تسعون عاماً من الغياب لم يقطعها إلا حضور واحد. هكذا لم تشفع تاء التأنيث التي تزين اللغة العربية للمرأة لدى مجمع اللغة العربية في القاهرة، أو كما يُطلَق عليه "مجمع الخالدين"، فظلت مغيبةً عنه منذ تأسيسه عام 1932، حتى التحقت به أول امرأة في عام 2014، ليغلق بعدها أبوابه مرة أخرى في وجه النساء. فهل السر في ذلك، تلك النزعة الذكورية التي تجلَّت على مدى تاريخ طويل، فطالت تداعياتها كافة المؤسسات، لا سيما مجمع اللغة، أم أنها أسرار أخرى ما زال يحجبها الاعتياد، خلف جدارٍ من المسكوت عنه؟
يفسر أستاذ النقد الأدبي رئيس المجمع الدكتور صلاح فضل غياب العنصر النسائي بقوله: "علينا أن نتذكر الظروف التاريخية التي نشأت فيها هذه المؤسسة العلمية والثقافية الرفيعة، منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، فقد تألف المجمع إبان مولده الأول من عددٍ من كبار اللغويين والعلماء والباحثين، المصريين والعرب والمستشرقين، جميعهم من الذكور، برغم وجود المرأة الفاعل في الحياة العامة آنذاك".
ويشير فضل في هذا الصدد إلى صالون مي زيادة، الذي كان يجمع كبار المفكرين والأدباء، الذين ألفّوا الكتلة الأولى للمجمع، مثل أحمد لطفي السيد، وطه حسين وعباس العقاد، لكن لم يخطر ببالهم أن يصطحبوا "الآنسة مي" إلى هذه المؤسسة، لأن الحس العام، على حد وصفه، كان ينظر للمرأة باعتبارها عنصراً ثورياً جديداً، يريد أن يغير وجه الحياة.
ويدلل فضل على ذلك بتعليقات الشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم على أول مظاهرة نسائية، قادتها هدى شعراوي، لدعم السفور، والتي لم يبدُ فيها الحماس، بقدر ما ظهر التحفظ، إذ تريثا في التأييد الصريح لحركة السفور، خشية على شعبيتهما وموقعهما الأدبي، في قيادة الحركة الثقافية والرأي العام.
سهير قلماوي التلميذة الشابة
بعد تولي طه حسين رئاسة المجمع في خمسينيات القرن الماضي، أشيعت رغبته في ضم تلميذته سهير القلماوي التي بلغت ذروة المجد الأدبي وقتها، لكن ذلك لم يحدث قط. ويعزو فضل ذلك، إلى أن القلماوي كانت لا تزال شابة، وربما ارتأى أنه من غير الملائم، أن تجلس بشكل ندي بين شيوخ المجمع.
في حين يفسر عدم انضمامها للمجمع- في عصر الرئيس الراحل أنور السادات- بعد أن بلغت عمراً يسمح لها بذلك؛ بما تردد عن توصية السيدة جيهان السادات لرئيس المجمع في ذلك الوقت، الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، من أجل أن ينظر في ذلك الأمر. وكان نتيجة ذلك، أن رفض الأعضاء انتخابها، من قبيل مقاومة الخضوع للتوجيه السياسي المباشر، على الرغم من جدارتها بالعضوية.
المفارقة الثانية التي يذكرها فضل تتعلق ببنت الشاطئ، مؤكداً استحقاقها الجلوس بين الخالدين، لكن ذلك لم يحدث أيضاً، رغم ما حظيت به من تقدير عربي كبير، حدَّ أن كان لها كرسياً في جامعة القرويين في المغرب.
يقول فضل أن المجمع فاته أن تكون بنت الشاطئ أو سهير القلماوي أو نعمات أحمد فؤاد اعضاء فيه، مؤكداً أن هؤلاء النسوة الثلاث كن جديرات بأن يمثلن طلائع مساهمة المرأة، في الجهد العلمي واللغوي والإبداعي، في مجمع اللغة العربية.
ويرى أن غلبة النزعة الذكورية على معظم شخصيات المجمع والجيلين السابقين، هي التي حالت دون أن يتزيَّن بأضواء نجمات الأدب اللاتي أخذن حقهن في الحياة العامة المصرية والعربية.
ويشير إلى أن المجمع كسر هذه القاعدة منذ سنوات قليلة، حين اختار متخصصة في اللغويات، هي الدكتورة وفاء كامل، لتمثل طليعة اختراق المرأة لهذه المؤسسة، التي ما زالت– في منظوره- بحاجة إلى المزيد من المواهب الكبرى، والقامات العالية في الفكر واللغة والثقافة والعلم.
وعن أحقية المرأة بالتمثيل في المؤسسة العلمية يقول فضل: "المرأة تثبت جدارتها بأن تكون جنباً إلى جنب، وبالتساوي، مع الرجال، بل تتفوق عليهم، وهذا التطور المجتمعي لا بد أن يسفر في النهاية، عن عدد كبير من كبار نجوم العلم والفكر والأدب".
لكنه يرفض أن تدخل المرأة إلى المجمع عن طريق "الكوتة"، فذلك– في رأيه- لا يمكن أن يتم في المؤسسات العلمية الرفيعة؛ لأن معيار الجدارة والكفاءة، يجب أن يكون أساس الاختيار، وليس المعيار النوعي.
ويؤكد أن حركة التطور ستفرض ذاتها، وأن المواهب والقدرات والكفاءات النسائية ستدفع المجمع حتماً، للتخلي عما لصق به من نزعة ذكورية محافظة، فيرحب بمن يتفوقن في الدراسات اللغوية والاجتماعية والعلمية، ويضعهن في المكان الملائم لهن، ويعتدل الميزان.
الاختراق الوحيد
في عام 2014 وبعد محاولات بدأت في عام 2007، اخترقت الدكتورة وفاء كامل فايد، السياج الذكوري، حول مجمع الخالدين، لتصبح أول امرأة تفوز بعضويته. وترى كامل في حديثها لـ"اندبندنت عربية" أن غياب المرأة عن مجمع اللغة العربية في القاهرة هو نتيجة طبيعية لأفكار بالية ونزعة ذكورية مسيطرة على المجتمع، انتقلت عدواها إلى المجمع منذ تأسيسه، مدللة بمقولة منسوبة للعقاد عندما أثيرت أمامه فكرة ترشيح بنت الشاطئ لعضوية المجمع: "لو دخلوا إحنا نلبس طُرَح".
وعن ظروف حصولها على العضوية تقول كامل: "في أوائل عام 2002 وقبل أن أكون خبيرة بمجمع الخالدين، حصلت على العضوية المراسلة بمجمع دمشق، والمعروف أن المجامع العربية لا تمنح العضوية العاملة إلا لأبنائها، باستثناء مجمع القاهرة".
وتستطرد: "الطريف في الأمر أن موافقة وزير التعليم العالي في سوريا على عضويتي بالمجمع السوري، جاءت بعد بحث وحيد قمت بتقديمه، وتعريفهم بنفسي قبله، وعند سفري إلى سوريا لحضور أول مؤتمر أشارك فيه- فوجئت بأنهم لم يكونوا يعرفون إن كنتُ رجلاً أو سيدة؛ فاسمي يشترك فيه الرجال والنساء!".
خسارات متتالية
أما عن مجمع الخالدين فتقول كامل: "لم أفكر في عضوية المجمع حتى حين عرض علي الدكتور أحمد مختار عمر أن يرشحني؛ لا سيما وأنني نلتُ درجة الدكتوراه عن أطروحة رصدت جهود مجامع اللغة العربية في قضايا اللغة، وكان رفضي، لشعوري حينها بحداثة عمري، مقارنة بأعمار الأعضاء ومكانتهم العلمية، ولمعرفتي بصعوبة نيل العضوية لمن ينكب على العلم، ولا يهتم بالعلاقات الاجتماعية التي تدعم موقفه في الانتخابات، فاعتذرت".
وتضيف: "بعد ذلك عملتُ خبيرة في إحدى لجان المجمع في عام 2007، ورُشحت لعضوية المجمع في العام نفسه، لكني لم أفز لمرات متتالية، حتى إنني خسرت في إحدى المرات بفارق صوت واحد. وفي المرحلة التمهيدية للانتخابات لعام 2014 حُسم الموقف، أخيراً، لصالحي؛ حيث حصلت على عدد أكبر من الأصوات المطلوبة".
وتعلق كامل على ذلك النجاح: "شعرتُ بروح بنت الشاطئ وروح سهير القلماوي حولي، وهما اللتان لم تنالا عضوية المجمع رغم أنهما تفوقانني شهرة وعلماً في مجال كل منهما، وسعيت لأن أكون جديرة بهذه المكانة، التي تبوأتها، عبر بذل المزيد من الجهد العلمي. فأنجزتُ بحوثاً غير مسبوقة، تربط بين أصوات اللغة العربية وبنيتها الصرفية. وقبل ذلك أنجزتُ معجماً للتعابير الاصطلاحية في اللغة العربية المعاصرة، مبنياً على مدوَّنة جمعت اللغة العربية من مصادر عربية متنوعة، على مدى أكثر من 100 عام. كما رصدتُ– على مدى ثلاثين عاماً- ظاهرة تغريب اللافتات التجارية في مصر، مع ست دول عربية أخرى. وقارنتُ نسبة شيوع الظاهرة في هذه الدول. كما اهتممتُ في بحوثي بالجمع بين اللغة العربية والذكاء الاصطناعي والدراسات الحاسوبية". ربما كان من المتوقع أن تجد كفاءات نسائية أخرى طريقها إلى المجمع، بعدما فتحت الدكتورة وفاء كامل الباب لهن، لكن ذلك لم يحدث وظلت هي المرأة الوحيدة في تاريخ مجمع الخالدين حتى الآن.
تعلق كامل قائلة: "لا أعرف سبباً محدداً لذلك. لكني لأكثر من مرة رشحت وجوها نسائية ذات كفاءة، مثل الدكتورة يمنى الخولي، وغيرها. ولكن عدم حصولهن على العدد المطلوب من الأصوات، حال دون انضمامهن إلى مجمع الخالدين".
وتؤكد الدكتورة وفاء كامل أن مجمع القاهرة يعاني كبوة، وأن الصراعات الداخلية التي طفت على سطحه، أخيراً، تعطل ما يمكن أن يقدمه في خدمة اللغة. أما عن المستقبل وتوقعاتها بشأن تمثيل المرأة في هذه المؤسسة، فتستدعي مقولة الشاعر الراحل فاروق شوشة: "المرأة المجمعية قادمة بلا شك".
في حب اللغة
هل انفرد الرجال بحب اللغة العربية ليتحملوا وحدهم عبء إثرائها وصيانتها؟ يجيب أستاذ الجيولوجيا في جامعة عين شمس وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة حافظ شمس الدين: "إن الاستقراء الجيد للغة العربية وتاريخها، يُظهر بجلاء، أن حب اللغة العربية أوالنبوغ فيها، لم يكن مقصوراً على الرجال فقط. فبدءاً من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، نجد أن كثرةً من النساء، أجدن اللغة العربية ونبغن فيها، إلى درجة تصل إلى العبقرية".
ويتساءل: "كيف ننسى شعر الخنساء، وكيف ننسى كلمات نبوية موسى، التي ألهبت الثورة في بدايات القرن العشرين، وكيف ننسى إضافات بنت الشاطئ وسهير القلماوي ونعمات أحمد فؤاد، وهل نتجاهل الصحافية أمينة السعيد؟ ورغم القائمة الطويلة لأسماء نابغات، فإن المحافل الرسمية في مصر– على حد قوله- تفتقر كثيراً إلى العنصر النسائي". ويذكر أن عضوية مجمع القاهرة، لا تشترط أن يكون العضو متخصصاً في اللغة العربية، بل من الممكن أن يكون طبيباً، أو متخصصاً في أي مجال علمي أو أدبي أو فني، بشرط أن يتزاوج هذا التخصص العلمي مع إجادة تامة للغة العربية، استعمالاً ونحواً وصرفاً.
ويستطرد شمس الدين شارحاً: "يبلغ عدد أعضاء المجمع 27 عضواً، هم الأحياء الباقون من أصل أربعين عضواً، وعند إجراء الانتخابات ينجح المرشح إذا حصل على نصف الأصوات وصوت واحد، فإذا تغيب على سبيل المثال سبعة أعضاء، يتعين على المرشح الحصول على 14 صوتاً بغض النظر عن الغائبين. وهذا ما يجعل الفوز بالعضوية أمراً شاقاً".
إبعاد بلا قصد
ويقول أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة والأمين العام للمجمع الدكتور عبد الحميد مدكور: "الاعتماد على الرجال سمة تكاد تكون عامة في المجامع اللغوية في شتى أنحاء العالم العربي، من دون أي قصد لإبعاد المرأة، فليس هناك أي قرار أو موقف أو مبدأ، يمنع النساء من الالتحاق بعضوية أي من هذه المجامع".
ويؤكد أن الأكاديمية الفرنسية التي أُنشىء المجمع على غرارها، ظل العنصر النسائي فيها غائباً منذ نشأتها عام 1634 وحتى عام 1980... "وأرجو ألا يُساء فهم قولي إذا تساءلت عن نسبة إسهام النساء في المناصب العليا والوزارات والإدارات المختلفة في مصر". ويشير إلى أن هذا الأمر انتبه إليه العاملون في حقل السياسة، ولم يتمكنوا من التغلب عليه إلا بـ"الكوتة" في البرلمان بغرفتيه. ورغم ذلك يبقى العنصر الرجالي– على حد قوله- الأغلب في تشكيل هذه المواقع، في حين يظل تمثيل العنصر النسائي في تخصصات الطب والهندسة والسياسة وكافة المجالات، أقل كثيراً من الرجال. لذا فالأمر- في منظوره- يتعلق بالتطور الاجتماعي في المجتمعات العربية على وجه العموم.
ويوضح مدكور أن الاختيار في المجمع، لا يكون إلا على أساس الانتخاب، وأن عدد من يترشحن من النساء "قلة قليلة جداً"، فضلاً عن عقبة الانتخاب التي لم يجتزها أيضاً كثير من الرجال. ويضيف أن الاختيار يكون دائماً مرهوناً بحاجة المجمع لتخصصات بعينها، وأن الدخول إلى المجمع ليس تكريماً وحسب، ولكنه يستلزم عملاً دؤوباً، وإضافات علمية سواء في اللغة العربية أو في التخصصات الأخرى التي تخدمها كالأدب، والطب، والكيمياء.
لذلك يؤكد أن المواهب وحدها، لا يمكن أن تكون جواز مرور إلى المجمع. وإنما الحاجة تكون إلى الباحثين الذين يحفرون في بطون الكتب والمعاجم والترجمة، لإثراء اللغة العربية بحصيلة علمية كبيرة تحتاج إليها. ويدلل مدكور بالشاعر الراحل فاروق شوشة، الذي لم تكن مرجعية عضويته بمجمع الخالدين، لكونه شاعراً أو أديباً أو مثقفاً أو مقدم برنامج عن اللغة العربية امتدت إذاعته لعقود طويلة، وإنما لأنه كان باحثاً في المقام الأول. ويدلل أيضاً بالدكتورة وفاء كامل، مشيراً إلى أن حصولها على العضوية ارتبط بما قدمته من إسهامات علمية قيمة، عندما كانت خبيرة في المجمع قبل انتخابها، لتؤكد عضويتها؛ أن الاختيار لا يكون أبداً وفق معيار نوعي.
اللعبة الانتخابية
وتقول أستاذة الصحافة في كلية الإعلام في جامعة القاهرة الدكتورة نجوى كامل: "إن الانتخابات في بلادنا لا تأتي أبداً في صالح المرأة". وتضيف: "إن المجمع اللغوي شأنه شأن النقابات والمؤسسات الأخرى التي تعتمد على الانتخابات في اختيار الناخبين، والتي يكون نتيجتها عادة إقصاء المرأة، لأنها لا تجيد التعاطي مع آفات اللعبة الانتخابية، مثل الشللية والعلاقات والمصالح، ما يؤدي إلى عزوفها عن تقديم نفسها وخوض غمار الانتخابات. وهذا هو السبب الأول الذي يقف– وفقاً للدكتورة كامل- خلف غياب النساء عن المجمع، وعن غيره من المؤسسات. أما السبب الثاني- كما تحدده- فيتركز في النظرة المجتمعية التي تعتبر المرأة غير كفء، وغير جديرة بمواقع معينة، في حين يرفض البعض المرأة لمجرد كونها امرأة، وهذا هو السبب الثالث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأسباب الثلاثة كما تؤكد نجوى كامل تتشابك وتتصل بعضها ببعض، فمن يرفض المرأة يعتقد في عدم كفاءتها، وتؤدي تلك النظرة وذلك الرفض إلى عزوفها عن تقديم نفسها، لإدراكها المسبق بعدم قدرتها على الوصول إلى تلك المواقع، عن طريق الانتخاب، لا سيما وأنها تُحارَب بشراسة في مجتمع تدينها ثقافتُه، حتى وإن أُثيرت حولها الأكاذيب.
وتدلل بكل النقابات التي لا يأتي تمثيل المرأة فيها صادقاً، وموافقاً لعدد النساء العاملات تحت ظلها. ما يجعلها ترى أن المجتمعات الديكتاتورية قد تكون أكثر إنصافاً للمرأة من مجتمعات تمارس الديمقراطية بلا وعي. إذ تحرص الأولى على تعيين النساء وتخصيص مقاعد لهن في كافة المؤسسات والمجالس بقوة القانون.
هذه المشكلة لا يمكن علاجها إلا بما تصفه كامل "إعادة صياغة وعي الشارع"، وزيادة دعم النخبة للمرأة، وكذلك زيادة التغطية الإعلامية لجهود المرأة الناخبة، والعمل على تأهيل النساء وتدريبهن على خوض الانتخابات، وإجادة هذه اللعبة وتحمل أعبائها وتبعاتها النفسية.