مهرجان البندقية في دورته الثامنة والسبعين لا يقدم فقط أفلاماً أوروبية لجمهور ضيق، فهذه التظاهرة تحتضن أيضاً بعض الأفلام الهوليوودية التي من شأنها أن تستقطب الإعلام وتأتي بالنجوم إلى جزيرة الليدو حيث يجري هذا الحدث السينمائي الكبير. ومذ استلم إدارته الفنية ألبرتو باربيرا، أصبح المهرجان يولي أهمية جادة للسينما الأميركية ذات الطابع الجماهيري. وتحقق ذلك هذا العام مع اختيار واحد من أضخم إنتاجات السنوات الأخيرة للمشاركة في البندقية خارج المسابقة: "ديون" Dune للمخرج الكندي دوني فيلنوف، الفيلم المنتظر جداً الذي كان من الصعب للجمهور الحصول على بطاقات لمشاهدته، بعدما نفدت جميعها في دقائق قليلة عقب افتتاح شباك التذاكر الإلكتروني.
قبل تناول الفيلم نقدياً، علينا التذكير ببعض المعلومات والوقائع المرتبطة به. فيلم "ديون" لفيلنوف هو اقتباس لرواية فرانك هربرت، الكاتب الذي عاش بين عامي 1920 و1986 وكتب نصّه الخيال العلمي هذا بأجزائه الخمسة، عندما كان في الخامسة والأربعين من العمر، فتحول بسرعة إلى أحد الأعمال الكلاسيكية في مجال الخيال العلمي، لتصبح رواية الخيال العلمي الأكثر مبيعاً على الاطلاق. موضع هربرت أحداث ملحمته في المستقبل البعيد، بحيث تمتد على مدى آلاف السنوات. عالج فيها مواضيع معقّدة، مثل سؤال بقاء الجنس البشري وصموده وتطوره، وعلم الكواكب والبيئة، وتقاطع الدين والسياسة والإقتصاد والقوة بعدما طورت البشرية السفر بين النجوم.
رواية شعبية
تأثير الرواية كان بالغاً في الثقافة الشعبية الغربية، الأميركية تحديداً، وامتد إلى الموسيقى وألعاب الفيديو حتى. كانت السينما اهتمت بأفلمتها منذ العام 1971، أي ست سنوات فقط بعد صدورها في المكتبات. مذذاك، جرت محاولات عدة لنقلها إلى الشاشة، أشهرها محاولة المخرج التشيلي أليخاندرو خودوروفسكي الذي عمل طويلاً على هذا المشروع وكان ينوي توزيع الأدوار الرئيسة على ناس مثل سالفادور دالي وأورسون ولز وغلوريا سوانسون. لكن المشروع تعرض لمئة عقبة وعقبة، حتى أن مخرجاً أميركياً أنجز وثائقياً عنه في عنوان "ديون خودوروفسكي". ثم جاء دور ديفيد لينتش.عرضت ابنة المنتج الشهير دينو دو لورنتيس على المخرج الأميركي اقتباس الرواية بعدما شاهدت فيلمه "الرجل الفيل" ، فكان الفيلم الذي نعرفه والذي أُنجز في العام 1984، علماً أن لينتش ما كان طالع الرواية قط عندما وافق على الإقتراح، ويُقال أنه كان غير مهتم حتى بعلم الخيال. الفيلم لم ينل آراء نقدية إيجابية، لكنه أعجب هربرت، وهو يُعتبر فيلماً منفصلاً عن عالم لينتش المعتاد.
اليوم، بعد هذه السنوات كلها، اختار دوني فيلنوف امتحان نفسه وقدراته الفنية عبر "التعرض" إلى عمل أدبي أسال الكثير من الحبر وحطّم الكثير من الأحلام وخيّب ظن عديدين. في أي حال، إذا تعمّقنا في فيلموغرافيا فيلنوف، نجد أن الرجل ينحاز إلى التنوع. من "حرائق" الذي اقتبس مسرحية الكاتب اللبناني الكندي وجدي معوض إلى "سيكاريو" الذي يغوص في كارتيلات المخدرات المكسيكية، مروراً بـ"سجناء" الثريللر الاستقصائي الجميل، أظهر المخرج البالغ من العمر 53 عاماً اهتماماً بأكثر من طريقة في التعاطي مع السينما. إلا أنه، منذ العام 2016، بدأ يميل إلى الخيال العلمي، وكانت البداية مع "وصول" وتطوّر مع "بلايد رانر 2049"، واليوم ها هو يقدّم "ديون" لجمهور عالمي ينتظر الفيلم على أحر من الجمر، علماً أنه كان ينبغي أن يخرج إلى الصالات في ديسمبر - كانون الأول من العام الماضي، لكن تفشي وباء كورونا وإقفال الصالات أرجأ موعد عرضه إلى الشهر المقبل.
وفاء للأصل
نسخة فيلنوف مختلفة عن تلك التي قدّمها لينتش، اذ حاولت ان تبقى وفية للأصل الأدبي، والحق أنها نقلت مضمونه بشكل سليم، في محاولة واضحة من جانب كتّاب السيناريو جون سبايث وإريك روث وفيلنوف في تأليف نص يكون مفهوماً لمَن لم يقرأ الرواية. نتيجة ذلك، نلمس في الفيلم كلّ الأشياء التي صنعت أهمية الرواية، من البُعد الميثولوجي إلى حضور الروحانيات. الشاب تيموثيه شالاميه الذي لم يثبت نفسه بعد كممثّل قدير، أُسند إليه دور البطولة وهذه مسؤولية كبيرة، فأي اخفاق من جانبه له تأثير سلبي في الفيلم. لكن شالاميه يتدبّر أموره جيداً، وهو مقنع في دور بول أتدرايدز ونصدّق تماماً رحلة الإستكشاف التي سيقوم بها وهي في النهاية رحلة تنطوي على تحديات كثيرة (سياسية وبيئية وعائلية وروحانية) ينقلها الفيلم بكلّ تعقيداتها وملابساتها. الإهتمام الذي يمنحه فيلنوف للجانب البصري هائل، فالحوارات مقلة والتوازن مدروس بين ما نراه وما نسمعه. يوجد في يد فيلنوف ما لم يكن موجوداً في يد الكاتب: المشهدية. في المقابل، يملك النص ما لا يملكه الفيلم: القدرة على تفعيل خيال المشاهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رغم أن "ديون" فاز بثماني دقائق تصفيقاً ووقوفاً خلال عرضه الرسمي، فالنقّاد لم يجمعوا على أننا حيال تحفة سينمائية لم يسبق لها مثيل. من بين المتحمسين للفيلم، هناك من قال إنه صفعة فنية وسينمائية ضخمة، في حين اعتبرت مجلّة "فرايتي" أن الفيلم هو "سيد الخواتم" الخاص بفيلنوف، أي إنه يساوي من حيث الأهمية ما كانت تساويه ثلاثية "تولكيين" عند المخرج بيتر جاكسون. في المقابل، هناك مَن أبدوا خيبتهم. مجلة "ليه انروكوبتيبل" كتبت أن الفيلم الذي كان ينتظره الجميع، لم يصنع السحر الذي كنّا نتوقّعه، وهذا رأيي أيضاً.
قد لا يختلف كثيرون مع فكرة أن "ديون" عمل ملحمي طموح حُشدت ملايين الدولارات كي يخرج بهذا الشكل الصح والسليم. إلا أن لا روح فيه، ونخرج من العرض فننسى تقريباً كلّ ما شاهدناه. الصور التي تحاول صناعة دهشة من دون توقّف تأثيرها، لا تضرب جذورها في الزمن، لا تتخمر في البال، تمضي فحسب. هذه هي العلّة في السينما التي تستمد شرعيتها إلى هذا الحد من توافر الإمكانات الكبيرة ومن استخدام التقنيات ذات الخيوط الظاهرة بالعين المجردة. هذا العام في البندقية، شاهدنا أفلاماً مشغولة بإمكانات بسيطة جداً (لنا محطات نقدية لاحقة معها) لمسنا أكثر بكثير من محاولات هوليوود في إبهارنا.