يرى خبراء أن الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي عزّز صلاحياته الأربعاء 22 سبتمبر (أيلول) الحالي بموجب قرار رئاسي، يسعى إلى إرساء نظام سياسي جديد، ما يثير قلقاً لدى معارضيه والمجتمع المدني.
وبموجب صلاحياته الجديدة، سيصدر سعيد التشريعات في أوامر رئاسية، الأمر الذي كان من صلاحيات البرلمان الذي جمّد الرئيس أعماله منذ 25 يوليو (تموز) الماضي.
ونُشرت الإجراءات الجديدة الأربعاء في الجريدة الرسمية، وهي "تدابير استثنائية" تتألف من 23 فصلاً لتنظيم السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وجاء فيها، "يتم إصدار القوانين ذات الصبغة التشريعية في شكل مراسيم يختمها رئيس الجمهورية". كما ورد في فصل آخر، "يمارس الرئيس السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس الحكومة"، و"تتكوّن الحكومة من رئيس ووزراء وكتّاب دولة يعيّنهم رئيس الجمهورية".
والسلطة التنفيذية، بموجب دستور عام 2014، في يد الحكومة التي تكون مسؤولة أمام البرلمان، لكنها بموجب التدابير، ستكون مسؤولة أمام رئيس الجمهورية مستقبلاً.
مرحلة انتقالية
ويرى أستاذ القانون الدستوري شفيق صرصار أن ما قام به سعيد "أقرب إلى تنظيم مؤقت للسلطة، وهذا يعني الاستعداد للانتقال إلى دستور أو نظام دستوري آخر".
ويضيف لوكالة الصحافىة الفرنسية، "لم يعُد هناك رئيس حكومة. أصبح هناك رئيس وزراء وأُلغيت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وهذا ليس استثناء".
ويؤكد صرصار أنه "أصبح هناك دستور صغير"، معتبراً أنه "تقريباً حلّ للبرلمان مع تأجيل التنفيذ ولم يتم استعمال كلمة حلّ"، بل استُخدمت عبارة "التجميد".
المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي، يعتبر من جهته أن الرئيس "هو أكثر رجل واضح في أهدافه". ويقول، "جاء لتغيير ليس فقط النظام الرئاسي، وإنما أيضاً طبيعة العلاقات بين رأس السلطة وعامة الشعب". وتمثل الأحزاب والمنظمات في تقدير سعيد "عنصراً معرقلاً" لمشروعه.
التفرد بالسلطة
يمنح دستور عام 2014 الذي أُقرّ إثر ثورة 2011، صلاحيات أكثر للبرلمان على حساب بقية السلطات، ولكن أسهم ذلك في ظهور نزاعات وخلافات شديدة بين السلطات حول هذه الصلاحيات، ما عرقل عمل الدولة، لا سيما أن الانتخابات النيابية أفرزت عام 2019 برلماناً مشتتاً ومنقسماً واجه صعوبات في الوصول إلى توافقات في خصوص الكثير من القوانين. وأعاد مراقبون ذلك إلى القانون الانتخابي الذي يسعى سعيد إلى تغييره.
ويوضح الجورشي، "لا شك في أن هناك عدداً من الإخلالات داخل دستور 2014، خصوصاً في ما يتعلق بالنظام البرلماني"، لكن "كان باستطاعة سعيد توفير أرضية لتعديل الدستور وإشراك المجتمع المدني والأحزاب"، لكي "لا يصبح منصب رئيس الجمهورية المنصب الذي تدور حوله الدولة".
ويقدّر الباحث الفرنسي في العلوم السياسية فينسون جيسير أن "الأمر الرئاسي يشرّع للنظام الرئاسي والحكم الفردي الذي انخرطت فيه تونس منذ تاريخ 25 يوليو". كما يرى أن التدابير التي أُقرّت "تهمّش البرلمان والأحزاب السياسية والسلطة التنفيذية مسندة حصراً للرئيس ولحكومة في خدمة الرئيس".
الاتجاه نحو نظام رئاسي؟
وعُنونت التدابير "بالاستثنائية" وأدخلت تغييرات على بابين مهمين في الدستور، هما السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، كما نصّت على إنشاء لجنة للنظر في مشاريع التعديلات القانونية بإشراف سعيد.
واعتبر الرئيس التونسي في منتصف سبتمبر أن "الشعب سئم الدستور والقواعد القانونية التي وضعوها على المقاس، ولا بد من إدخال تعديلات في إطار الدستور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبيّن الجورشي في هذا السياق أن "جزءًا مهماً من مشروع سعيد بدأ يتبلور أكثر فأكثر وهو التوجه نحو نظام رئاسي"، بينما يؤكد جيسير أن التدابير "تبسط الطريق لنظام سياسي جديد".
ورداً على القرارات، قال القيادي وعضو المكتب التنفيذي لـ"حركة النهضة" الإسلامية محمد القوماني، الأربعاء، "وضع الرئيس في الحقيقة تنظيماً مؤقتاً للسلطات، هو عبارة عن دستور جديد وصغير، وبذلك ينتقل الرئيس من شبهة الانقلاب والخلاف حول خرق الدستور يوم 25 يوليو إلى الانقلاب السافر على دستور 2014".
وأكد القوماني لوكالة الصحافة الفرنسية رفض حزبه القرارات الرئاسية، لأن سعيد "يضع نفسه في موضع الحكم الفردي المطلق ويدفع تونس إلى منطقة المخاطر العالية".
ويحظى سعيد "بثقة كبيرة لدى منظمات المجتمع المدني"، بحسب جيسير الذي يشدد على أن "الرئيس لديه دعم من جزء من النخبة ومن قوات الأمن، وهو رئيس قوي جداً".
سعيد المتسلح بالـ"مشروعية"
ويقدّم الرئيس التونسي نفسه على أنه المستجيب لشعار "الشعب يريد"، ومصحح لمسار ثورة 2011، من دون أن يخفي رغبته بتغيير النظام السياسي في تونس لتركيز السلطات في يد الرئيس.
ويدافع سعيد منذ قراره خوض غمار الانتخابات عام 2019، عن مشروع أساسه لا مركزية القرار السياسي عبر انتخاب مجالس محلية.
ولقيت قرارته الاستثنائية ترحيباً شعبياً واسعاً ليلة 25 يوليو، وخرج عدد كبير من التونسيين للاحتفال في الشوارع. لكن "حزب النهضة" بمرجعيته الإسلامية وأكبر الكتل البرلمانية (53 نائباً من أصل 217)، اعتبر ما قام به سعيد "انقلاباً على الثورة والدستور".
وفي 11 سبتمبر، رد سعيد على "حزب النهضة" وخصومه السياسيين، قائلاً إنهم "لا يدركون الفرق" بين الشرعية والمشروعية، مؤكداً على ضرورة "إدخال تعديلات على الدستور"، استجابة لمطالب الشعب.
"الرجل النظيف"
وسعيد البالغ 63 سنة، هو أستاذ سابق في القانون الدستوري، ويقدّم نفسه منذ انتخابه بغالبية فاقت الـ70 في المئة من الأصوات نهاية عام 2019، على أنه المسؤول الأول عن تفسير الدستور، مستنداً إلى معرفته الواسعة في هذا المجال.
ويصفه كثيرون بـ"الرجل النظيف"، إذ رفض مطلع عام 2021 استقبال وزراء عيّنهم رئيس الوزراء المعزول هشام المشيشي في إطار تعديل وزاري، لأداء اليمين بسبب شبهات فساد حولهم.
وبدأ نجم سعيد يسطع منذ ثورة 2011، حين كان دائم الظهور في البرامج التلفزيونية والإذاعية للحديث عن الإصلاحات الدستورية بعد الثورة، خصوصاً خلال وضع دستور 2014. وأسهمت النقمة الشعبية على الطبقة السياسية التي لم تحقق شيئاً من وعود الثورة والإصلاحات المنتظرة، في وصوله إلى السلطة.
ويرفض الرئيس التنازلات السياسية والتوافقات، ويتهم أحزاباً في البرلمان "بتمرير قوانين مقابل الأموال" ومن "أجل مصالحهم".
رئيس لا يساوم
يعتمد سعيد كثيراً في خطاباته على اللغة العربية الفصحى، لكن ومنذ 25 يوليو، بدأ يلجأ أحياناً إلى اللهجة العامية، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بمواضيع تهمّ المواطنين العاديين كغلاء الأسعار وتردّي الخدمات الحكومية.
ولم يتغير هندامه كثيراً بعد تولّيه الرئاسة، فحافظ على هيئة الأستاذ من خلال ربطة العنق والبزة الرسمية، وحين يتحدث لا يقبل المقاطعة.
حضوره سواء في الاجتماعات الرسمية مع المسؤولين أو في اللقاءات الشعبية، مرتبط بهيبة الأستاذ الذي يقدّم دروساً والنبيه الذي لا يمكن أن يرضخ للابتزاز وأن يقبل صفقات الفساد السياسي.
لكن محللين يحذرون من نزعته إلى التفرد في اتخاذ القرار وعدم المساومة، ما من المحتمل أن يهدد الممارسة الديمقراطية.
وأحاطت به منذ دخوله قصر قرطاج مجموعة من المستشارين، غالبيتهم غير معروفين ونادراً ما يظهرون في وسائل الإعلام، تتقدمهم أستاذة القانون الدستوري ورئيسة الديوان نادية عكاشة.
التواصل مع الناس
يحرص سعيد على زيارة الأحياء الشعبية بما فيها الحي الذي كان يقطنه في ضواحي العاصمة، ويشرب أحياناً قهوته التي اعتاد عليها منذ أعوام ويسأل عن أحوال صديقه النادل وعن أفراد عائلته.
يستقبل بين الحين والآخر شباباً من المحافظات الداخلية المهمشة ويناقش معهم مشكلات مناطقهم والحلول التي يرونها مجدية لتقليص نسبة البطالة وخلق فرص عمل.
ليس من السهل تصنيفه ضمن توجه أيديولوجي واضح، فهو يعارض عدم تجريم المثلية الجنسية والمساواة في الإرث، ولكن في الوقت ذاته يعارض تماماً "حزب النهضة" الإسلامي.
يتحدّر سعيد من عائلة متوسطة الدخل. تخرّج في المدرسة "الصادقية" التي درس فيها عدد من رؤساء تونس. درس ودرّس في جامعات القانون في البلاد لمدة طويلة قبل التقاعد عام 2018، ولا يزال أنصاره يلقبونه بـ"الأستاذ".
يحب الموسيقى العربية الكلاسيكية، والخط العربي، ويكتب بعض مراسيمه ورسائله المهمة بالخط المغربي وبالحبر والريشة.
متزوج من القاضية إشراف شبيل، وهو أب لابنتين وولد.