لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار "الأب سيرج" واحدة من قصص الكاتب الروسي ليو تولستوي الكبرى. فهي لا تقارن بـ"الحرب والسلام" أو بـ"آنا كارنينا" أو بأي واحدة من تلك الروايات التي صنعت مجداً كبيراً للكتاب الروس في القرن التاسع عشر. لكنها في المقابل قصة طويلة تكشف عن عمق التأزم الروحي الذي عاشه الكاتب خلال السنوات الأخيرة من حياته، وعن تعقد الأسئلة، الميتافيزيقية خاصة، التي راح يطرحها على نفسه في زمن كان يعرف فيه أن نهايته باتت قريبة وأنه لم يتمكن من حل معضلات الوجود والإيمان التي كانت قد تراءت له طوال سنوات حياته وقرر بينه وبين نفسه أنه لم يدن منها كما كان يتوجب عليه أن يفعل في تلك الأعمال الضخمة، وربما التأسيسية أيضاً التي شكلت متنه الإبداعي.
أسئلة بسيطة معدية
من ناحية مبدئية ربما يجد القارئ أن "الأب سيرج" قصة بسيطة سهلة القراءة قد تصيبه بعدوى تلك الأسئلة التي تطرحها، أو بالأحرى يطرحها من خلالها بطلها الذي ستحمل القصة واحداً من أسمائه. وبالتحديد اللقب الذي اختاره لنفسه ذات يوم وغلب عليه دون أن يكون في الأساس، اسمه الحقيقي. لقب "الأب سيرج" الذي صار يُعرف به منذ اختار التخلي عن الحياة العامة وعن كل ما كان قد حققه قبل ذلك لينخرط في سلك كهنوتي يبعده عن حكاية نجاحه وتألقه في تلك الحياة العامة. ومنذ البداية يقول لنا الكاتب على أي حال، وبإسهاب، الأسباب الحقيقية التي أدت بالراهب الشاب إلى إحداث ذلك التغيير الجذري في حياته، موضحاً أنها ليست أسباباً دينية أو إيمانية، بل تنطلق أولاً وأخيراً من كبرياء ذاتي تضافر مع مأساة غرامية عاشها على غير توقع. ولنعد هنا إلى البداية على أي حال. وفي البداية كان للأب سيرج اسم لامع في الحياة العسكرية والاجتماعية الروسية قبل منتصف القرن التاسع عشر بقليل. كان اسمه الأمير ستيفان كاساتسكي وهو ينتمي إلى عائلة نبيلة وتمكن رغم تيتمه منذ كان في الثانية عشرة، من التألق في الخدمة العسكرية حتى بات ضابطاً لامعاً يمكنه أن يدنو من البلاط الإمبراطوري كما يشاء جاعلاً من القيصر نيقولا مثلاً أعلى له. ولقد مكنته شخصيته البارزة ووسامته وحسن معشره من أن يخطب حسناء من أسرة نبيلة بدورها.
الجرح النرجسي
لكن الذي حدث قبل أسابيع قليلة من موعد زفافهما أن ماريا خطيبته تعترف أمامه وقد اعتقدت أن غرامهما يمكن أن يشفع لها، بأنها ذات لحظة، ولأسباب خارجة عن إرادتها، كانت عشيقة للقيصر نيقولا. ويكون لهذا الاعتراف بالطبع فعل القنبلة ليس فقط لأن الأمير الضابط الشاب مولع بخطيبته، بل لأن الاعتراف دمر له صورتين معاً: صورة ماريا، وصورة القيصر؛ وبالتالي وضعه أمام كبرياء نرجسيته الجريحة. وهكذا لم يقرر فقط التخلي عن الفتاة، بل عن كل شيء يعيشه، الثروة والمجد والمكانة والحب وكل أنواع الطموح، ليتحول إلى ناسك تحت اسم "الأب سيرج"، وينضم إلى دير بعيد. لكنه هناك ورغم انخراطه في ممارسات إيمانية تشغل أيامه ولياليه سيبدو من الواضح أن لم يتمكن أبداً، بل لن يتمكن أبداً من التغلب على كبريائه ولن يمكنه محو الأهواء التي تخيم على حياته. ترى أفلا يوضح لنا الكاتب هنا وبما فيه الكفاية أن الجرح النرجسي هو ما أوصل الأمير الشاب إلى ذلك الدير؟ وبالتالي، حتى داخل الدير وفي زحام الانطواء على النشاط المتنسك، ها هو الأب سيرج غير قادر على أن يعيش في الظل منطوياً على ذاته وعلى مأساته. ها هو يعبر خير تعبير عن تلك الشكوك والأسئلة التي تعصف ليس به فقط، بل بتولستوي نفسه كذلك. وذلك من خلال تلك المكانة الجديدة التي ستكون للأب سيرج حين يتبدى قادراً على شفاء المرضى وتحقيق بعض المعجزات الصغيرة من هذا النوع. وهو أمر يجعل له شهرة كبيرة في طول البلاد وعرضها لا تكتفي بأن تجتذب نحوه البائسين وذوي الأمراض والاحتياجات، بل كذلك أعدادا لا بأس بها من نساء يحاولن اجتذابه. لكنه يعرف كيف يقاوم ذلك الإغراء وقد ازداد شعوره بأهميته وترفعه وتحلقه من حول ذاته. بل إنه يحدث له حين تحاصره واحدة من تلك الحسناوات بصورة شديدة الإغراء، أن يشوه جسده بقطع واحدة من أصابعه كي تعف نفسه عنها. أما هي فإن الرعب يستبد بها إلى درجة الابتعاد عنه قبل أن تسير بدورها على خطاه فتدخل الدير راهبة عفيفة النفس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الوقوع في الخطيئة
لكن مقاومة الأب سيرج لن تستمر إلى الأبد حيث سيحدث له ذات يوم وفيما كان يعمل على شفاء فتاة من داء نفسي، سيحدث له أن يستسلم أمام إغرائها ويقيم معها تلك العلاقة التي ستدمر كبرياءه هذه المرة من جديد، ما يدفعه إلى ترك الدير والتجوال على قدميه من مدينة إلى أخرى باحثاً عن عزاء ينقذه من هول "الخطيئة" التي ارتكبها. لا سيما بعد أن رأى وهو بعد في الدير "حلماً إلهياً" دله على طريقة جديدة عليه اتباعها. ولسوف يقوده تشرده في الآفاق هذه المرة إلى مدينة بعيدة تعيش فيها امرأة كان يعرفها منذ كانت طفلة وها هي الآن تعيش لتقوم بأود أبنائها من كدها. ولسوف يكون لقاؤه حاسماً بهذه المرأة التي تنتمي إلى الشعب فعلاً، والتي قد يكون لنا أن نعتبرها ناطقة بلسان تولستوي نفسه، أو حاملة على الأقل لذلك الفكر النقدي الذي يجابه الكاتب – المفكر به كل تلك الحلول الواهية التي يخوضها الأب سيرج رداً على مأساته الأولى. فالمرأة وتدعى بدورها ماري، من خلال حديثها مع الناسك الصديق تدفعه لأن يكتشف ذات لحظة، ما كان عليه أن يكتشفه منذ البداية: أن مشكلته تكمن في داخله وأن اعتزاله العالم واللجوء إلى الإيمان لم يكن سوى ذريعة تغطي كبرياء فنسمعه يقول معترفاً: "لقد عشت أنا من أجل الناس مدعياً أنني أعيش من أجل الرب. أما هي فإنها عاشت من أجل الرب متصورة أنها إنما تعيش من أجل البشر".
وصية فلسفية لكاتب كبير
وهكذا على ذلك النحو فهم الأب سيرج مشكلته الحقيقية وتمكن من أن يكشف لنا في طريقه وبشكل بسيط، ما حاول تولستوي (1828 – 1910) نفسه أن يقوله في لحظات الصفاء الأعظم في نصوصه الكبرى. وإذ يكتشف الأب سيرج تلك الحقيقة البديهية يتخلى مرة جديدة عن كل شيء وحتى عن تلك المرأة وربما أيضاً عن حياة واعية غير بعيد عنها مواصلاً تجواله على قدميه من منطقة إلى أخرى في طول روسيا وعرضها ليفيدنا الكاتب في الصفحات الأخيرة بأن "بطله" قد وصل في نهاية مطافه إلى مستقر أخير في منطقة نائية من سيبيريا حيث سيقيم في عزبة يملكها مزارع ثري. وهناك "سيعيش الأب سيرج لدى سيده الجديد هذا حيث يمضي وقته في زرع الخضروات ويعلم الكتابة والقراءة للأطفال ويعتني بالمرضى". ويمكننا هنا بالطبع أن نرى في هذه "النهاية" التي بها ختم تولستوي هذه القصة التي تعتبر الأقل شهرة بين أعماله، نوعاً من وصية فكرية ربما تعبر عن اختياراته هو الشخصية حتى وإن كنا نعرف أن "الأب سيرج" لم تنشر في حياة كاتبها، بل ضمن إطار العديد من قصصه ونصوصه التي سترى النور بعد سنوات من رحيله. ولنقل هنا إن هذه القصة عبرت أكثر من أي نص آخر لتولستوي عن جوهر فلسفته ونزعته الإنسانية هو الذي كتب في يوميات له مؤرخة في الزمن الذي كان يشتغل فيه على هذا النص أن الإيمان الأفضل هو ذاك الذي يوضع في خدمة الشعب عن قناعة ورغبة في الارتقاء به، ولا يكون مجرد رد فعل يتضافر مع رغبة المرء في أن يشفي غروره الشخصي...