ثلاثة أسماء تاريخية كبيرة تحملها هذه الأوبرا التي يصعب على أي حال أن نقول إنها كانت الأشهر في تاريخ ملحنها. ومع ذلك فإن أوبرا "عذراء أورليان" التي نتحدث عنها هنا لا يمكن أن تقارن بأوبرات الموسيقي الروسي بيوتر تشايكوفسكي الكبيرة الأخرى كـ"يوجين أونيغين" أو "فتاة الكبة" أو حتى "ماتزيبّا"، ولا يعود هذا بالطبع إلى أن هذه الأوبرات الثلاث مقتبسة عن أعمال لبوشكين، إذ علينا ألا ننسى هنا أن "عذراء أورليان" مقتبسة عن مسرحية للشاعر الألماني فردريك شيلر الذي لا يقل مقاماً عن شاعر الروس الأكبر. ولكن ربما لأن الأوبرا التي شاء من خلالها صاحب "بحيرة البجع" و"كسارة البندق" أن يموسق حياة ومأساة بطلة التاريخ الفرنسي الكبرى، جان دارك، لم تأت مقنعة من حيث إن الألحان التي استخدمها تشايكوفسكي فيها كانت في معظمها سلافية، ولم تدن كثيراً من الحساسية الموسيقية الفرنسية التي كان الجمهور يتوقعها. أو فلنقل هنا إن جان دارك نفسها لم تكن خارج فرنسا على تلك الشعبية التي تتمتع بها داخلها، وبالتالي لم تثر اهتماماً كبيراً حين انكب موسيقي روسي على نص لشاعر ألماني محاولاً تقديمها لجمهور روسي لا تشكل جزءاً من مخزونه الفكري.
3 ساعات وأكثر من جهود موسيقية متفوقة
ومع هذا من المعروف أن تشايكوفسكي قد بذل مجهوداً كبيراً في صياغة عمل كبير لا يقل زمن عرضه عن ثلاث ساعات وعشر دقائق من إبداعات موسيقية تفوقت أحياناً على أي عمل آخر للموسيقي نفسه. وهذه الأوبرا التي تتوزع على أربعة فصول والتي أنجزها تشايكوفسكي أوائل عام 1881، مباشرة بعدما أنجز أوبراه الكبرى والأكثر نجاحاً "يوجين أونيغين" عام 1879، تعتبر من أطول أعماله وأكثرها طموحاً على أي حال. وهي قدمت للمرة الأولى في سانت بطرسبرغ مع مغنين من الصف الأول في مقدمتهم كامينسكايا في دور جان دارك، علماً بأن المغني بيتر سترافنسكي والد الموسيقي سترافنسكي لعب في ذلك العرض التاريخي دور الوزير دونوا. المهم أن "عذراء أورليان" وعلى عكس بقية أوبرات تشايكوفسكي العشر، أو معظمها في الأقل، لم تقدم كثيراً بعد ذلك، إذ كانت المسافة الزمنية بين تقديم وآخر لها تربو أحياناً على عشرات الأعوام، فنراها بعدما قدمت في براغ عام 1882 لتعتبر أول أوبرا للموسيقي تقدم خارج روسيا، لا تقدم في موسكو إلا في عام 1899 وتستعاد في عام 1907 هناك. ثم نراها منسية بعد ذلك حتى قدمت في برناو عام 1940 ففي بيروجيا عام 1956 ثم لايبزيغ بعد ذلك بثلاثين عاماً، مع تقديمات نادرة بين مكان وآخر. وهو مصير يتسم بالغرابة بالنسبة إلى عمل من نتاج سيد الموسيقى الروسية الكبير.
تأميم البطلة الفرنسية موسيقياً
مهما يكن فإن هذا ليس ما يهمنا هنا. ما يهمنا هو هذا العمل نفسه، الذي سيقول النقاد والباحثون إن تشايكوفسكي الذي بدا في العديد من أعماله الروسية والسلافية الضخمة، التي ستخلد إلى حد مدهش بعد تقديماتها الأولى، متوجهاً نحو نزعة موسيقية كوزموبوليتية بل تحديداً أوروبية المنحى ضمن إطار توقه الدائم إلى استلهام حداثة تلحينية كان يراها بادية التقدم في الغرب ولا سيما في فرنسا وإيطاليا، ما إن وصل إلى عمل غربي، وبالتحديد فرنسي الموضوع، حتى آثر أن يطعّم تلحينه إياه بألحان تكاد تكون في بعض اللحظات سلافية خالصة، بل روسية فولكلورية، ولا سيما في الفصل الأول، إذ يسود نوع من احتفالات شعبية بهزيمة الجيش الإنجليزي. وهنا لكيلا نستبق الأمور قد يكون من الأفضل التذكير بالصياغة التي جعلها شيلر في مسرحيته لحكاية البطلة القومية الفرنسية، التي بعدما حاربت الإنجليز وأسهمت في إلحاق الهزيمة بهم وجدت أبناء جلدتها يبادئونها بالمحاكمة والإعدام حرقاً بتهمة ممارسة السحر. وفي مقدمتهم أبوها نفسه الذي لا يتورع منذ أول المسرحية وإلى آخرها عن اتهامها بأن الشياطين تتلبسها.
معجزات فرنسية الهوى
فشيلر بدوره وكما سيفعل تشايكوفسكي بموسقته الاقتباس الروسي الذي حققه جوكوفسكي للتراجيديا الألمانية، قسم حكاية جان دارك إلى أربعة أقسام تكاد تكون متساوية، تبدأ في قرية دومريمي الفرنسية حيث تفتتح الأوبرا كما المسرحية على مجموعة من الصبايا وهن يزينَّ شجرة سنديان كبيرة على وقع غناء شعبي صاخب واحتفالي يتسم بذلك الطابع التلحيني السلافي الذي أشرنا إليه. ويدخل إلى الساحة تيبو والد جان دارك مع الشاب ريمون الذي يتطلع إلى تزويجه بها، بالنظر إلى أن الظروف صعبة وهو يرغب في أن ترتبط ابنته بزوج يحميها. وحيث تدخل جان إلى الساحة بدورها يكفهر الجو، إذ يدور الغناء الثلاثي هذه المرة معبراً عن الخوف من الغزو الإنجليزي المحتمل بل المتوقع بالنسبة إلى البعض. وذات لحظة هنا ترفض جان الاستسلام للهلع بل تؤكد النصر الفرنسي المقبل وموت سالزبيري قائد القوات الإنجليزية الغازية. وطبعاً لا يصدقها هنا أحد بخاصة أن أباها يتهمها بمسّ من الجنون وبأن الشياطين تملي عليها أفكارها الخرقاء. بيد أن المعجزة تحصل ويدخل جندي يخبرهم بانتصار الجيوش الفرنسية ومقتل سالزبيري بالفعل. وهكذا ينسى الأب اعتراضاته وينخرط مع ريمون في الاحتفالات الصاخبة بالنصر. أما جان فتعتبر أن الأصعب سيكون من الآن وصاعداً وتترك البيت لتنضم إلى الجيش اتّباعاً للأصوات التي تدعي أنها تملي عليها ذلك، أصوات يحولها تشايكوفسكي إلى غناء ملائكي رقيق تصاحبه جان بسيرينادا تعلن فيها الانتصار الفرنسي الذي سيتحقق في النهاية.
معجزة فرنسية ثانية
في الفصل التالي ننتقل إلى القصر الملكي في شينون حيث المهرجون والحواة والممثلون يتفننون في الترفيه عن الملك شارل السابع ومحظيته الحسناء آغنس، التي يقول صراحة في غناء ثنائي يؤديه مع وزيره دونوا إنه غير عازم على تركها هنا والذهاب إلى المعركة المقبلة. وهنا يدخل جندي جريح معلناً استئناف القتال وفقدان الكثير من الجنود الفرنسيين واقتراب الإنجليز. لكن هذا لا يحرك لدى شارل سوى النحيب بين ذراعي محظيته. وإذ يخرج دونوا غاضباً يعود بعد حين ليعلن أن المعجزة قد حدثت ثانية وتحقق انتصار فرنسي جديد. لا يصدق شارل ما يسمع حتى يدخل المطران مؤكداً الخبر، متحدثاً عن فارس فرنسي مغوار تحقق النصر على يديه، قائلاً إنه قد تبين أن الفارس إنما هو فتاة شابة مجهولة. وإزاء هذه التطورات ينتفض الشعب صاخباً محتفلاً من جديد، ومرة أخرى على إيقاع ألحان سلافية فيما تدخل جان باحثة عن الملك. ويكون هذا قد طلب من دونوا أن يجلس مكانه على العرش لخداع الصبية، غير أن هذه تتوجه مباشرة إلى الملك نفسه وقد تعرفت عليه وتروح شارحة له مغزى رؤاها وصلواتها والأصوات التي تحركها. وهنا لا يتورع الملك عن إسناد قيادة جيشه إلى تلك الفتاة البطلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المحرقة في نهاية الأمر
غير أن الفصل الثالث يفتح على معركة تتجابه فيها جان مع مقاتل بورغيني هو ليونيل المنضم إلى صفوف الإنجليز. ولكنها حين تهزمه ويتاح لها قتله لا تفعل ذلك بل تعفو عنه وقد أحسّت بانجذاب عاطفي إليه. بيد أن الشاب يقرر أن يسلم نفسه أسير حرب لدونوا بدلاً من أن يهرب كما تقترح عليه جان. وننتقل هنا إلى الجزء الثاني من هذا الفصل، حيث يبدأ بحفل تتويج شارل في ريمس بحضور جان ووالدها وريمون. وحين يعلن الملك أن جان تعتبر منقذة فرنسا يقول الأب زاعقاً إنها واقعة تحت تأثير الشياطين. وهنا إذ يهيب الملك والمطران بجان أن تدافع عن نفسها، لا تحير الفتاة جواباً وهي على قناعة بأن عواطفها تجاه ليونيل إنما هي دليل على ذنبها وخطيئتها. وهي تحافظ على هذا الموقف حتى في الفصل التالي والأخير الذي تحكم عليها فيه محكمة كنسية بالحرق، وتحرق بالفعل وسط غضب سكان مدينة روان، حيث تنصب المحرقة على وقع نشيد جنائزي ختامي اعتبره النقاد أقوى وأجمل ما في هذه الأوبرا، التي تبقى على أية حال غريبة عن السياق العام لإنتاج بيوتر تشايكوفسكي (1840 – 1893) الأوبرالي.