دفع الشرطي الأفغاني، وهو يقبض بكلتا يديه على ابنه حديث الولادة، للمهربين ما يزيد على 500 جنيه إسترليني (686 دولاراً)، أي ما يعادل راتبه في شهرين تقريباً، وذلك كي يساعدوا عائلته على التسلل خلسة إلى ما وراء أفراد "طالبان" وعناصر حرس الحدود الباكستانيين في منتصف الليل.
وقدم واحد، وهو أب لأربعة أطفال، 50 جنيهاً استرلينياً (68 دولاراً) إضافية من أجل تنفيذ مهمة منفصلة، هي تمرير بطاقات الشرطة الخاصة به عبر الحدود الباكستانية أيضاً، إذ إن هذه الوثائق الثبوتية قد تؤدي إلى قتله إذا تم ضبطها معه، بيد أنه يدرك تماماً أنها تمثل أمله الوحيد للحصول على اللجوء.
وكانت "طالبان" قد اجتاحت أنحاء أفغانستان بسرعة خاطفة، قبل أسبوع في أوائل اغسطس (آب). حينذاك، طلب الضابط آمر الوحدة من عناصره بمن فيهم الشرطي واحد أن يتخلوا عن مواقعهم ويهربوا للنجاة بحياتهم.
وبات واحد، الذي كان في ما مضى لاجئاً مرتين، عرضة لخطر الموت على نحو مضاعف لأنه من الهزارة، وهي مجموعة إثنية شيعية مضطهدة ناطقة بالفارسية. كما أن "طالبان" كانت قد أصدرت مذكرة توقيف بحق زوجته بسبب عملها في مجال حقوق المرأة. وعلم من جيرانه أن عدداً من جنود المشاة المدججين بالبنادق قد جاؤوا إلى منزله في كابول بعد أيام قليلة من فراره مع عائلته.
يشير واحد، وهو يجلس على الأرض في مبنى خال من الأثاث بالقرب من العاصمة الباكستانية أصبح بمثابة مخيم لاجئين سري غير رسمي لعائلات الهزارة الهاربة، إلى أن "طالبان تكذب بشأن العفو العام. هذا محض كذب. فلو كان الحال كذلك، لماذا أتوا إلى منزلي بحثاً عني وعن زوجتي؟"
ويقول: "هذه هي المرة الثانية التي أكون فيها لاجئاً. قام والدي بتهريبي إلى باكستان في عام 1996 عندما استولت طالبان على السلطة للمرة الأولى، وكان عمري في ذلك الوقت أربع سنوات فقط".
"بعد خمسة وعشرين عاماً، هاهم أطفالي يصبحون الآن لاجئين أيضاً".
جدير بالذكر أن هذه العمارة المؤلفة من شقق سكنية في حي خارج إسلام آباد هي الآن مكان الإقامة المؤقت لـ80 فرداً من الهزارة. وتنام هناك عائلات بأكملها على الأرض في غرف فردية فارغة.
وقد التقى جميع الموجودين هنا بعد ما وصلوا إلى باكستان، وهم من القلائل "المحظوظين" الذين تمكنوا من الفرار عندما كانت الحدود الباكستانية مضبوطة بطريقة أقل صرامة وسط الفوضى التي شهدتها المنطقة مباشرة إثر استيلاء "طالبان" على السلطة وانسحاب قوات الناتو بقيادة الولايات المتحدة.
كما تدفق آلاف الأفغان إلى إيران عبر حدودها التي تم تشديد الأمن فيها بشكل كبير خلال الشهر الماضي. ويروج المهربون الأفغان والإيرانيون لخدماتهم علناً على صفحات في "فيسبوك" أرسلت إلى صحيفة "اندبندنت". وتابع كثيرون ممن نجحوا في الوصول إلى إيران رحلتهم عبر الطريق المحفوف بالمخاطر إلى تركيا، على أمل أن يلقوا الترحيب هناك.
يشار إلى أن عائلات الهزارة الموجودة بالقرب من إسلام آباد تفتقر إلى المال، كما أنها لا تملك الأوراق القانونية المناسبة ويكتنف الغموض مستقبلها، وهو وضع يعتبر شاهداً مؤلماً للتذكير بالعواقب الكارثية للانهيار الحاد لأفغانستان.
تحمل جميع الأسر الأفغانية هذه قصاصات من الأوراق الصادرة عن شريك محلي للأمم المتحدة تفيد بأنهم قد تقدموا بطلبات لجوء لدى السلطات الباكستانية. وإذا كان ذلك لا يمنحهم وضعية اللاجئ، فهو يبقيهم في مأمن من الاعتقال، في الوقت الحالي على الأقل. لكن مستقبلهم غير واضح.
يشير قيصر أفريدي، وهو المتحدث الرسمي باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في باكستان، إلى أن أفراد العائلات التي تملك هذه الأوراق يمكنهم العيش هنا كطالبي لجوء.
ومع ذلك، ضغطت "اندبندنت" مراراً وتكراراً على السلطات الباكستانية المحلية والوطنية في محاولة لمعرفة ما يعنيه ذلك من حيث الممارسة العملية، غير أنها لم تحصل على رد واضح.
في هذه الأثناء، يرى أفريدي أنه لم يكن هناك برنامج مخصص لإعادة توطين اللاجئين الأفغان، الأمر الذي يزيد في الإرباك.
وفي حين أصدرت بعض الدول الغربية، بما في ذلك المملكة المتحدة، تأشيرات خاصة للأفغان المعرضين للخطر ممن عملوا مع القوات البريطانية، أو اشتغلوا لدى السفارات أو المنظمات، فإن هذه التأشيرات لا تشكل في حد ذاتها برنامجاً لإعادة توطين اللاجئين.
ولا يزال هناك الآلاف ممن علقوا داخل أفغانستان غير قادرين على مغادرتها مع أنهم يرغبون في ذلك.
ويعتبر أفريدي أن "هذا هو السبب الذي يبرر دعم الأمم المتحدة لفكرة إبقاء الدول المجاورة حدودها مفتوحة أمام من يبحثون عن الأمان".
"يجب أن يكون هناك تقاسم للأعباء والمسؤوليات".
وهكذا، في حين أفرد قسط وافر من الاهتمام للمشاهد [الخاصة بالفوضى المروعة] التي تكشفت في مطار كابول، وللأجانب أو مزدوجي الجنسية ممن كانوا في حاجة إلى الخروج من أفغانستان، وأيضاً لأولئك الذين عملوا مباشرة مع الدول الغربية التي تدخلت في أفغانستان، فإن الأشخاص المعرضين للخطر الفعلي ممن لا ينتمون إلى أي من هذه المجموعات والذين تركوا في أفغانستان، لم يحظوا إلا بقدر ضئيل من الاهتمام.
وتعتبر الهزارة التي تشكل ثالث أكبر مجموعة إثنية في أفغانستان من الفئات الأكثر ضعفاً في البلاد، التي تعرضت لهجمات متكررة من قبل "طالبان" منذ عام 1996 عندما سيطرت هذه الحركة المسلحة للمرة الأولى على البلاد التي مزقتها الصراعات. وذكرت "هيومن رايتس ووتش" في عام 1998، أن "طالبان" قتلت منهم على الأرجح ما يصل إلى 2000 شخص في مدينة مزار شريف الشمالية عندما قام مقاتلوها بمطاردة رجال الهزارة وتصيدهم "بشكل منهجي".
من ناحيتها، أوضحت منظمة العفو الدولية أنها قد عثرت على أدلة تفيد بأن الهزارة الأفغان باتوا مستهدفين حالياً من جديد، فقد لقي تسعة من أبناء هذه الإثنية مصرعهم في إقليم غزنة على أيدي مقاتلي "طالبان" في يوليو (تموز)، وفقاً لتقرير صدر، أخيراً.
كما استهدفت "داعش - ك"، وهي فرع لتنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام" في أفغانستان، بشكل متكرر مجتمع الهزارة. ويعتقد أن هذه المجموعة مسؤولة عن القصف المروع لمدرسة بنات الهزارة الذي أسفر عن مقتل أكثر من 80 تلميذة في مايو (أيار) الماضي.
لذلك أعربت جميع عائلات الهزارة التي أجرت صحيفة "اندبندنت" مقابلات معها على الحدود، وفي مخيمات اللاجئين غير الرسمية في باكستان وعبر تطبيقات المراسلة المشفرة في أفغانستان، عن خشيتها من الموت إذا لم تتمكن من طلب اللجوء في الخارج.
في هذه الأثناء، أوضح مسؤولون باكستانيون، تراوحت مواقعهم من مستوى حكام أقاليم إلى وزير خارجية البلاد، في مقابلات مع "اندبندنت" أن باكستان تستضيف سلفاً نحو 4 ملايين لاجئ أفغاني ممن اتخذوا منها مقراً لهم خلال النزاعات السابقة، وأنها لن تقبل المزيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتم نفي أي شائعات عن استضافة باكستان لمخيمات اللاجئين التي تدعمها الأمم المتحدة أو مرافق لمعالجة طلبات اللجوء، نفياً قاطعاً في كل مقابلة أجرتها "اندبندنت". وهكذا، قال وزير الخارجية شاه محمود قريشي أكثر من مرة، إنه يجب بناء المعسكرات على الجانب الأفغاني، وقد تم تحصين الحدود وتشديد الإجراءات الأمنية.
وذكر لياقت شهواني، وهو المتحدث الرسمي باسم حكومة إقليم بلوشستان، حيث تقع مدينة شامان الحدودية، لصحيفة "اندبندنت" أن "بضع عشرات من العائلات" التي عبرت بشكل غير قانوني قد أعيدت من حيث أتت.
وأوضح صحافيون محليون من المنطقة لـ"اندبندنت" أن ما يصل إلى 700 شخص قد أجبروا على العودة إلى أفغانستان، ومصيرهم مجهول.
ودافع جميع المسؤولين عن الإجراءات العملية التي اتخذوها زاعمين أن "طالبان"، اليوم، مختلفة عما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، لأنها عرضت إصدار عفو عن كل الجماعات في أفغانستان، ولذلك لم يكن هناك ما يدعو إلى الخوف.
وذكر مسؤول في مركز أمن الحدود التابع لـ"طالبان" عند معبر طورخام الحدودي، على بعد 560 كيلومتراً شمال شامان، لـ"اندبندنت" أن كل من بقي في أفغانستان "آمن" ولن يُمنع أحد من العبور.
ويقول فريد الحق، نائب رئيس دورية الحدود، وهو يعتني ببندقية، "لقد جلبنا السلام إلى أفغانستان، والجميع موضع ترحيب فيها".
"نحن لا نحاول منع أي شخص. من يرد مغادرة أفغانستان يمكنه أن يغادر. لكن المسؤولين الباكستانيين صارمون هنا. وليس نحن"، على حد زعمه. لكن هذا ليس ما تقوله عائلات الهزارة.
كنت خائفة للغاية من أن تعتقلني "طالبان" وتغتصبني وتقتل أخي. لم نتمكن من العثور على العائلة فوافقنا على العبور - حبيبة، 23 عاماً
ويذكر العديد من أبناء الأسر الموجودة في بيوت اللاجئين السرية غير الرسمية في إسلام آباد أنهم انفصلوا عن أفراد عائلاتهم الآخرين الذين اختطفوا أو كانوا مختبئين لأنهم كانوا خائفين إلى درجة منعتهم من القيام برحلة طويلة إلى المعابر وتحدي الأسلاك الشائكة المتشابكة على الحدود، بشجاعة.
ويفترض أن معظم هؤلاء الأخيرين قد ماتوا.
وتقول سيما، تلميذة تبلغ من العمر 16 عاماً، أثناء روايتها قصة هروبها هي وشقيقاتها من معبر شامان، "لا نعرف مكان والدتنا أو والدنا". وتنفجر باكية بحرقة، مع أنها عادة ما تكون الأكثر جرأة في المجموعة، فيقلق انهيارها المفاجئ شقيقاتها الصغيرات، اللائي أخرجتهن الأخت الكبرى من الغرفة قبل أن يبدأن في البكاء أيضاً.
تمكنت الفتيات الأربع اللاتي تتراوح أعمارهن بين 13 و23 عاماً من التسلل بالقرب من عناصر "طالبان" وحرس الحدود الباكستانيين من خلال ارتداء البرقع، أو الحجاب الذي يغطي الوجه كله، لإخفاء مظهرهن، والذي من شأنه إذا كشف أن يدل فوراً على أنهن من الهزارة.
وتفيد سيما، الناطقة باللغة الدارية ]وهي الفارسية الأفغانية[، بأنها راحت تقول بشكل متكرر أيضاً عبارة "كاكا جانو"، وتعني "العم جون"، وهي طريقة مهذبة لمخاطبة الرجال الأكبر سناً بلغة الباشتو، التي تعد الأكثر شيوعاً بين أعضاء حركة "طالبان".
وتتابع سيما بعد استراحة قصيرة "اختفى والدي في الليلة التي سيطرت فيها طالبان على قريتنا في أغسطس، لذلك طلبت منا والدتنا الذهاب بعيداً". وتذكر أن ساقي والدتها كانت تغطيهما حروق نجمت عن هجوم سابق تعرضت له الأسرة من جانب الجماعات الموالية لـ"طالبان"، والتي تشير الفتيات إلى أنها ضايقت العائلة مراراً وتكراراً بسبب معتقداتها الدينية ولأن والدهم كان يعمل لدى جماعات حقوق الإنسان الغربية.
تحدثنا إلى والدتنا آخر مرة عندما عبرنا إلى باكستان ولكن هاتفها الجوال مغلق الآن. ولا نعرف ما إذا كان والدانا قد ماتا. نحن وحدنا. ماذا علينا أن نفعل؟- سيما، 16 عاماً
قررت والدة سيما البقاء في الخلف وإرسال الفتيات إلى الأمام، خوفاً من مطاردتهم إذا غادرت العائلة بأكملها في الوقت نفسه. وكان عليهم أن يقطعوا 800 كيلومتر في البلاد بمفردهم.
وبعد العبور، سافرت الفتيات الأربع مسافة 650كم أخرى للوصول إلى إسلام آباد بعد ما أشفق عليهن رجل أعمال من الهزارة يعيش في باكستان، ودفع لهن أجور السفر إلى العاصمة.
وتذكر سيما "تحدثنا إلى والدتنا آخر مرة عندما عبرنا إلى باكستان، ولكن هاتفها الجوال مغلق الآن. لا نعرف ما إذا كان والدانا قد ماتا. نحن وحدنا. ماذا علينا أن نفعل؟"، وهذا هو السؤال الذي يردد المبنى صداه.
ومثلاً، تشير حبيبة، 23 عاماً، التي تسكن في الطابق الأعلى، إلى أنها لم تتمكن من الوصول إلى والدها منذ أن انفصلا على الحدود قبل شهر عندما كانت تحاول أيضاً العبور عند شامان.
وكانت الشابة التي تنتمي إلى الهزارة قد هربت من كابول مع أسرتها، حين جاء المقاتلون بعد ثلاثة أيام من سيطرة "طالبان" على زمام الأمور، إلى متجرها وهو محل للخياطة النسائية والأزياء في كابول، فأطلقوا النار في الهواء، وأمروها بإغلاقه. (قتل عمها على يد طالبان قبل سنوات عدة).
انفصلت هي وشقيقها، 14 عاماً، عن بقية أفراد الأسرة، وسط الحشود الضخمة. إلا أن مهرباً أدرك أنهم من الهزارة اتصل بهم في النهاية وعرض مساعدتهم على عبور الحدود لقاء أجر محدد.
تقول وهي تبكي أيضاً: "كنت خائفة للغاية من أن تعتقلني طالبان وتغتصبني وتقتل أخي. لم نتمكن من العثور على العائلة، لذلك وافقنا على العبور".
وبعد ذلك الحين، تمكنوا من التواصل مع الجيران الذين تفقدوا منزل العائلة في كابول ووجدوه فارغاً.
الرجاء مساعدتنا، لم نكن نريد مغادرة أفغانستان. كان لدي عمل جيد، وكنا سعداء ولكن إذا عدنا سنذبح - واحد 29 سنة
من ناحيته، يقول الشرطي واحد "لا أستطيع النوم في الليل بسبب التفكير في والدي وفي بقية أفراد الأسرة. هل نجوا بأرواحهم؟"
ويرى أن المجتمع الدولي لا يمكنه أن يغض الطرف عن أولئك المعرضين لخطر الموت ويجب أن يجعل برامج إعادة التوطين مخصصة للفئات الأكثر ضعفاً، مثل الهزارة.
"الرجاء مساعدتنا، لم نكن نريد مغادرة أفغانستان. كان لدي عمل جيد، وكنا سعداء، لكن إذا عدنا، سنذبح"، كما يقول وهو يحمل طفله الجديد.
ويلفت "لقد كنت لاجئاً مرتين، والآن أطفالي لاجئون".
ويؤكد "لا أريد أن يكون أبنائي لاجئين مثلي".
© The Independent