لا تزال الصفعة الأميركية لفرنسا بشأن صفقة الغواصات النووية لأستراليا في إطار تحالف ثلاثي يضم المملكة المتحدة باسم "أوكوس"، يتردد صداها في أنحاء أوروبا. والاثنين 20 سبتمبر (أيلول)، اتهم كبار قادة الاتحاد الأوروبي الرئيس الأميركي جو بايدن بعدم الولاء للتحالف عبر الأطلسي، وطالبوه بتوضيح سبب تضليله فرنسا وشركاء أوروبيين آخرين بشأن إقامة شراكة استراتيجية جديدة مع المملكة المتحدة وأستراليا في المحيطين الهندي والهادئ.
وقال رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل للصحافيين في نيويورك، حيث يجتمع قادة العالم في الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، "مع إدارة جو بايدن الجديدة، عادت أميركا... ماذا يعني أن أميركا عادت؟ هل عادت أميركا إلى أميركا أم في مكان آخر؟ لا نعرف". وذلك في إشارة إلى التصريحات الأميركية عقب انتخاب بايدن.
وخلال قمة افتراضية استضافها بايدن في البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، وشارك فيها عبر الفيديو كل من رئيسي الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأسترالي سكوت موريسون، أعلنت واشنطن الساعية إلى تعزيز تحالفاتها في كل الاتجاهات للتصدي لبكين، تشكيل تحالف أمني استراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ باسم "أوكوس"، يضم إليها كلاً من لندن وكانبيرا.
التحالف الدفاعي الجديد الذي ينطوي على مجالات تعاون تتعدد بين تقنيات الأمن الإلكتروني والذكاء الصناعي والقدرات البحرية تحت الماء والصواريخ الفوق الصوتية، أدى إلى تخلي أستراليا عن صفقة بقيمة 66 مليار دولار لشراء غواصات فرنسية تعمل بالديزل، إذ أعلنت كانبيرا عن خطة لبناء ما لا يقل عن ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية باستخدام التكنولوجيا الأميركية والبريطانية في شراكة أمنية ثلاثية.
تجاهل أوروبا
ومن خلال عدم التشاور مع دول الاتحاد الأوروبي بشأن الاستراتيجية الجديدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، قال ميشيل إن بايدن تجاهل اتفاقاً توصل إليه القادة بعد ساعات عدة من المحادثات في قمة مجموعة السبع في بريطانيا في يونيو (حزيران) الماضي للبقاء متحدين في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، ولا سيما الصين. مضيفاً أن "المبدآن الأساسيان للتحالف هما الولاء والشفافية... نحن نلاحظ نقصاً واضحاً في الشفافية والولاء".
وبالمثل أعربت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن استيائها خلال مقابلة مع شبكة "سي أن أن" الأميركية، وصفت فيها معاملة فرنسا بأنها "غير مقبولة" وطالبت بايدن بتقديم تفسير. وقالت إن "هناك الكثير من الأسئلة المفتوحة التي يجب الإجابة عنها"، "إحدى دولنا الأعضاء عوملت بطريقة غير مقبولة، لذلك نريد أن نعرف ماذا حدث ولماذا؟ وبالتالي، فأنت توضح ذلك أولاً قبل مواصلة العمل كالمعتاد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك التوبيخ العلني الاستثنائي للرئيس الأميركي الجديد، الذي تم الاحتفاء بانتخابه في جميع أنحاء أوروبا، كفرصة لتجديد العلاقات بعد أربع سنوات من الخلاف مع سلفه دونالد ترمب، أثار احتمال حدوث خرق خطير تمتد عواقبه طويلاً بين القوى الغربية. فالأزمة الدبلوماسية الواقعة بين باريس وواشنطن لا تقف عند الحدود التجارية، لكنها تبعث بتساؤل حول الكيفية التي تنظر بها الولايات المتحدة لحلفائها التاريخيين عبر الأطلسي، وتساؤل أبرز بشأن سبب استبعاد الحلفاء الأوروبيين من الاتفاق الأمني الثلاثي.
وبالفعل أصر رئيس المجلس الأوروبي على أنه لا ينبغي النظر إلى الخلاف على أنه مسألة مصالح اقتصادية فرنسية، بل كجزء من نمط تجاهل للحلفاء الأوروبيين ومصالحهم من قبل أربعة رؤساء أميركيين، بدءاً من قرار جورج دبليو بوش عندما شن حربي العراق وأفغانستان. وقال ميشيل، وفقاً لصحيفة "بولتيكو"، "أوباما صاحب الكاريزما، المصقول للغاية، اتخذ قرارات مهمة في سوريا ذات عواقب سلبية على أوروبا، ويمكننا أن نلاحظ أيضاً نقصاً في التنسيق والتشاور بين الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية... في الأقل مع دونالد ترمب، كان من الواضح جداً أنه لا يؤيد التكامل الأوروبي، وأن أوروبا ليست مهمة بالنسبة إليه، لكن كان ذلك واضحاً".
وأضاف ميشيل "عندما يكون التحالف عبر الأطلسي أقل قوة وأقل صلابة، فهذا ليس جيداً للأمن في أوروبا وفي كل مكان في العالم"، مضيفاً "هذا أكثر من مجرد تجارة ثنائية أو موضوع صناعي. إنه أكثر من ذلك".
وفيما أعربت فرنسا عن غضب واسع حيال التصرف الأميركي، حتى إن بعض وسائل الإعلام اعتبرت لهجتها غير دبلوماسية بعدما اتهمت الولايات المتحدة بـ"طعنها في الظهر" وبريطانيا بـ"الانتهازية"، وسحبت سفراءها من واشنطن وكانبيرا، قال دبلوماسي إسكندنافي لـ"بولتيكو"، إن ألمانيا "تشارك فرنسا القلق بشأن تجاهل الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي في هذه المسألة"، وهي نقطة أكدها مانفريد ويبر، الزعيم الألماني لـ"حزب الشعب الأوروبي" المحافظ المهيمن في البرلمان الأوروبي.
إحباط أميركي
غير أن مراقبين يرون أن المشكلة الرئيسة هي أن أميركا أظهرت علامات متزايدة على الإحباط من نهج الاتحاد الأوروبي الأكثر ليونة تجاه الصين. فلقد تسابقت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق استثمار تاريخي مع الصين في نهاية العام الماضي. وبينما يريد الدبلوماسيون الأميركيون أن تركز محادثات بيتسبرغ، المقرر عقدها الأسبوع المقبل، على صياغة أنظمة بيئية تكنولوجية تقيد الصين، فإن المسؤولين الأوروبيين يجاهدون للتقليل من أهمية أي أبعاد للتعاون التكنولوجي مناهضة لبكين.
ويقول الكاتب الأميركي جيرارد باكر، في مقاله بصحيفة "وول ستريت جورنال"، إن من خلال اتفاق "أوكوس" وجه بايدن لأوروبا درساً صعباً في الواقعية السياسية، يعكس الظروف الأمنية العالمية المتغيرة بعد 30 عاماً من انتهاء الحرب الباردة.
ويعلن أن إدارة بايدن أوضحت جلياً أن القضية الحاسمة للقرن الحادي والعشرين ستكون التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين. وعندما وصل إلى منصبه، ردد الرئيس الأميركي سرد الديمقراطيين المعتاد القائل إن احتواء صعود الصين يمكن أن يتم بشكل متعدد الأطراف، بالتعاون مع الحلفاء في أوروبا على وجه الخصوص، لكن أوروبا أوضحت أنها لا تريد الانضمام إلى هذا التنافس. فحتى فرنسا، التي تتمتع بقدرات عسكرية لإبراز قوتها عالمياً، أبدت تردداً.
ولفت باكر إلى تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، عندما قال "إننا نرى صعود استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ التي أطلقتها الولايات المتحدة، والتي تتسم بالمواجهة العسكرية. هذا ليس موقفنا". ويضيف أن الاتحاد الأوروبي يواصل رفضه تحمل أي مسؤولية جادة عن السلام والأمن العالميين، مفضلاً رؤية الفرص الاقتصادية والتجارية في العلاقة مع الصين، بدلاً من التهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي الصيني.
وتعد ألمانيا، العملاق الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، هي المحرك الرئيس وراء ذلك. وقد قادت في الفترة الأخيرة جهود الكتلة لتوقيع اتفاقية استثمار مع الصين، وقاومت محاولات الولايات المتحدة لتقييد شركة الاتصالات الصينية العملاقة "هواوي" من تطوير شبكتها للجيل الخامس. ولا تزال الصادرات الألمانية إلى الصين مصدر ملايين الوظائف الألمانية. ويشير باكر إلى أنه في ظل مناخ اقتصادي دولي غير مؤكد، لا ينوي السياسيون الألمان تعريض هذا الوضع للخطر، وهو ما أوضحه المرشحون لخلافة ميركل، في حملاتهم الانتخابية خلال الأسابيع الماضية.
تحالفات أمنية عدة
وفي ظل الظروف الأمنية العالمية المتغيرة، لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي ترتب فيها الولايات المتحدة تحالفاتها الأمنية بعيداً عن أوروبا، شركائها في "الناتو". فواشنطن هي واحدة من تحالف استخباراتي غير رسمي يضم خمس دول ناطقة بالإنجليزية بينهم المملكة المتحدة وأستراليا بالإضافة إلى كندا ونيوزيلندا. ويمثل تحالف "العيون الخمسة" أقدم شراكة استخباراتية في العالم تعود إلى أكثر من 73 عاماً، وتحديداً إلى اتفاقية UKUSA عام 1946 التي جرى توقيعها تحت ضغط الحرب العالمية الثانية. وانبثاقاً من هذه الاتفاقية، تم تشكيل هذا التحالف الاستخباراتي بعد حقبة الحرب الباردة مباشرة بهدف تبادل المعلومات لفك تشفير الاستخبارات الروسية السوفياتية.
وخلال العامين الماضيين، تكثفت أنشطة التحالف الاستخباراتي حول الصين، وأسفرت عن اتفاق دول التحالف على الضرورة الأمنية لحظر شركة "هواوي" للتكنولوجيا من المشاركة في أعمال إنشاء الشبكات الجديدة من الجيل الخامس. ففي عام 2018، كشف مسؤولون من الدول الخمس عن تشكيل ائتلاف مع حلفاء آخرين مثل اليابان، لتبادل المعلومات السرية حول الأنشطة الخارجية للصين.
وفي مايو (أيار) 2019، نشب جدل كبير تعلق بالسماح لـ"هواوي" المتخصصة في التقنية والتكنولوجيا، بإنشاء شبكة الجيل الخامس في دول أوروبية عدة وسط ضغوط كبرى من الولايات المتحدة على حلفائها لمنع الشركة الصينية من ذلك، بسبب مخاوف أمنية تتعلق بالتجسس لصالح بكين، ناهيك بتعريض البنية التحتية الوطنية الحيوية لإمكانية التدخل الأجنبي.
ودعمت الاستخبارات الأسترالية موقف أميركا بشكل لا لبس فيه، وأعربت نيوزيلندا عن مخاوف جدية بشأن الشركة، وأبدت كندا توجهاً مشابهاً، بينما شهدت بريطانيا وقتذاك انقساماً حيال الأمر. ففي حين حذَّر وزير الدفاع البريطاني غافن ويليامسون، من التجسس الصيني على البريطانيين عبر "هواوي"، قررت رئيسة الوزراء تيريزا ماي، آنذاك، السماح للشركة الصينية بالإسهام في بناء الشبكة داخل المملكة المتحدة.
ويستعد الرئيس الأميركي، نهاية الأسبوع الحالي، لاستضافة رؤساء وزراء كلّ من أستراليا والهند واليابان، في قمّة يعتزم من خلالها إحياء "الكواد" أو "الحوار الأمني الرباعي"، وهو تحالف تريد واشنطن تعزيزه لمواجهة طموحات الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.