أسقط دخول "طالبان" كابول في 15 أغسطس (آب)، بعدما عززت الحركة أنشطتها المسلحة إثر القرار الأميركي بالانسحاب من أفغانستان، حكومة أشرف غني، وأثبت فشل الجهود التي بذلت لبناء دولة ليبرالية في البلاد لحوالي عقدين.
وعلى الرغم من أن الجذور العقائدية لـ"طالبان" تعود إلى ستينيات القرن العشرين، يعود بروزها كحركة إلى الحرب الأهلية التي تلت الانسحاب السوفياتي في أفغانستان، وفي حين تعتبر إدارة بايدن فقدان تنظيم "القاعدة" نفوذه في البلاد نجاحاً يذكر، يثير الغموض الناجم عن هيمنة "طالبان" على البلاد قلقاً جدياً لدى الرأيين العامين المحلي والدولي، فسقوط حكومة نجيب الله التي تمكنت من البقاء حتى عام 1992 بدعم من السوفيات، أدى إلى صراع إثني وقبلي على السلطة بين مجموعات "المقاتلين" التي كانت اتحدت في مواجهة الاحتلال السوفياتي للبلاد.
وتأثرت كابول أكثر من غيرها بالنزاعات التي دارت في مختلف أرجاء البلاد وانتفاء العدالة وغياب نظام الدولة، وفي مسعى لتلبية توقعات الشعب الأفغاني، الذي كان يبحث عن بعض الاستقرار والعدالة في هذه الفوضى التي تسببت بها الحرب الأهلية والقمع الذي كان يمارسه نافذون محليون، بدأت "طالبان" تظهر في الأجزاء الجنوبية من البلاد انطلاقاً من عام 1994.
ووفرت حركة "طالبان" مواردها البشرية لمخيمات اللاجئين في باكستان، التي ضمت عموماً أيتاماً خلفتهم الحرب ضد السوفيات والحرب الأهلية. وعند هذه النقطة، لا بد من التأكيد على أن الحركة تحظى بدعم الاستخبارات العسكرية الباكستانية في مجالات الأسلحة والخدمات اللوجستية والاستراتيجية، واعتبر الجهاز هذا مؤسس "طالبان".
ويعود أهم الأسباب وراء هذا الدعم من باكستان إلى رغبة هذه الدولة في السيطرة على أفغانستان من ضمن سياستها المسماة "العمق الاستراتيجي"، فقد حدد خط ديورند، المرسوم عام 1893، الحدود بين الهند وإمارة أفغانستان التي كانت تحت الحكم الاستعماري البريطاني وقسمت البشتون إلى قسمين. وشكل الخط الذي قسم هذه المجموعة الإثنية الأكبر والمهمة في المنطقة أساس النزاع بين باكستان وأفغانستان بعد عام 1948. ومثلت فكرة بشتونستان، التي رفعت لواءها أسماء مهمة مثل محمد داود خان ونور محمد تركي وتستند إلى مزاعم ترتبط بالمنطقة الجغرافية التي كان البشتون يعيشون فيها، عاملاً أسهم في توتر العلاقات بين باكستان وأفغانستان.
وبتوجيه من ضباط استخبارات باكستانيين، مثل سلطان أمير ترار، المعروف أيضاً بالعقيد إمام، نجحت "طالبان" بعد تحقيقها تفوقاً جدياً في أفغانستان، في قمع الفصائل المتناحرة في البلاد فصيلاً إثر فصيل، وتمكنت عام 1996 من الهيمنة على البلاد كلها باستثناء وادي بنجشير.
ويعتمد نجاح "طالبان" هذا على أنها نالت دعم الشعب ولو جزئياً إلى جانب غياب الوحدة والإدارة الحكومية المركزية في البلاد. وتتبع "طالبان" حركة إسلامية حنفية اسمها الديوبندية وتتبنى نسخة مشوهة جداً من الإسلام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ووفق بعض المصادر تبنت "طالبان" تفسيراً تقليديا متشددا مباشراً لا يمكن تعريفه بالحركة الديوبندية. كذلك تبعد دار العلوم ديوبند في مدينة سهارانبور نفسها عن "طالبان" بسبب الممارسات والمعتقدات المتطرفة للأخيرة. وولد هذا النهج المتشدد المستند إلى الدين في صفوف "طالبان" وفُهم الحركة لتأسيس السلطة اعتماداً على العنف، نوعاً من الأمل بالاستقرار لدى الأفغان الذين كانوا قلقين من النزاع. وأكثر من ذلك، في ظل بنية اجتماعية تهيمن عليها النزاعات وغياب العدالة، تمكنت "طالبان" من تأسيس نظام قضائي، ولو بصلف، على أيدي سلطتها القضائية التي يتولاها أئمة. ولاقى هذا النظام القضائي قبولاً بفضل عمله السريع وغير المتحيز على الرغم من أن نصوصه الجزائية لا تتوافق مع القانون الحديث والتسامح الإسلامي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وواجهت طالبان التي هيمنت على البلاد بدءاً بعام 1996، كبرى مشكلاتها وذلك في مجال تأسيس نظام حكومي مقبول دولياً. وفي هذه المرحلة، لم يعترف بالسيادة الفعلية لطالبان أي بلد على المسرح الدولي باستثناء باكستان و السعودية والإمارات العربية المتحدة، لكن هذا لا يعني أن طالبان لم يخاطبها أي بلد غربي. وهذه العملية التي أدارت فيها "طالبان" البلاد انتهت مع التدخل الأميركي في سبتمبر (أيلول) 2001. وسقط نظام "طالبان" الذي زعم أنه دعم تنظيم "القاعدة" الإرهابي المسؤول عن هجمات 11 سبتمبر، مع التدخل الأميركي. واستندت استراتيجية الولايات المتحدة في هذا التدخل على مجموعات سابقة من المقاتلين تعرف باسم التحالف الشمالي، وكانت أيضاً الأطراف الرئيسة في الحرب الأهلية الكارثية. وسرعان ما انتصرت هذه المجموعات المدعومة بقوات خاصة وغطاء جوي من الجيش الأميركي على "طالبان"، وهكذا أعاد التدخل الأميركي نظام السلطة السيء التصميم للبلاد مع الأطراف الفاعلة نفسها التي جرت البلاد إلى كارثة.
لكن ليس من الممكن القول إن الولايات المتحدة وحلفاءها كانت لهم خطة قابلة للاستمرار لمرحلة ما بعد طالبان، فخطاب الحرب على الإرهاب الذي أطلقته إدارة بوش لم يكشف عن سياسة صلبة في شأن ما بعد النجاح العسكري. وفي هذه المرحلة عقد مؤتمر بون بمبادرة من الأمم المتحدة وبعض البلدان، وأسست الحكومة الأفغانية الانتقالية بقيادة حامد كرزاي في خضم مناقشات جدية. ويقتضي فهم طبيعة المشكلة الرئيسة في هذه الجهود تفحص عملية تشكيل الدولة في أفغانستان، ففي المسار التاريخي دار الصراع على السلطة في أفغانستان بين مجموعة تسعى إلى تأسيس السلطة الحكومية المركزية والنافذون المحليون في أجزاء مختلفة من البلاد. ومن الصعب جداً القول إن سلطة حكومية مركزية قوية أسست في البلاد. ومن الممكن ملاحظة هذا الصراع في بنية الدولة التي أسست بعد اتفاق بون، فقادة المجموعات المسلحة التي كانت السبب الرئيس للحرب الأهلية والنزاع داخل البلاد، حصلوا من السلطات الرسمية على مستوى من المشروعية شرط ألا يعارضوا سياسات بناء الدولة التي كانت مطبقة. وعلى الرغم من أن الحكومة التي شكلت والانتخابات التالية التي أجريت قدمت وكأنها كرست سيادة شعبية، استمرت الصراعات على السلطة بين هذه المجموعات بطرق مختلفة.
وفترة السنوات الـ 20 التي شهدتها البلاد، حيث اعتبر الشعب النزاع والحرب وضعاً مستمراً، فشلت في توليد هوية وطنية ونظام حكومي حديث، وحال هؤلاء النافذون المحليون وسياساتهم التي أولت الأولوية لمصالحهم الخاصة، من دون بسط سيادة سلطة مركزية في البلاد.
ومن الممكن رؤية هذه الصراعات الإثنية والقبلية بين مختلف المجموعات السلطوية في كل جانب من جوانب عملية بناء الدولة. مثلاً، أخذت البنية الإثنية في الاعتبار في تشكيل قوات الأمن في البلاد.
وعلى الرغم من ارتداء الجنود الزي نفسه، لم يكن ممكناً إنشاء جيش أفغاني بقيادة موحدة. وفي الشرطة الأفغانية، وزعت الواجبات الفعلية مع أخذ هذه البنية الإثنية في الاعتبار، وبدلاً من الجدارة، عمل على أساس الرشوة والمحسوبية. كذلك الأمر في نطاق إصلاح قطاع الأمن، ولم تحقق بنجاح إعادة دمج المجموعات المسلحة في البلاد داخل المجتمع، وهكذا نالت الكيانات المحلية المنافسة للحكومة المركزية والتي كانت القوى المهيمنة في مناطقها الجغرافية، المشروعية ولم يقض عليها بسبب هذه العملية السيئة التصميم.
ولم يقتصر الأمر على القطاع الأمني بل شمل المجالات كلها، وتعذر تحقيق عناصر مثل كسب المشروعية واستمالة الدعم الشعبي وإرساء بنية اقتصادية ناجحة والسلطة السياسية، وهي المصادر الرئيسة لسلطة حكومية مستقرة في أفغانستان، وأخطر دليل على ذلك الخلافات في شأن تقاسم السلطة بين عبدالله عبدالله الطاجيكي وأشرف غني البشتوني بعد الانتخابات التي أجريت في البلاد.
وحُلت الأزمة التي نشأت نتيجة لانتخابات عام 2014 بتأسيس منصب كبير الإداريين التنفيذيين في أفغانستان غير المشمول في النظام السياسي للبلاد وذلك لمصلحة عبدالله عبدالله. وحل النزاع السياسي الناشئ عن انتخابات عام 2019 بتعيين عبدالله عبدالله رئيساً للمجلس الأعلى الأفغاني للسلام والمصالحة الوطنية. وأدت وساطة الولايات المتحدة دوراً مهماً في هذه النزاعات، لكن هذا الوضع أضر بشرعية غني وعبدالله في نظر شعب البلاد.
وعكست مشكلات كثيرة في قوات الأمن الوطنية الأفغانية أيضاً في تقارير المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان المعين من الولايات المتحدة، فكل من الجيش والشرطة الأفغانيين تولى مباشرة مسؤولية ضمان الأمن في البلاد، على أساس أن كلاً منهما وصل إلى مستوى كاف من الإعداد عام 2014، لكن وبسبب المشكلات البنيوية المذكورة، لم يتمكنا من التعامل مباشرة مع "طالبان" جراء ضعف القدرات والإمكانات، وبقي الغطاء الجوي والعمل الاستخباري، العنصران الأكثر فاعلية في المعركة ضد "طالبان"، غير متوافرين بعد قرار الولايات المتحدة الانسحاب. وعلى الرغم من امتلاك الجيش طائرات، مثل 23 طائرة هجومية خفيفة من طراز "إيه 29" و45 مروحية من طراز "يو إتش 60"، لم يكن استخدامها الفاعل ممكناً.
وفي نظرة إلى تقارير المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان يتبين أن عدد قوات الأمن بلغ حوالى 307 آلاف فرد، يتألفون من 180 ألف جندي و120 ألف شرطي، في أبريل (نيسان) 2021.
ومن العوامل المهمة الأخرى المذكورة في التقارير لم يكن ثمة مشكلة كبيرة على صعيد التجهيز بالأسلحة. وعلى الرغم من ذلك أدى الافتقار إلى الإرادة والقيادة السياسيين، إلى جانب أخطاء استراتيجية وتكتيكية، إلى العجز عن استخدام هذه القوة الجوية وإلى الاستسلام من دون قتال تقريباً أمام "طالبان" في بعض المناطق.
ومثلت المشكلات المزمنة للدولة الأفغانية المذكورة أعلاه الأسباب الرئيسة لعدم القدرة على تشكيل وحدة ضد "طالبان" ولإطلاق صراع كامل. مثلاً، لم تعتبر الحكومة المركزية للأسف فشل مجموعة عرقية أو محلية ضد "طالبان" فشلاً لأفغانستان كدولة بسبب السياسات الموجهة نحو المصالح الذاتية، واختفت تماماً ثقة الشعب والمسؤولين الحكوميين، بما في ذلك قوات الأمن، في الحكومة الأفغانية والنخبة الحاكمة في البلاد.
وفي هذه الحالة أدت السياسة البراغماتية التي اتبعتها الولايات المتحدة دوراً مهماً أيضاً. وفي حين بذلت الولايات المتحدة وقوى التحالف جهوداً إدارية واقتصادية من أجل اكتساب الحكومة المركزية المشروعية من خلال نهج ليبرالي لبناء الدولة، لم تتردد في إقامة علاقات صادقة مع أطراف مثل أمراء الحرب، كانت بديلاً عن الحكومة المركزية، ومن بين الأدلة الأخرى على عدم اتساق السياسة الخارجية للولايات المتحدة يبرز الاتفاق مع حركة "طالبان"، التي لم تتمكن من إقامة حوار في فترة السنوات الـ 20، وتسببت في خسائر كبيرة على صعيد الاقتصاد والموارد البشرية أثناء الصراع.
كذلك أدى هذا الاتفاق إلى تآكل مشروعية حكومة غني في نظر الشعب الأفغاني من طريق استبعادها من المفاوضات الثنائية، والسبب الرئيس لهذا التناقض هو أن الأولويات الأمنية للولايات المتحدة تحولت إلى الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادئ ورغبة واشنطن في التخلص من العبء الاقتصادي والسياسي الثقيل.
وثمة مشكلة أخرى ينبغي ذكرها في هذا الصدد، وهي إهمال الأطراف الفاعلة الإقليمية البحث عن حلول في العمل السياسي الداخلي الأفغاني. وكما ذكر من قبل، على الرغم من أن لباكستان نفوذاً كبيراً في أفغانستان، لم تؤخذ في الاعتبار في السياسات المنفذة، وأدى عدم قدرة باكستان على إبداء تحفظاتها من خلال قناة مشروعة إلى استمرار دعمها لـ "طالبان"، وبيّن في شكل سلبي النجاح المأساوي لـ "طالبان" أن مشروع بناء الدولة في أفغانستان لم يكن لينجح من دون باكستان، بيد أن السؤال الجديد هو ما إذا كانت باكستان لديها القدرات والإمكانات الاقتصادية والسياسية الكافية للسيطرة على "طالبان" المهيمنة على أفغانستان.
وبما أن المشكلات البنيوية المزمنة للدولة الأفغانية تؤدي دوراً جدياً في هيمنة "طالبان" على أفغانستان، لا ينبغي تجاهل قدرة هذه الحركة على البقاء والتكيف. لقد ظلت "طالبان" حية ترزق بعد عام 2001، من طريق تحويل وتكييف بنيتها عما كانت عليه بين عامي 1992 و2001، عندما نشأت.
ولم تضف الحركة التي أسميت "نيو طالبان"، طالبان الجديدة، في فترة ما بعد عام 2001، إلى خطابها مسائل الدين والاستقرار والعدالة وحسب، بل رفعت كذلك لواء هوية المناضلين من أجل الحرية الذين يقاتلون ضد القوى الإمبريالية التي احتلت بلادهم.
وفي حين كانت الرشوة والمحسوبية والممارسات المسيئة إلى الشعب تقوض مشروعية الحكومة الوطنية الأفغانية، لا سيما في المناطق الريفية، عززت كفة "طالبان" كبديل. ويمكن القول إن "طالبان"، خلافاً لما يعتقد أظهرت بنية حديثة [من بنات الحداثة] جداً في التعلم من المجريات، وسرعان ما تطورت البنية التي لم تكن لديها القدرة على الصمود في مواجهة الجيوش الحديثة إلى استراتيجية عسكرية تستند إلى الحرب غير النظامية. وعلى الرغم من أن لديها خبرة حربية غير نظامية مكتسبة من الصراع مع السوفيات، يمكن القول إنها قدمت هذه المرة صورة مختلفة على صعيد تقنيات السلاح والبنية والقيادة، وأصبحت الهجمات التي نفذت في البداية مع مجموعات محلية صغيرة أكثر منهجية ومركزية مع مرور الوقت. ومن خلال إنشاء لجان عسكرية ومفتشيات محلية، جرت موازنة مفهوم الحركة اللامركزية مع بنية مركزية. كذلك حاولت الحركة تجديد نفسها استناداً إلى الاستراتيجية والفهم التكتيكي الخاصين بقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فمثلاً عندما رأت أن الهجمات على الثكنات والقواعد العسكرية التي تضم مجموعات كبيرة لم تسفر عن أي نتائج وألحقت بها خسائر جسيمة، تحولت إلى أساليب مثل الغارات على مجموعات صغيرة والتخريب واستخدام المتفجرات، وفي هذه العملية أصبحت الأجهزة المتفجرة المرتجلة أهم سلاح لـ "طالبان"، واستخدمت ألغام روسية وذخائر ومواد غير منفجرة تخص "الناتو"، مثل نترات الأمونيوم ورباعي نترات خماسي (الإيريثريتول) مهربة من باكستان لصنع متفجرات مرتجلة.
وتمكنت "طالبان" من إثبات هذه القدرة على التكيف بعدما أظهرتها عسكرياً في مجال الإدارة والسياسة الخارجية، ففي حين كان وجود فصائل مختلفة داخل المجموعة أضعف مكامن ضعفها، وعلى الرغم من الأزمة التي وقعت عام 2013 بعد وفاة الملا عمر، تمكنت بنية الحركة من الحفاظ على تماسكها. ويمكن إدراج المجموعات التي تستند إليها البنية على أنها شورى رحباري المعروفة باسم شورى كويتا، وشورى بيشاور، وشورى ميران شاه. ومن بين هذه المجموعات تدعم شورى كويتا الملا محمد عمر، نجل الملا عمر، في حين تدعم شورى بيشاور وميران شاه سراج الدين حقاني، زعيم شبكة شورى حقاني. وتقاسمت هاتان الشخصيتان المتناقضتان السلطة داخل الحركة التي تجمعت تحت قيادة مولوي هبة الله أخوند زادة، وحسم النزاع إلى حد ما.
ووفق البنية الحالية يتولى أخوند زادة القيادة بصفته أمير المؤمنين. وبهذا المعنى تعد طالبان الجديدة معقدة للغاية، فلا يمكن اعتبارها حركة إرهابية عنيفة فقط، وبالتالي هي لم تتحد فقط القدرة الأمنية والعسكرية للحكومة الأفغانية، بل أنشأت أيضاً بديلاً للقدرات الإدارية لهذه الأخيرة. ومن الممكن رؤية فاعلية هذه البنية السياسية والإدارية، لا سيما في فاعلية اللجنة السياسية التي يقودها الملا بردار في محادثات الدوحة.
وكما يتضح فإن لنجاح حركة "طالبان" في أفغانستان جانبان، الأول هو الضعف والفشل اللذان وسما الحكومة الأفغانية والجهود الخارجية التي بذلتها الولايات المتحدة والشركاء الآخرون في التحالف، أما البعد الآخر فينبع من قدرة "طالبان" على إجراء عملية تكيف سريعة في مواجهة الظروف المتغيرة، وبهذا المعنى تجدر الإشارة إلى أن الدعم الأجنبي المقدم إلى طالبان، وفي مقدمه الدعم الباكستاني، والدعم الشعبي الذي تتمتع به إلى حد ما داخل البلد، وقوتها الاقتصادية المستندة إلى إنتاج الأفيون، وكوادرها ذات الخبرة، كانت أيضاً عوامل حاسمة في نجاحها.
وفي مواجهة هذه البنية، تكبدت الحكومة الأفغانية وقوات الأمن الأفغانية، التي فقدت دعم الولايات المتحدة، خسارة كبيرة من الناحية المعنوية وليس المادية وحسب. ومثلما كان الغزو غير المخطط له للبلاد خطأ كبيراً، من الخطأ بالقدر نفسه التسرع في الخروج من البلاد بمعاهدة تضعف الحكومة الأفغانية على صعيدي المشروعية والقدرات، فسرعان ما تحول الخطاب الذي قال لـ 20 سنة بأن "الشعب الأفغاني لن يسمح له بالعودة إلى الأيام الخوالي" إلى ذريعة مفادها أن "الأفغان يتحملون مسؤولية إنقاذ بلدهم وأن الدعم اللازم لذلك متوفر".
وحال هذا الانسحاب السريع للولايات المتحدة من دون فرض تشكيل طالبان لحكومة شاملة للجميع، فضلاً عن أنه تسبب في انتصار كامل لـ "طالبان".
واليوم تتولى "طالبان" الإدارة الفعلية لأفغانستان مع رحيل الرئيس أشرف غني عن البلاد، وأصبحت نظيراً لأطراف دولية فاعلة مهمة مثل الصين وإيران وروسيا والولايات المتحدة وإنجلترا والهند، ولو ضمناً. ومن الممكن الحديث عن انتصار عسكري وسياسي، بيد أن الاختبار الحقيقي لـ "طالبان" هو اكتساب المشروعية في أنحاء البلاد كلها والابتعاد عن أسلوب إدارة الدولة المتطرف الذي يعود إلى الماضي وقبولها كطرف فاعل شرعي على الساحة الدولية. وفي نظر "طالبان" تعد مسائل أساسية مثل حرية المرأة في العمل والتعليم، وهي من أهم إنجازات أفغانستان بالمعنى الغربي، مشكلة مهمة. ومرة أخرى، لا يزال نظاما العدالة والأمن بعيدين من الفهم الحديث. وعلاوة على ذلك كله يسبب عدم وجود مصدر مهم للدخل في البلاد تبعية لجهات أجنبية، وبما أن "طالبان" غير معترف بها في العديد من الدوائر، يمثل استمرار المعونة الأجنبية أيضاً مشكلة جدية، فلا يمكن للنظام الاقتصادي في البلاد أن يعمل بإنتاج المخدرات والرسوم الجمركية وحدهما، ولذلك يعتبر القبول الدولي متطلباً مهماً، واتصال الحركة المباشر بباكستان دليل على أنها ستكون على علاقة وثيقة بهذا البلد وسترغب إيران في دور نشط في العمل السياسي في البلاد من خلال الهزارة واللاجئين الداخليين، وستحاول أيضاً إقامة علاقة اقتصادية مع البلاد التي لم تتمكن من بيعها النفط من قبل بسبب الحظر. والهند، الطرف الفاعل الحاسم في المنطقة غير راضية عن المكاسب التي حققتها باكستان، عدوتها اللدودة. وعلاوة على ذلك تعرب روسيا صراحة عن عدم ارتياحها إزاء حال البلاد. وفي هذا السياق تعد أهم ضمانة تقدمها "طالبان" إلى الأطراف الفاعلة الدولية في ما يتعلق بالعلاقات الدولية هو الاستقرار والأمن. فقد أصبحت "طالبان" التي كان ينظر إليها ذات يوم على أنها تهديد أمني، ضمانة للولايات المتحدة ضد تنظيم "داعش"، وللصين ضد مسلحي الأويغور، وللغرب وروسيا ضد المجموعات المتطرفة، بيد أن الأكاديميين والعسكريين الأميركيين يشككون بجدية في موثوقية "طالبان" في هذه المسألة، فالموقف الصارم لـ "طالبان" في ما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية، التي لا تزال تعتبر عنصراً من عناصر الاستقرار ضد التهديد الإرهابي في المنطقة، يترك الأطراف الدولية الفاعلة في مأزق جدي، وستكون إقامة علاقة مع "طالبان" من خلال النظر في المصالح الوطنية والإقليمية فقط سياسة براغماتية على صعيد النموذج الواقعي، لكنها ستعني التخلي عن الشعب الأفغاني و20 سنة من المكاسب. ولهذا السبب فمن المتطلبات الحاسمة إخضاع "طالبان" إلى ضغط من أجل اتباع سياسة داخلية مقبولة لمصلحة الشعب الأفغاني، ومع ذلك فإن حركة لا تقبل النظام الانتخابي الديمقراطي ولا تعترف بعلم البلاد ودستورها لديها إمكان محدود لإنشاء حكومة شاملة ذات قاعدة عريضة داخل البلاد.
وعلى الرغم من إطلاق بعض المعلقين على طالبان اسم "طالبان" 2.0، تحاول الحركة إحياء نهجها المتطرف القديم.
كذلك ينبغي النظر إلى تهديد اللاجئين والهجرة الناجم عن عدم الارتياح والخوف اللذين تسببت بهما "طالبان" في البلاد على أنه مشكلة مهمة لكثير من البلدان، لا سيما تركيا وإيران وباكستان، ولهذا السبب، قد يبعث الضغط الذي سينشأ على "طالبان" الأمل في منع تدفق اللاجئين هذا. ومن ناحية أخرى، حظيت حركة المقاومة التي ظهرت تحت قيادة أحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود، الذي لا يزال شخصية مفضلة وتحظى باحترام كبير في البلاد في منطقة بنجشير، بدعم نائب الرئيس أمر الله صالح. وبهذا المعنى، يمكن لهذه الحركة أن تتحول إلى انتفاضة مناهضة لـ "طالبان" في أنحاء البلاد كلها، وحتى إذا اضطر المثقفون المناهضون لـ "طالبان" الذين نشأوا في فترة السنوات الـ 20 إلى مغادرة أفغانستان، فهم سيشكلون شتاتاً خارج البلاد وسيكونون قدرة على ممارسة الضغط في عملية وضع السياسات ضد "طالبان".
لقد انتهى بالفشل اختبار الحكومات الأفغانية والتحالف الذي قادته الولايات المتحدة على مدى 20 سنة على صعيد البنية الحكومية الديمقراطية التي جرت محاولة لبنائها في أفغانستان بعد تدخل عام 2001. وبعد فيتنام، فشل النهج الخاص بقمع الانتفاضات وضمان الاستقرار من خلال بناء دولة وأمة فشلاً ذريعاً في أفغانستان أيضاً، ومنذ ذلك الوقت تواجه "طالبان" اختباراً أكثر صعوبة وجدية في شأن النقاط الحرجة المذكورة. وهذا الاختبار، الذي يعتمد عليه مصير أفغانستان، يتعلق بكيفية تكيف "طالبان" مع هذا الوضع الجديد وإلى أي مدى ستكتسب المشروعية في البيئتين الوطنية والدولية من خلال فهمها لمجالات الإدارة وقوات الأمن والسياسة الخارجية.
وتستخدم إدارة "طالبان" خطابات مفادها بأنها ليست "طالبان" القديمة لكي يقبلها المجتمع الدولي، وتقول إنها ستنفذ نهجاً حكومياً شاملاً. ومع ذلك فعند تقويم بنية الحكومة المؤقتة، يمكن القول إن أخطر مشكلة تواجهها "طالبان" هي الحفاظ على البنية التي تجمع بين عناصر مختلفة في العملية، ويبدو أن هناك نزاعاً داخل "طالبان" بين شريحة معتدلة تعطي الأولوية للعلاقات مع البيئة الدولية وشريحة محافظة تقاوم التغيير، ولهذا السبب يرى أن قرارات براغماتية اتخذت من أجل الحفاظ على تماسك البنية، ولا يمكن لهذه الحال أن تقطع بسهولة مع قيم "طالبان" وسياساتها في الماضي. وعلى خلاف ذلك قد يجر الانقسام داخل "طالبان" البلاد إلى حرب أهلية.
وتحول أفغانستان إلى عامل استقرار في المنطقة الأفغان والمنطقة يعتمد على إرساء تعاون دولي في أولوياته المكاسب الطويلة الأمد التي لا تقتصر على المصالح الوطنية والسياسية عوض المكاسب القصيرة الأمد. وعليه، ستمارس ضغوط على "طالبان" لاتخاذ خطوات إيجابية على المستويين المحلي والدولي على حد سواء. والأهم من ذلك كله أن الشعب الأفغاني يواجه معاناة إنسانية خطيرة، كما يثير الافتقار إلى خدمات الرعاية الصحية الأساسية والجوع الوشيك مخاوف كبرى، ولذلك ينبغي إرساء هذا التعاون الدولي في أقرب وقت ممكن.
*أستاذ مساعد في العلاقات الدولية، جامعة كراتيكين، تركيا