في أقصى جنوب مصر، تقع النوبة أو "أرض الذهب" كما كان يُطلق عليها قديماً، وما يزيد على 5000 عام، عاش أهلها على ضفاف نهر النيل حياتهم البسيطة التي حافظوا على أصالتها وطابعها التقليدي حتى الآن.
وعُرفت النوبة بـ"أرض الذهب" لأن المصريين القدماء كانوا، لعصور طويلة، يستخرجون الذهب من مناجمها، ولما تتمتع به من تاريخ حضاري وتراث شعبي شديد الثراء، فإن مفردات المكان وطابعه المميز عن أي منطقة أخرى في مصر، بمثابة كنز ثمين لأي فنان يسعى إلى الحصول على صورة أو لوحة تجمع بين الماضي والحاضر والقديم والمعاصر.
"أرض الذهب" هذه دفعت المصوّر جلال المسري إلى جمع مشاهد متنوعة من تراث النوبة بين دفَّتي كتاب بهدف تسجيل وتوثيق واقع حياة النوبيين حالياً للتعريف بجانب ربما لا يراه الناس كثيراً، فحينما تذكر النوبة تتبادر إلى الأذهان البيوت الملونة والمراكب الطافية على صفحة النيل والملابس التقليدية ذات الألوان الزاهية، ولكن ماذا يوجد خلف الأبواب وما هي قصص النوبيين أنفسهم؟
يأتي الكتاب الذي أُنجز كحصيلة لرحلات متوالية إلى النوبة على مدى أكثر من 10 أعوام في أربعة فصول تضم 14 حكاية مختلفة للنوبيين عايشها المؤلف، وتواصل مع أبطالها، بشكل مباشر، وقدّم مجموعة مميزة من الصور ترتكز على فكرة علاقة الإنسان بالمكان والتفاعل بينهما.
ولا تزخر المكتبة المصرية بكثير من الكتب المصورة، على الرغم من أهميتها لأسباب عدة، من بينها الارتفاع الكبير في تكلفة إصدار هذه الكتب لاعتمادها بشكل رئيس على الصور، بالتالي ارتفاع سعرها بالنسبة إلى القارئ، وقد أوجد الكتاب حلاً لهذه الأزمة متمثلاً في طباعته بطريقة "الديجيتال" ما قلّل من التكلفة كثيراً، إذ إن الهدف الرئيس من الكتاب ليس تجارياً وإنما توثيقي لفترة زمنية من حياة أهل النوبة.
حصل بعض صور الكتاب، تحديداً فصله الأخير بعنوان "مذاق النوبة"، على جائزة الأمير سلطان العالمية للتراث الحضاري في عام 2018 التي تُعدّ أكبر جائزة عربية مخصصة للمصورين المهتمين بالحفاظ على التراث العالمي.
بداية الرحلة
عن بداية فكرة الرحلة إلى النوبة وظهور فكرة الكتاب، يقول الفنان جلال المسري لـ"اندبندنت عربية"، "ذهبت في رحلات متعددة إلى أسوان ومن بعدها النوبة، وارتبطت بالمكان وبطبيعة الناس هناك حيث الحياة الهادئة والبيوت الملونة على ضفاف النيل، وتوالت رحلاتي إلى النوبة التي بدأت بالإقامة في الفنادق الصغيرة التي تشتهر بها المنطقة، ثم مع تكرار الرحلات وزيادة علاقاتي بالنوبيين، أصبحت إقامتي داخل منازلهم وصرت أحلّ ضيفاً عليهم، ما منحني فرصة عظيمة لأن أحيا حياتهم وأسمع حكاياتهم بكل تفاصيلها وأشاهدها من الداخل، وبالطبع المعايشة تختلف كثيراً عن السمع أو المشاهدة من الخارج، ما أضاف كثيراً إلى التجربة ككل وانعكس عليها".
أضاف المسري، "الشيء الأكثر إبهاراً في حياة أهل النوبة هو الأخلاق والقيم التي تسود المكان مثل كرم الضيافة واحترام كبار السنّ الذين يُعدّون رموزاً للمكان، لهم وافر الاحترام. فالنوبة هي كنز من كنوز مصر ولكن غالباً كان يتم التطرق إليه من الخارج، فيعرفها الناس من خلال الصور التقليدية المنتشرة التي تعكس الملابس والألوان، ولكن لم يسعَ أحد لإظهار شكل حياة الناس من الداخل، أو لتوثيق طقوس وعادات قد تختفي بعد فترة بفعل التطور، مثل احتفالات الزواج أو "سبوع المولود" على سبيل المثال".
حكايات من "أرض الذهب"
التركيز على الجانب الإنساني وعلى فكرة علاقة الإنسان بالمكان أهم ما ميّز صور الكتاب، والحكايات المرفقة بالصور أضفت بعداً آخر على الصورة، ما يجعل المشاهد يراها بنظرة مختلفة بعد أن يعرف جانباً من قصة أصحابها، بخاصة مع تجول المصور في مناطق متعددة، وليس فقط في الأماكن السياحية الشهيرة، مثل جزيرة "بربر" التي تُعدّ مصيف النوبيين وأحد أهم أماكن النزهة لأهل النوبة، وأيضاً مناطق مثل جزيرة "تنجار" التي تجمع بين الطبيعة والنيل والتراث بطابع ليس له مثيل في أي مكان آخر، كذلك حرص المصور على التجول في المناسبات والأحداث ذات البعد الشعبي مثل الموالد التي تُعتبر سمة مميزة وفريدة للمكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن أجمل القصص التي يضمها الكتاب، يقول المسري، "من أجمل القصص في الكتاب، قصة لسيدة هولندية كانت تعمل كمديرة لمتحف كبير في بلادها، جاءت إلى النوبة كسائحة، وتعرفت على مراكبي، وعادت إلى بلادها، وبقيت على تواصل معه لتعود بعدها بأعوام وتتزوجه، ويعيشان الآن وحدهما لما يزيد على 20 عاماً على جزيرة ورثها المراكبي عن أجداده، وهي قصة تشبه أفلام السينما. وهناك قصة أخرى تمثل الوفاء في أجمل صورة لرجل مسنّ يجلس دائماً أمام باب منزله لأنه بعد رحيل زوجته، أصبح لا يطيق الجلوس في المنزل حيث تحاصره الذكريات، فمن يشاهد الصورة مع معرفة شعوره وقصته، سينظر إليها بمنظار مختلف تماماً عن مجرد صورة لرجل يجلس أمام منزل".
ويتابع المسري، "من القصص المميزة أيضاً صورة لشجرة جوافة زرعتها سيدة مسنّة بعد وفاة زوجها لتصبح ’شجرة الست كوثر‘، ملتقى لأهل المنطقة وعلامة من علامات المكان. وحرصت أيضاً في الكتاب على تصوير الشخصيات المهمة التي كانت شاهدة على التاريخ مثل البوسطجي الذي كان يتلقى المراسلات وقت بناء السد العالي، وعمره الآن يزيد على 90 سنة، وكذلك أقدم عازف للطنبورة (آلة موسيقية تراثية) في النوبة، وهذه الشخصيات تحظى بتقدير واحترام كبيرين من أهل المنطقة".
توثيق جزء من تراث مصر
الهدف الرئيس للكتاب توثيق حقبة معينة من حياة أهالي النوبة بكل عاداتهم وحكاياتهم لتبقى للتاريخ ولكل المهتمين، ومن هنا، فإن توزيع الكتاب على الجهات المهتمة سيكون له دور كبير في هذا الهدف. ويتابع المسري، "تحمل النوبة جزءًا كبيراً من تاريخنا وتراثنا في مصر، ينبغي أن نعمل على توثيقه والحفاظ عليه وتعريف العالم به. وأعتبر أهالي النوبة هم حراس للحضارة في جزء عزيز من مصر، ومن هنا، خطوتي المقبلة هي ترجمة الكتاب إلى لغات الأجنبية، بداية الإنجليزية، ومن ثم إهداؤه للمراكز الثقافية والسفارات لتعريف العالم والمختصين بجزء مهم من حضارة وثقافة مصر تحمله بلاد الذهب".