كرنفال نيويورك السنوي الـ76 يعيد التذكير بمعادلة الأمين العام الراحل داغ همرشولد "مهمة الأمم المتحدة ليست إيصال العالم إلى الجنة بل إنقاذه من الجحيم"، لكن هذه المهمة كانت ولا تزال صعبة وأحياناً مستحيلة. فالمنظمة الدولية التي ولدت على أيدي الكبار المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وتصور الصغار أنها ستكون "حكومة العالم"، صارت مسرحاً للصراع، ولا بد من الاحتكام إليها، انقسام المنتصرين جعلها أسيرة الحرب الباردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي، وهي اليوم رهينة حرب باردة جديدة بين أميركا والصين وروسيا، حرب يحذر الأمين العام أنطونيو غوتيريش منها، ويعلن الرئيس جو بايدن أن بلاده "لا تسعى إلى حرب باردة جديدة أو عالم منقسم إلى كتل جامدة"، وتراها الصين وروسيا على الأبواب، ويقول الخبراء حتى في أميركا إنها أصعب من الحرب الباردة القديمة.
"النظام العالمي"
وفي الأساس، كان "النظام العالمي" شعاراً لعالم متصارع يدار بالقوة تحت عنوان القانون الدولي، فالمعترض على الهيمنة الأميركية يعرف أن البديل منها ليس الحياد السويسري، والمراهن على الصين وروسيا ليس معجباً بهما بل يقوده كره أميركا، ومن يحنّ إلى أوروبا يتذكر اعتراف وزير سابق للخارجية الفرنسية بأنه "لو كانت فرنسا تتمتع بقوة أميركا، فإن هيمنتها لا تطاق"، و"الدول لا تزال اللاعب الأساسي في النظام العالمي، لا المنظمات الدولية ولا اللاعبون غير الدولتين"، كما قال الدكتور هنري كيسنجر في كتاب "نظام عالمي".
"سوق عكاظ"
والكل يعرف أن المهم في دورة الأمم المتحدة ليس ما يدور على المسرح في الجمعية العمومية بل ما يحدث من لقاءات وتفاهمات في الكواليس، فعلى المسرح نوع من "سوق عكاظ"، حيث ينفش كل رئيس أو وزير خارجية ريشه في خطاب موجه عملياً إلى داخل بلاده، وفي الكواليس، يبحث كل مسؤول عن صفقة وتسوية أو تخفيف الصراعات والأزمات التي تهمه، لكن الدنيا تغيرت، في الماضي، كانت المسألة في حضور الجمعية العامة هي الموعد أو اللا موعد مع الرئيس الأميركي. اليوم، اهتزت الثقة بأميركا والتزاماتها، وبات كلام أي مسؤول فيها مثل كلام مسؤول في زيمبابوي. والاتكال على الصين وروسيا ليس البديل، والأمم المتحدة عاجزة عن تنفيذ قراراتها، بحيث يبدو الأمين العام غوتيريش مثل الجدّ الطيب في الأسرة يحاول تلطيف الأمور، حتى الصراعات الجيوسياسية والاستراتيجية، فإنها ما عادت مركز الاهتمام الوحيد خلال الدورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاهتمامات الملحة
ذلك أن الاهتمامات الملحة في عالم اليوم هي قضايا البيئة والاحتباس الحراري والأوبئة وحقوق الإنسان، لكن الاتفاقات في شأنها تتعثر في التنفيذ، فلا كل ما جرى الاتفاق عليه في "قمة باريس للمناخ" تحقق، وأكبر مصدرين للتلوث من الصين وأميركا، ولا "مبادئ باريس حول احترام حقوق الإنسان" التي صادقت عليها الدول الأعضاء عام 1993 جرى احترامها نصاً وروحاً، وهي تنص على أن تنشئ كل دولة "هيئة خاصة بحماية حقوق الإنسان"، ولا أحد يجهل ما يحدث من خرق فظيع لحقوق الإنسان في بلدان كثيرة، بصرف النظر عن استخدام حقوق الإنسان سلاحاً سياسياً في الصراعات بين الدول.
"عالم واحد"
وأكثر ما كشف هشاشة التعهدات والرهانات على "عالم واحد" هي جائحة كورونا، الأقوياء احتكروا اللقاحات من أجل شعوبهم، وتركوا الشعوب الفقيرة بلا لقاحات أو بأقل قدر منها، ولم تنجح في تغيير الأنانيات كل الآراء الطبية المحترمة المحذرة من أن أي بلد أو شعب لن يكون آمناً من الخطر إن لم تصبح جميع البلدان والشعوب آمنة، ولا تمكنت منظمة الصحة العالمية من تقديم كل ما تريد من اللقاحات إلى البلدان الفقيرة، وحسب إحصاءات جامعة "جونز هوبكنز"، فإن ضحايا كورونا حتى الآن أكبر عدداً من ضحايا الإنفلونزا الإسبانية بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكتم غوتيريش شعوره بالظلم والتعاطف مع الدول الفقيرة بالقول إن نسبة التلقيح في بلده البرتغال وصلت إلى 80 في المئة، في حين أنها اثنين في المئة في بلدان أفريقية، أليس ما يوصف به الأمين العام للأمم المتحدة هو أنه "بابا علماني"؟ أليس فنّ السطو والخطف طلباً للفدية في هذا العالم القاسي وصل إلى مستوى قرصنة البرامج عبر الكمبيوتر وطلب الفدية؟
الانقسام السياسي في العالم ليس جديداً، الجديد هو تقدم الهموم والتحديات غير السياسية لدى سكان العالم على الانشغال بالصراعات السياسية داخل البلدان وبين البلدان، وكل دورة في علبة الكبريت الزجاجية على ضفة "البوتوماك" في نيويورك وأنتم بخير.