Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انفجار مرفأ بيروت يدخل كتاب التاريخ الفرنسي

المستهجن أن تغيب هذه الكارثة عن مناهج لبنان وتتوقف رواية الأحداث عند جلاء جيوش الحلفاء عام 1946

في مقابل الاهتمام الفرنسي، تغيب الأحداث المعاصرة عن كتب التأريخ اللبناني ويُترك لكل طائفة وحزب تقدير الرواية التي تناسبه (اندبندنت عربية)

منذ اللحظة الأولى لانفجار مرفأ بيروت ظهر اهتمام فرنسي بهذه القضية لأهداف مختلفة، بعيداً عن المصالح السياسية التي تشكل امتداداً لانتداب فرنسا على لبنان منذ عام 1920 تاريخ إعلان دولة لبنان الكبير، لغاية الاستقلال في 1943. فقد كان لافتاً أن يتحول هذا الحدث المفجع إلى درس في كتاب التاريخ والجغرافيا الفرنسي الصادر عن منشورات "بيلان". وتأتي هذه الواقعة لتعيد تسليط الأضواء على فشل لبنان في الوصول إلى "كتاب تاريخ موحد" بسبب الاختلافات العميقة في البلاد. أضف إلى ذلك أن عدم وجود منهج رسمي موحد للتاريخ يفتح الباب أمام الروايات المختلفة والأيديولوجية، التي تزعزع الهوية الجماعية المشتركة للمواطن اللبناني في ظل انبعاث النزعات الهوياتية للجماعات اللبنانية.

انفجار المرفأ

ليس غريباً على المناهج الفرنسية التحديث المستمر للمادة، والمرونة في الطرح، والبعد الثقافي الكوني لإغناء شخصية المتعلم وإحاطته بالأحداث الراهنة، ولكن المستهجن أن يدخل انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020 في صلب المناهج الفرنسية، في وقت تتوقف رواية التاريخ في المناهج اللبنانية عند جلاء الجيوش الفرنسية والحلفاء عن لبنان في عام 1946.

يستهل التربويون الدرس بمقارنة صورية بين بيروت في المرحلة السابقة واللاحقة على الانفجار، ومن ثم ينتقل ليؤرخ أخطر الحوادث التاريخية التي تسبب بها انفجار مادة "نيترات الأمونيوم" من انفجار 21 سبتمبر (أيلول) 1921 في ألمانيا، وانفجار "نيوجيرسي" في الأول من مارس (آذار)، 1924، وانفجار "تكساس" في 16 و17 أبريل (نيسان) 1947 الذي ذهب ضحيته 581 قتيلاً، كما شهدت "تكساس" انفجاراً آخر في عام 2013. وشهدت فرنسا في تاريخها حوادث مشابهة في 28 يوليو (تموز) 1947، و21 سبتمبر 2001 في "تولوز".

تضمن الدرس أيضاً نداء الإغاثة الذي وجهته منظمة الصحة العالمية غداة انفجار مرفأ بيروت الذي أدى إلى أضرار فادحة في البنية التحتية للقطاع الصحي، لافتاً إلى حاجة المنظمة إلى مبلغ 76 مليون دولار للمساهمة في إنقاذ حياة المواطنين، كما تصف المستندات حال لبنان بعد التفجير، والمساعدات الإنسانية والإغاثية، ويتطرق إلى الاتهامات التي يسوقها المواطنون للسلطة التي تتهم بالفساد، وعدم الكفاءة، وتعتبر مسؤولة عن المأساة، ليخلص الدرس إلى مخاطر "نيترات الأمونيوم" على فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، وأضرارها البيئية.

لبنان بلا كتاب تاريخ

في مقابل الاهتمام الفرنسي، تغيب الأحداث المعاصرة عن كتب التأريخ اللبناني، إذ يُترك لكل طائفة وحزب تقدير الرواية التي تناسبه، ووضع السردية في إطار تربوي وإصدار كتاب يتوافق مع المؤسسة.

يعتبر كتاب منهاج 1968 هو أحدث كتاب صادر رسمياً عن مركز البحوث والإنماء في لبنان، وفي عام 1996 أعيد النظر بالمناهج الرسمية، وصدرت كتب على دفعات، وحده كتاب التاريخ ما زال عالقاً حتى اللحظة الراهنة.

آنذاك أشرف الأكاديمي نمر فريحة (الرئيس السابق لمركز البحوث والإنماء) ولجنة من الأساتذة على وضع كتاب التاريخ، وقامت اللجنة بمهمتها لناحية إعداد مادة ودروس تتوافق مع المنهج الرسمي المقرر من قبل الحكومة اللبنانية، إلا أن وزير التربية آنذاك عبد الرحيم مراد، علّق عملية إصدار كتاب التاريخ الموحد، وقرر سحب النسخ التي صدرت لصفوف الثاني والثالث من المرحلة التأسيسية، وحال دون صدور كتب الصفوف الرابع والخامس.

ويشير فريحة إلى أن الكتاب الجديد للتاريخ، أخذ بالاعتبار خصوصية المجتمع اللبناني، كما اعتمد مقاربة الأحداث المعاصرة من قبيل تحرير الجنوب من الإسرائيليين، وكذلك الحرب الأهلية اللبنانية بعد أن كان يتوقف التاريخ اللبناني عند الجلاء، ويتم إلغاء غالباً درس احتلال فلسطين.

دروس خلافية

يعتقد فريحة أن الدرس الذي نسف الكتاب الرسمي هو الفصل المتعلق باستقلال لبنان، الذي حمل عنوان "ذهبوا جميعاً وبقي لبنان: استقلال وطن". تضمن الدرس جدولاً بالشعوب التي جاءت إلى لبنان وخرجت مثل الرومان والصليبيين، وثار خلاف حول ذكر العرب من عدمه بسبب تحوّل الشعب اللبناني إلى عربي.

هذا الخلاف قاد إلى السؤال حول النموذج الذي اعتمد لتصنيف الشعب اللبناني، وبالتالي الانطلاق من فكرة "الأصل الفينيقي"، ويجيب فريحة، "في العمق، الفينيقيون لم يتبخروا، وتدرجت اللغة في البلاد من الفينيقية إلى السريانية، وصولاً إلى اليونانية والرومانية، واستمرت اللغة السريانية في جبل لبنان إلى حين مجيء العرب في القرن الـ16 وحقبة الفتح الإسلامي".

ويوضح فريحة أن المؤرخين يتحدثون عن واقعة مجيء الفتح العربي إلى لبنان، وهذا الأمر يتم الحديث عنه في كتاب منهاج 1968، ويضيف، "يجب عدم المزايدة لأن لبنان عربي الهوية والانتماء، وهذا مبدأ مكرس في دستور الطائف، بعد أن كان لبنان ذا وجه عربي في السابق"، ويجزم أن الكتاب أكد الهوية العربية للبنان والخروج من المنطقة الخلافية.

ذاكرة جماعية موحدة

ويعتقد فريحة أن الهدف من منع صدور كتاب تاريخ موحد، هو منع بناء ذاكرة جماعية موحدة، وقد استغل البعض وجود السوريين في عام 2001 من أجل التحريض على نسف المنهاج، وترك الكتاب في أدراج الوزارة لأن "الوزراء يعتبرون كتاب التاريخ كرة نار".

ولا يتوقف الخلاف حول الهوية اللبنانية وإنما يتعداه إلى مقاربة الحرب الأهلية اللبنانية، ويشير فريحة إلى أن المنهاج أشار إلى الخلاف بين اللبنانيين في النظرة إلى العمل الفدائي الفلسطيني ومواجهة إسرائيل، وقد تم وضع الحرب في الزاوية السلبية واعتبارها درساً للأجيال الجديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويظن الأكاديمي فريحة أن الكتاب يحتاج إلى التطوير على غرار سائر المناهج اللبنانية، ويقترح إضافة الأحداث الكبرى وبلوغ حقبة 2021 على صعيد لبنان والعالم، ولا يتوقف التأريخ على سرد الحروب وسير القادة، وإنما يتجاوزها إلى تاريخ القفزات الحضارية والعلمية، ووضع سكة التطور التقني وظهور المواطنة العالمية والرقمية.

وفي ظل غياب كتاب رسمي موحد، ظهرت سلاسل كثيرة لكتاب التاريخ في المدارس الخاصة، يحمل كل منها صبغة خاصة بالجماعة السياسية والطائفية بما يمكن وصفه بتاريخ "الشعوب اللبنانية"، ويتخوف فريحة من أن كتابة التاريخ في 2001 كانت أسهل من اليوم، لأن منسوب التأويل الأيديولوجي تجاوز مستوى النقد وقبول الحقيقة، والاختلاف على الهوية.

معايير متعددة للتأريخ

واعتمدت لجنة تأليف الكتاب، الذي لم يصدر، مجموعة من المعايير الموضوعية، ويلفت فريحة إلى التنويع في عناصر اللجنة المؤلفة لوضع الكتاب، من أساتذة المادة، وخبراء تربويين، مؤكداً إعطاء الأولوية "لكتابة تاريخ شعب، وليس تاريخ أمراء وحروب"، من هنا، الاهتمام بعادات وتقاليد، ومعاناة الشعب اللبناني، وهويته الحضارية والعمرانية من لباس، وعمارة، ومطبخ، وإعادة المناطق النائية إلى دائرة الاهتمام، كما تم التركيز على إعطاء الأولوية للواقعة التاريخية وليس للعاطفة، من "أجل قول الحقيقة وليس الأكاذيب عن تعايش في حقبات التاريخ كافة"، فالهدف من مادة التاريخ ليس مجرد الحفظ والحصول على علامات، وإنما لبناء شخصية المتعلم، وحثّه على عدم تكرار الأخطاء التي وقع فيها آباؤه.

ويتحدث فريحة عن محاولة لكتابة التاريخ بطريقة مرنة، وجعلها قابلة للنقاش والسؤال والجواب، وإجراء تمارين وبحوث تربوية حولها، منوهاً بأن الكتاب كان متطوراً للغاية من الناحية التربوية والتعليمية البيداغوجية.

في المحصلة، تفتح إعادة النظر بكتاب التاريخ الباب نحو التأهيل المهني لأساتذة التاريخ، والطرق التعليمية، للانتقال من دائرة التلقين إلى التاريخ الحي التفاعلي، كما تبرهن على أهمية القراءة الموحدة للتاريخ في تأمين الانسجام داخل لبنان بين مختلف المكونات والنسيج الثقافي.

المزيد من تقارير