على مدى سنوات، تنازع الملياردير جيف بيزوس، مؤسس شركتي "أمازون" للتجارة الإلكترونية، و"بلو أوريغون" الفضائية، وغريمه الملياردير إيلون ماسك، مؤسس ورئيس شركتي "تيسلا" لصناعة السيارات و"سبايس إكس" الفضائية حول من يستخدم منصة إطلاق وكالة "ناسا"، وأي شركة ستتمكن من تأمين هبوط آمن بصواريخها الضخمة على الأرض، لكن الصراع الآن بين أغنى رجلين في العالم انتقل إلى معركة تدور رحاها بين إمبراطوريتين تجاريتين في المحاكم وقاعات الكونغرس وهيئة الاتصالات الفيدرالية، وأصبح القتال بينهما مكشوفاً وشخصياً، فإين ومتى تنتهي هذه الحرب المريرة؟
آفاق أوسع من الصراع
يتصاعد الصراع بين الرجلين كل يوم إلى آفاق أوسع وأبعد، فما بدأ كمعركة بين شركة "سبايس إكس" الفضائية التابعة لإيلون ماسك، وشركة "بلو أوريغون" الفضائية التابعة لجيف بيزوس للفوز بتعاقد ضخم مع وكالة "ناسا" بهدف إنزال رواد فضاء على القمر لأول مرة منذ 1972، أصبح يتضمن الآن سباقاً محموماً بين المليارديرين الشهيرين، لتدشين خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في الفضاء.
وبينما نجحت شركة "سبايس إكس" خلال العامين الماضيين، في إطلاق شبكة واسعة من الأقمار الصناعية يصل عددها إلى الآلاف، بهدف إرسال إشارات الإنترنت إلى الأرض بشكل مباشر وبسرعة فائقة، تمتلك "أمازون" خطة مماثلة ضمن برنامج تسميه "كويبر"، لكنها لم تطلق حتى الآن أي قمر صناعي، ومع ذلك، تحدت "أمازون" طلباً تقدمت به "سبايس إكس" إلى لجنة الاتصالات الفيدرالية من أجل السماح لها بتعديل خطتها، واعتبرت "أمازون" أن التعديل الذي تريده "سبايس إكس" سينتهك قواعد لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية.
مواجهات علنية
وردت شركة "سبايس إكس" برفض تدخل "أمازون" مشككة في قدرتها التكنولوجية على المنافسة، واتهمتها علناً باستخدام أساليب قانونية وإجرائية لخلق عقبات تستهدف تعطيل جهودها، والتعويض عن تخلف "أمازون" عن المنافسة وإخفاقاتها السابقة، في إشارة ضمنية لفوز "سبايس إكس" بتعاقد "ناسا" لإنزال البشر على سطح القمر بحلول 2024، والذي طعن فيه بيزوس قضائياً أيضاً ضد وكالة "ناسا" على اعتبار أنها صفقة غير عادلة.
وفي مقابل ذلك، وجهت "أمازون" اتهامات ضد ماسك بالتحدي العلني للوائح والقواعد القانونية بشكل متكرر، واعتبرت أن سلوك "سبايس إكس" والشركات الأخرى التي يقودها، يعتبر أن القواعد واللوائح ينبغي أن تطبق على غيرهم من الشركات الأخرى، أما الذين يصرون على الامتثال بالقوانين فيسخرون منهم ويهاجمونهم علناً.
سبب التنافس
لكن لماذا تحتدم المنافسة بين الرجلين الأغنى في العالم إلى هذا الحد؟ بالنسبة للبعض، لا يبدو ذلك أمراً مثيراً للدهشة في عالم رجال الأعمال شديدي الثراء، كونه يتّسق مع منهج وطريقة الأعمال في الولايات المتحدة، فعلى مدى عقود من الزمان، وُلدت المشاريع الأميركية العملاقة من رحم المنافسة الشرسة بين عمالقة الصناعة، مثل الصراع بين أندرو كارنيغي وجون دي روكفلر منذ أكثر من قرن.
غير أن ماسك وبيزوس يختلفان عن الأجيال السابقة في أنهما يتنازعان حول من يكسب السباق في الفضاء، وهو مجال يجتذب قدراً كبيراً من الاهتمام والشغف الذي يتمثل في الثقافة الشعبية الأميركية مختلطاً بالحنين إلى حقبة رحلات "أبولو" إلى القمر في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ولا ينفي ذلك أن التنافس المحتدم بين المليارديرين في السنوات الأخيرة يعود إلى أن الفضاء يعد الآن أكثر الصناعات إثارةً، كونه يحمل إمكانات واسعة لتحقيق نمو هائل بما يشكله من فرص تجارية وتكنولوجية ضخمة.
لماذا الفضاء؟
يصور كل من جيف بيزوس وإيلون ماسك طموحاتهما في الاستثمارات الفضائية كطريقة لمساعدة البشرية والإنسانية من خلال إنشاء مدينة على المريخ، كما يرغب ماسك، أو بناء مستعمرات في مدار الأرض، كما يتصور بيزوس، لكن مارغريت أومارا، الأستاذة في جامعة واشنطن الأميركية ومؤلفة كتاب "وادي السيليكون"، وإعادة تشكيل أميركا، ترى أن الفضاء لا يعد فقط شغفاً للرجلين، وإنما يمثل صناعة متنامية بها كثير من الأموال التي يمكن جنيها.
وعلاوة على ذلك فإن التنافس بين الرجلين يجري في اللحظة نفسها طوال الوقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت رجال الأعمال والمديرين التنفيذيين في "وادي السيليكون"، وشركات التكنولوجيا العملاقة أشبه بممثلي هوليوود، حيث يتابعهم الناس ويراقبون أفعالهم وتصريحاتهم، بالتالي أصبحت دوافع الشهرة هي من يقود أفعالهما، وبخاصة بالنسبة إلى ماسك الذي أصبح متميزاً في تكوين قاعدة جماهيرية مخلصة للغاية عبر متابعيه على "تويتر" الذين وصل عددهم إلى قرابة 60 مليوناً، كما شارك في برنامج "سترداي نايت لايف" الذي يحظى بشعبية واسعة على شبكة "أن بي سي".
مساران متشابهان
وعلى الرغم من الاختلافات التي تميز كلاً منهما عن الآخر، يبدو مسار ماسك متشابهاً مع مسار بيزوس في كيفية بناء إمبراطوريتهما، إذ يمتلك كلاهما قدرة فائقة على تغيير صناعات ومجالات عمل بأكملها بمنتجات جديدة مبتكرة، ويتمتعان بالقدرة على رؤية المستقبل بعمق، والثبات على معتقداتهما، وتحدي المشككين وتجاهل الخسائر قصيرة الأجل لتحقيق مكاسب طويلة الأجل.
وعلى سبيل المثال، تسبب ماسك عندما كان في شركة "باي بال" في إزعاج نظام صناعة بطاقات الائتمان، وتحويل الطريقة التي يدفع بها المستهلكون الأميركيون مقابل السلع والخدمات، وحينما انتقل إلى صناعة السيارات، أحدث ثورة في سوق السيارات الكهربائية، كما حاربت شركة "سبايس إكس" التابعة لماسك، المجمع الصناعي العسكري من الشركات الخاصة الذي سيطر على الفضاء عقوداً عدة، وأصبحت "سبايس إكس" هي الشريك المفضل لوكالة "ناسا" على الإطلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، تحول بيزوس مع "أمازون"، في تغيير تجارة الكتب التقليدية رأساً على عقب، ثم كل تجارة التجزئة حينما حول الشركة إلى مؤسسة عملاقة تتاجر في كل شيء، كما غير طريقة تخزين الشركات لبياناتها عبر التكنولوجيا التي وفرتها الشركة وخدماتها على الإنترنت.
معركة المستقبل
أما الآن، فإن ماسك وبيزوس يتنافسان على سلسلة من المشاريع التي يمكن أن تحدد إرثهما في المستقبل على الرغم من أن ماسك يبدو متقدماً بأشواط على خصمه اللدود بيزوس، فقد أرسلت "سبايس إكس" ثلاث فرق من رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية، ومن المقرر أن تطلق خلال ساعات طاقماً من رواد الفضاء المدنيين في رحلة تستغرق ثلاثة أيام تدور حول الأرض، في حين أن شركة "بلو أوريغون" التابعة لبيزوس أطلقت مهمة واحدة فقط إلى الفضاء استمرت في مدار الأرض 10 دقائق.
وفي مجال التنافس الأكثر جرأةً وخطورةً، أطلقت شركة "سبايس إكس" بالفعل ما يقرب من 2000 قمر صناعي من فئة "ستارلينك" إلى المدار، تمهيداً لإطلاق خدمة الإنترنت ذات النطاق العريض من الفضاء إلى كل بلدان العالم، وهي خدمة متوافرة بالفعل في 14 دولة حتى الآن بما فيها الولايات المتحدة، كجزء من جهد يتكلف 9.2 مليار دولار لزيادة الوصول إلى النطاق العريض.
حرب الأقمار الصناعية
وفي مواجهة مشروع ماسك الطموح، لدى "أمازون" أيضاً خطتها الخاصة لإغراق مدار الأرض بالأقمار الصناعية التي من شأنها إرسال الإنترنت إلى الأرض، لكنها لم تُطلق أي قمر صناعي حتى الآن، ومع ذلك، فإنها دخلت في مواجهة علنية وتحدٍ رسمي ضد "سبايس إكس" التي تريد إدخال تعديل سيضيف نحو 30000 قمر صناعي في مدارات الأرض عبر تكوينين، تقول "أمازون" إنها تتعارض مع قواعد ونظم لجنة الاتصالات الفيدرالية.
بالإضافة إلى الحرب حول الأقمار الصناعية، يشن بيزوس من خلال شركة "بلو أوريغون" حرباً على العقد الذي منحته وكالة "ناسا" لشركة "سبايس إكس" لنقل رواد الفضاء من وإلى سطح القمر.
ومن الواضح أن المعركة بين أغنى شخصيتين في العالم ستواصل غمارها إلى آفاق أبعد مما كان يتصورها أي منهما خاصة بعد أن دفعت شركة "أمازون" و"بلو أوريغون" بشكاوى عديدة إلى لجان في الكونغرس الأميركي، وبدأت الشركات التابعة لإيلون ماسك في الرد.
لكن، ما يطمح إليه الناس هو ألا يعطل هذا الصراع من مسيرة الوصول إلى القمر من جديد أو عرقلة تمتع الناس بخدمات النطاق العريض التي ستوفرها آلاف الأقمار الصناعية المنتشرة حول العالم.