"انتحار شاب أثناء بث مباشر على الإنترنت"، "كاميرا محمول توثق لحظة انتحار فتاة ألقت نفسها في النيل"، "انتحار ناشطة سياسية ومدافعة عن حقوق المثليين يشعل سوشيال ميديا"، "مواطن يهدد بالانتحار من أعلى برج تقوية محمول في الدقهلية والفيديو يجذب مليون مشاهدة في نصف ساعة"، "أحد نجوم تيك توك يصور عملية انتحاره على واتساب"، "طفلة تهدد بالانتحار في حال أصر والدها على تزويجها"، "شاب يخبر أصدقاءه في بث مباشر أنه سينتحر من أعلى كوبري طلخا بعد دقائق"، "منصات التواصل الاجتماعي تتناقل فيديو إلقاء شابة نفسها من الطابق السادس في مول مشهور، بينما تشتعل الـ "سوشيال ميديا" بين متعاطف ومبرر وجلاد ومندد.
التواصل الاجتماعي طرف
منصات التواصل الاجتماعي تحولت طرفاً رئيساً في حوادث الانتحار التي وقعت في مصر خلال العقد الماضي، لا سيما خلال الأيام القليلة الماضية، وبدلاً من ضلوع المجتمع قاضياً وجلاداً ومتعاطفاً على المنتحر كما جرت العادة بحكم العادات والتقاليد والثقافة في إطار همهمات الجيران وهمسات الأقارب و"تلسينات" المعارف، نصّب الشعب برمته أو على وجه التحديد قطاعات الشعب المتصلة بالشبكة العنكبوتية نفسها في هذه المكانة متعددة الأذرع متراوحة التخصصات.
أبرز وأغرب التخصصات هو ذلك المتصل بالإحصاء والتحليل، الذي قرر أن الانتحار في ربوع البلاد أصبح ظاهرة مخيفة وأن الشباب يقتلون أنفسهم يومياً بسبب الضغوط والمشكلات.
جانب من عتاولة هذا التخصص العنكبوتي الوليد يقول إن السبب في "الظاهرة" هو القهر والظلم الاجتماعي والفشل الاقتصادي، وآخرون يلومون ضعف التمسك بالدين ومحاولات تفريغ الدولة من مقومها العقائدي، وفريق ثالث يرى أن "الظاهرة" سببها الإغراق في التدين بشكل مبالغ فيه يدفع الشباب للشعور بالاختناق، وتتوالى فرق تحليل "الظاهرة" من دون هوادة.
ظاهرة تبحث عن توثيق
لكن علم الإحصاء يشير إلى أن الظاهرة هي "ما يتم جمع البيانات الرقمية عنها، ثم تنظيمها وترتيبها وتحليلها للوصول إلى نتائج معينة تتيج تفسيرها في حال كان عدد مرات تكرارها أو حدوثها يؤهلها لذلك".
إحصاءات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 80 دولة من الدول الأعضاء فقط لديها بيانات "جيدة" عن تسجيل الأحوال المدنية، يمكن استخدامها مباشرة لتقدير معدلات الانتحار، وجودة بيانات الانتحار تتعلق ليس فقط بوفرتها أو إتاحتها، ولكن بضعف الإبلاغ لا سيما في الدول والمجتمعات التي تتعامل مع الانتحار بحساسية شديدة، نظراً لعدم مشروعيته لأسباب تتعلق بالتفسيرات الدينية والثقافية. الثقافة السائدة في مصر تسهم بشكل واضح وصريح وأكيد في إصدار الأحكام من قبل شعوب "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب" وغيرها المرابطين أمام شاشاتهم لتوصيف وتصنيف ووصم أو تبرئة ضحايا الانتحار.
طبيبة الأسنان و37 ثانية
أبرز وأحدث ضحايا الانتحار التي باغتت المجتمع المصري قبل أيام قليلة هي طبيبة أسنان عمرها 23 عاماً ألقت بنفسها من الطابق السادس في مركز تجاري شهير شرق القاهرة. لحظة السقوط وثقتها كاميرات المراقبة في المركز. المقطع الذي يستغرق 37 ثانية عرف طريقه بعد دقائق معدودة لا إلى قسم الشرطة بل إلى شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، ومنها إلى وسائل الإعلام التقليدية بأذرعها المختلفة.
تقول صحافية شابة فضلت عدم ذكر اسمها، "إن ما سقط من الطابق السادس لم يكن فقط جثمان الطبيبة، لكنه كان قيم وقواعد العمل الصحافي. تكالب الصحف والمواقع الخبرية والقنوات التلفزيونية على بث فيديو السقوط ومطاردة أهل وصديقات وأصدقاء وزملاء وزميلات وشهود الواقعة والإصرار على نشر وربما اختلاق تفاصيل دقيقة عن علاقتها بذويها والمشكلات التي كانت تؤرقها، بل وصل الأمر لدرجة التزاحم على باب المشرحة واختراق هم وحزن وبؤس الأم والأب والأهل بالكاميرا، والوصف المخزي حيث عبارات مقززة تافهة مثل "وكانت الأم تتشح السواد" أو "كانت تحتضن الخشبة التي تحوي الجثمان" وغيرها من التفاصيل التي لم تحقق الترند فقط، بل حققت السقوط المدوي لهذا النوع من الإعلام".
الافتئات على الكرب
وإذا كان هذا النوع من الإعلام ضلع في حوادث الانتحار بهذا الشكل على سبيل الافتئات على كرب وحزن عائلات المنتحرين بدافع صناعة الترند وتخليق المتابعة والمشاهدة والربح، فإن مجتمع منصات التواصل الاجتماعي ضلع في الانتحار وكأنه طرف رئيس له كامل الحقوق من دون أدنى واجبات بما فيها الإنسانية في هذه الحوادث.
مجتمع المنصات نصب كعادته، ولكن بشكل فائر هذه المرة، محاكمه ومعامله ومعاييره الافتراضية للخوض في أغوار الشابة المنتحرة في المركز التجاري. تدوينة واحدة مدافعة عن المنتحرة كفيلة بتوليد مئات الردود المنددة بها، وتغريدة واحدة مطالبة بعدم الترحم عليها قادرة على تفجير عشرات المترحمين، وهلم جرا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتبت طبيبة على صفحتها على "فيسبوك" معربة عن تعاطفها الشديد مع الشابة المنتحرة وأهلها، مضيفة "أنه من المؤكد أن كم المعاناة التي عانته الشابة قبل أن تتخذ قرارها الصعب رهيب، حتى وإن كان القرار أكثر إيلاماً. وعبرت كذلك عن حزنها لما وصفته بـ "قسوة زملائها" وتعليقاتهم المنددة بانتحار زميلتهم، والتي وصفتها بأنها تنم عن جهل وانعدام الإحساس بمحنة المرض النفسي". وأضافت "أن حزنها كذلك عميق من أولئك الذين لا يدركون أن الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة".
الرحمة عند رب العباد
لكن الرحمة المتروك تقديرها لرب العباد استلبها كثير من العباد لأنفسهم بين مقرر عدم استحقاق المنتحر لها، ومشكك في القرار الإلهي بمنحها لمن قرر أن ينهي حياته، ومؤكداً أن المنتحر مخلد في نار جهنم، وقائل بأنه في نار جهنم لكن ليس خالداً فيها، ومجادل في أن أبواب الرحمة نفسها ستكون موصدة أمام المنتحر.
"المنتحر لا تجوز الصلاة عليه ولا يجوز تكفينه ولا الترحم عليه ولا دفنه في مقابر المسلمين"، وغيرها كثير من الأحكام الفقهية المتفجرة من رحم المنصات الاجتماعية العنكبوتية والمشتق بعضها من فتاوى وأحكام متناثرة هي الأخرى على مواقع عنبكوتية مختلفة، خلقت حالاً من الجدل المستعر في المجتمع المصري منذ حادثة الانتحار الأخيرة في المركز التجاري، لكنها ليست حالاً فريدة بل أصبحت معتادة ومتوقعة مع كل حادثة أو شروع في حادثة مشابهة.
تحريم الترحم
التعليقات التي يكتبها بعضهم على المطالبين بالترحم على المنتحر والرفق به وبأهله المكلومين يدور بعضها في فلك "تحريم الترحم"، فبعضهم يستند إلى فتاوى متعددة المصادر تفيد ذلك، وحتى أكثر الفتاوى وسطية وتقبلاً للمنتحر صادرة عن دار الإفتاء المصرية، يقول نصها، "الانتحار كبيرة من الكبائر وجريمة في حق النفس والشرع، والمنتحر ليس بكافر، ولا ينبغي التقليل من ذنب هذا الجرم وكذلك عدم إيجاد مبررات وخلق حال من التعاطف مع هذا الأمر، وإنما التعامل معه على أنه مرض نفسي يمكن علاجه من خلال المتخصصين".
الفتوى وما حملته من تطرق إلى مسألة المرض النفسي فتحت أبواباً كانت شبه ملغاة في حياة غالبية المصريين، لكنها أبواب أسهمت الـ "سوشيال ميديا" وأعمال درامية خلال الآونة الأخيرة في طرق بابها وترك وصمتها، وعلى الرغم من أن ما أعطته الفتوى بيد التعامل مع الانتحار باعتباره مرضاً نفسياً، أخذته باليد الأخرى في إشارتها إلى أنه "لا ينبغي التقليل من ذنب الجرم أو خلق حال من التعاطف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشار إلى أن موقف رجال الدين المسيحي لا يختلف كثيراً عن موقف أقرانهم المسلمين، ويؤكد عدد من رجال الدين المسيحي في مصر أن المسيحية تحرم الانتحار وقتل النفس بشكل قاطع، حيث "لا تقتل" توصية واضحة، إضافة إلى أن الحياة هبة منحها الله لا يمكن رفضها أو استلابها، ويذهب بعضهم إلى التأكيد على أن الكنيسة لا تصلي على المنتحر.
وكان بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية البابا تواضروس الثاني قال في عظة له إن "الانتحار خطية واعتداء على نعمة الحياة التي منحها الله للإنسان باعتبارها نعمة كبيرة وأغلى عطية أعطاها الله للإنسان على الإطلاق"، لكن الإشارة الغائبة إلى المرض النفسي الذي قد يدفع صاحبه إلى الانتحار يظل نقطة تناقض في تناول الانتحار.
تناقض الفتاوى والمجتمع
هذا التناقض ليس حكراً على الفتوى لكنه سمة رد فعل المجتمع تجاه حالات الانتحار، وهذه التناقضات عبرت عنها الطبيبة والكاتبة بسمة عبدالعزيز في مقالة لها عنوانها "انتحار" (2014) وجاء فيها، "بعيداً من الرأى الديني الذي قد يصم من يقدمون على الانتحار ويخرجهم من زمرة المؤمنين، يحظى الشخص المنتحر بأوصاف متناقضة كونه جباناً ضعيفاً قرر الهرب من مواجهة الحياة ومشكلاتها من ناحية، وكونه شجاعاً أقدم على مواجهة الموت بنفسه من ناحية أخرى. وبين الوصفين يبقى سؤال معلق من دون إجابة، هل تكون الشجاعة القصوى في مواجهة الموت بكامل غموضه وعدميته، أم في مواجهة الواقع بكل تعاسته وبؤسه؟"
تعاسة الواقع وبؤسه لا يقفان عند حدود الأسباب والعوامل التي تدفع بعضهم إلى الانتحار أو حافته، والقصور في التعامل مع مسببات الانتحار واقع تعس، فقبل عامين وبسبب تكرار حوادث انتحار في محطات مترو الأنفاق بادرت الحكومة المصرية إلى شن حملة لـ "مجابهة" الانتحار.
يقول أحمد مصطفى (30 عاماً) وهو مهندس كان وما زال يخضع للعلاج من الاكتئاب المرضي، إن "الحديث عن مواجهة الانتحار أو منعه هو فض مجالس، بل إن قلته أفضل لأنه يضع الشخص الذي يفكر في الانتحار في خانة العدو الذي تجب مجابهته. الحديث والعمل والإجراءات يجب أن تبدأ بالاعتراف بالمرض النفسي أولاً، ثم إزالة الوصمة والحرج المرتبطين به، ثم بدء العلاج العلمي المتخصص وليس ذلك الذي نسمع عنه من معالجين روحانيين أو مدعين أو حتى أطباء بشريين يسفهون من جوانب الصحة النفسية، معتبرين إياها تهيؤات أو رفاهية زائدة لدى المريض".
الانتحار في المترو
المثير هو أن هذه الحملة التي تم تدشينها عام 2019 ظلت محصورة في نطاق مترو الأنفاق، بل إن التعريف بها دار في إطار "مواجهة الانتحار في محطات مترو الأنفاق" وكأن المنتحرين في خارج حرم المترو لا يستحقون التوعية. الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان في وزارة الصحة والسكان أعلنت حينها أن الغرض من الحملة "حياتك تستاهل تتعاش" هو مواجهة حالات الانتحار في مترو الأنفاق، وأنها بدأت من محطة سراي القبة في الخط الأول وتشمل 27 محطة.
لكن الحملة تبخرت في الهواء واستمرت حالات الانتحار في الوقوع من دون أجواء توعوية بالمرض النفسي تذكر، أو تعامل مهني إعلامي أو توجه إنساني عنكبوتي مع "الانتحار" الذي يقف على حافة الظاهرة منتظراً أرقاماً وإحصاءات دقيقة مازالت عصية على الوجود.
التقرير المعلن من قبل منظمة الصحة العالمية عام 2019 عن الانتحار حول العالم وضع مصر في خانة "أنكرتها" الجهات الرسمية، فقد جاءت مصر بحسب المنظمة على رأس الدول العربية في ما يتعلق بمعدلات الانتحار بإجمالي 3799 حالة خلال عام 2019.
إشاعات واستقرار
يشار إلى أن دراسة صادرة عن المجلس القومي للسموم التابع لجامعة القاهرة أصدر دراسة عن الانتحار عام 2007 جاء فيها أن عدد حالات الانتحار في عام واحد بلغ 3708 حالة، لكنها تحوي محاولات الانتحار الناجحة وتلك التي تم إنقاذ المنتحر.
وعلى الرغم من كون مصر فعلياً هي الدولة العربية الأولى في قائمة الدول الأكثر تعداداً، إلا أن مجلس الوزراء المصري أصدر بياناً عام 2019 وصف الإحصاءات التي تشير إلى وقوع حالات انتحار أكثر من 69 حالة بأنها "إشاعات"، وأن القول بوجود زيادة في معدلات الانتحار "يستهدف النيل من الاستقرار المجتمعي"، لكن الاستقرار المجتمعي لن يفيده استمرار الوصمة المتصلة بكل من الانتحار والمرض النفسي، والاستقرار المجتمعي لن يستوي حين يصر الأهل وتوافق الجهات الرسمية على تسجيل الوفاة باعتبارها "وفاة طبيعية" وليست انتحاراً درءاً لثقل الوصمة وحمل العار الثقيل وتنظير الـ "سوشيال ميديا" المقيت.
من هم المعرضون للانتحار؟
على الرغم من ثبوت الصلة بين الانتحار والاضطرابات النفسية، لا سيما الاكتئاب والاضطرابات الناجمة عن تعاطي الكحول في البلدان مرتفعة الدخل، فإن كثيراً من حالات الانتحار تحدث في لحظات الأزمة عندما تنهار قدرة المرء على التعامل مع ضغوط الحياة مثل المشكلات المالية أو الانفصال أو الطلاق أو الآلام والأمراض المزمنة، وهناك صلة قوية بين النزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة أو فقد الأحبة والشعور بالعزلة بالسلوك الانتحاري، كما ترتفع معدلات الانتحار بين الفئات الضعيفة التي تعاني التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين والسكان الأصليين وأصحاب الميول الجنسية غير المعتادة والسجناء.