد نتيجة العراقيل الإسرائيلية المفروضة على البحر ومنع استيراد المعدات الخاصة بإصلاح أو تدشين السفن.
بشغف يعمل فيها خالد، إذ تفتح له فيضاً من الذكريات يكتنزها صانع القوارب الذي بقي وحيداً في هذه المهنة، بعد اندثارها بسبب نقص المعدات وارتفاع أسعار الأخشاب، فضلاً عن قلة الطلب بعد انخفاض أعداد الصيادين.
ونتيجة لذلك، استمر الحرفيون بالانسحاب من هذه المهنة تدريجاً، يقول خالد إنه لا يذكر بالتحديد عدد المراكب التي صنعها في حياته، لكن هذا كان قبل تقييد السلطات الإسرائيلية على الصيادين، الذي جعل عمله مجرد خيالات في الذاكرة، مؤكداً أنه يصر على التمسك بحرفة بات هو سر بقائها إلى اليوم.
أكبر سفينة
السر الذي يحمله خالد، دفعه إلى أن يكون المشرف الرئيس على تدشين أكبر قارب في القطاع، وفي حين تحتاج السفينة إلى مخططات هندسية ومصممين وأنظمة مراقبة واتصالات كما في المصانع العالمية، فإن "المقاييس الغزاوية" مرسومة بالكامل في عقله، فهو المخطط والمصمم والمنفذ.
اختار خالد أخشاب "الكينا" لصناعة السفينة، لكن بالكاد تتوافر في قطاع غزة الذي بات مكتظاً بالسكان ويفتقر إلى الأراضي المشجرة، يقول خالد إن فكرة هذا القارب تعيش معه منذ نحو 20 عاماً، وعلى مداها عكف على تجميع جذوع وسيقان شجر "الكينا"، بعد تعثر كل محاولات استيراده عبر المعابر التي تتحكم فيها إسرائيل.
وبالذات هذا الشجر يحتاج خالد إلى خشبه، فهو مقاوم للماء ويستطيع التحمل لسنوات طويلة أثناء الإبحار، بخاصة أن القارب الذي يعكف على صناعته منذ ستة أشهر يعد الأكبر في قطاع غزة، ومخصص لرحلات الصيد التي تستغرق نحو أسبوع في غمار البحر.
على متن السفينة الكبيرة يعلق خالد و15 صياداً آخر آمال كبيرة، فتصميمها يعد جديداً على القطاع، إذ من المقرر أن توجد بها غرفة لمبيت الصيادين بالإضافة إلى ثلاجات كبيرة، ومعدات أخرى لصيد الأسماك الكبيرة، فالمخطط لها أن تبحر في رحلة صيد طويلة نسبياً بالنسبة إلى صيادي غزة الذين اعتادوا نزول البحر لساعات فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فالصيادون في غزة يتعرضون بشكلٍ يومي إلى انتهاكات إسرائيلية في البحر، تتمثل بالاعتقال وإطلاق النار ومنع الصيد ومصادرة المراكب، إضافة إلى تحديد مساحات محددة للإبحار والعمل فيها.
معوقات
قرار إسرائيل السماح للصيادين بالإبحار حتى 15 ميلاً بحرياً، الذي جاء ضمن التسهيلات الأخيرة لقطاع غزة عقب وقف القتال في مايو (أيار)، شجع خالد على تسريع إنهاء بناء القارب، إلا أنه صدم في عدم السماح له باستيراد محركه والمولد الخاص لتشغيله وكشافات الإنارة وشباك الصيد الجديدة، وحتى مادة "الفيبر غلاس" (الليف الزجاجي) المستخدمة لسد الفراغات بين الأخشاب، يقول إنه يحتاج إلى محرك ومولد بقوة 500 حصان لكنه لم ينجح في استيراد أي معدات خاصة لتشغيل المركب.
يقول مسؤول الصيادين في اتحاد لجان العمل الزراعي، زكريا بكر، إن صناعة السفن متوقفة بسبب ارتفاع التكلفة وتراجع المهنيين العاملين في مجال الصيد، مشيراً إلى أن السلطات الإسرائيلية تفرض قيوداً مشددة على إدخال المحركات القوية المستخدمة في القوارب وتشترط ألا تتعدى قوتها 25 حصاناً، وتكون لا تقوى على جر المراكب المحملة بالأسماك.
وحسب التقديرات الأولية، فإن السفينة تصل تكلفتها إلى نحو 300 ألف دولار، المولد والمحرك وحدهما بقيمة 10 آلاف، في وقت من المفترض إذا كانت المعابر تعمل بشكل طبيعي ومن دون قيود ألا تزيد التكلفة الإجمالية له على 120 ألف دولار.
تنص اتفاقات التهدئة المتكررة بين "حماس" وإسرائيل على تخفيف الأخيرة قيودها المفروضة على عمل الصيادين لكن من دون التزام، ما ربط أرزاقهم بالتطورات الميدانية، ويقولون إنهم شارفوا الوصول إلى حد الإفلاس والتخلي عن ركوب البحر. وحسب بكر، فإن الدخل المالي للصياد في الشهر لا يزيد على 250 دولاراً أميركياً، ولا يكفي لإصلاح قاربه في حال كان بحاجة إلى صيانة.
ووفق بيانات وزارة الزراعة الفلسطينية يبلغ عدد الصيادين في غزة نحو 1500 صياد يعملون على 700 مركب، في وقت يعمل في بيع الأسماك نحو 10 آلاف، ويبلغ إجمالي إنتاج غزة السنوي 1500 طن بعد أن كان يتجاوز خمسة آلاف.