ملخص
على رغم أن الاعتراف بمزارع شبعا كسورية قد يُضعف شرعية "المقاومة" قانونياً وسياسياً، إلا أنه لن يؤدي تلقائياً إلى نزع سلاح "حزب الله"، نظراً لتعقيد التوازنات الداخلية والإقليمية.
عادت مزارع شبعا لتتصدر عناوين الأخبار والصحف اللبنانية، بعد تصريح النائب ورئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" السابق وليد جنبلاط، من قصر الشعب في العاصمة السورية دمشق أن مزارع شبعا سورية، ومطالبته بالعودة إلى قرار مجلس الأمن 242 الذي يؤكد سوريتها، وذلك خلال زيارة قام بها على رأس وفد من الحزب وعدد من مشايخ الطائفة الدرزية، حيث التقى قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، ورئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير.
إثارة جنبلاط لقضية هوية المزارع استقطبت حملة من الانتقادات والسجالات رد عليها بالقول إنه "قبل هذا السيل من الاتهامات والتهجمات، أذكر بالتالي: بعد التحرير، عام 2000، كان لي الموقف نفسه، عندما طالبت بإعادة التموضع للجيش السوري. آنذاك، جرى التخوين، واليوم أيضاً. قد تكون هناك أراضٍ يملكها لبنانيون في مزارع شبعا وكفرشوبا وغيرها، لكن الملكية شيء والسيادة شيء آخر، بعد أن أحرقت الخرائط". وأكد أن "الحكومة السورية رفضت إعطاء لبنان الأوراق الثبوتية حول لبنانية المزارع، فكان أن بقيت السيادة مبهمة حتى هذه اللحظة، لكن ربحنا سفارة"، ومتوجهاً إلى منتقديه قال، "خذوا راحتكم بالتخوين والتحليل، سنكمل المسيرة بهدوء، ونترك لكم منابر القدح والذم".
وتمتد إشكالية هوية مزارع شبعا لعقود ماضية، ولم تصل إلى حلول لأن النظام السوري البائد رفض تسليم وثائق تثبت لبنانيتها، مكتفياً بالاعترافات الشفهية.
موقع استراتيجي
قضية المزارع التي تعلو وتخبو وفقاً للرياح الإقليمية والمحلية السياسية، قال جنبلاط بشأنها إنه "بعد تحرير الجنوب، جرى تغيير الخرائط من قبل ضباط سوريين بالاشتراك مع ضباط لبنانيين، فاحتللنا مزارع شبعا، ووادي العسل نظرياً". ومن البدهي التذكير بأن مزارع شبعا هي منطقة حدودية بين لبنان وهضبة الجولان، ويمر الخط الأزرق الذي رسمته هيئة الأمم المتحدة عام 2000 على جبل السماق، وشمال قمة جبل روس، حيث يبقي معظم منطقة مزارع شبعا جنوباً له.
وتتبع شبعا لمنطقة العرقوب، وتمتاز بموقع جغرافي استراتيجي، باعتبارها حلقة وصل مع المستوطنات الإسرائيلية الشمالية والجولان، ومتنازع على هويتها بين لبنان وسوريا، وتحتلها إسرائيل منذ حرب يونيو (حزيران) عام 1967 وهي مشمولة بالقرار 242 حول الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في ذلك العام، ولا تخضع للقرار 425 والذي يتحدث عن الأراضي اللبنانية التي احتُلت عام 1982.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبلغ مساحتها نحو 25 كيلومتراً مربعاً، وتتميز بموقعها الاستراتيجي ومواردها المائية. ولعل أبرز ما يدلل على استراتيجية المزارع هو العدد الكبير من المراصد العسكرية الإسرائيلية منذ عام 1967 حتى الآن، أبرزها مرصد الفوار الذي يعد من أضخم المراصد العسكرية بالشرق الأوسط. وتشرف المزارع على جبل عامل والجليل الأعلى والجزء الجنوبي من سلسلة جبال لبنان الغربية وهضبة الجولان وسهول البقاع وحوران والحولة.
مؤامرة الانسحاب
عندما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، أطلق حينها "حلف الممانعة" على الانسحاب لقب "مؤامرة الانسحاب"، باعتبار أن ذلك هدفه زرع فتنة داخلية، لأن الانسحاب جاء مفاجئاً ومن دون مفاوضات أو شروط، وفُسر حينها على أنه محاولة لخلق فراغ أمني وسياسي داخل لبنان، مما قد يؤدي إلى تصعيد الصراعات الداخلية بين مؤيدي ومعارضي "المقاومة" أي "حزب الله".
واعتبر الحزب حينها وجهات عديدة قريبة من النظام السوري، أن ذلك الانسحاب محاولة لإضعاف الحافز الشعبي والدولي لدعم "المقاومة"، حيث توقع البعض أن ينتهي دور سلاح "حزب الله" بعد تحقيق هدف تحرير الجنوب، مما قد يؤدي إلى عزله سياسياً وتجريده من سلاحه لاحقاً تحت ذريعة عدم الحاجة إليه بعد الانسحاب.
ومع أن الانسحاب كان أحادي الجانب من قبل إسرائيل، روج "حزب الله" لوجهة نظره القائلة إنه "نصر تاريخي" لـ"المقاومة المسلحة"، حيث تم لأول مرة تحرير أرض عربية بالقوة من دون مفاوضات أو تنازلات، مما رسخ فكرة أن "المقاومة" قادرة على تحقيق إنجازات عسكرية وسياسية في مواجهة إسرائيل.
الإشكاليات
بعد انسحاب إسرائيل عام 2000، برزت قضية مزارع شبعا كذريعة لاستمرار "حزب الله" في الاحتفاظ بسلاحه، بحجة أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قائماً على أراضٍ لبنانية. وعلى رغم مطالبة لبنان بممارسة السيادة على عموم هذه المنطقة، لم تفرض الأمم المتحدة حتى الآن الانسحاب منه على إسرائيل، لاعتباره جزءاً من سوريا الخاضع لسيطرة إسرائيلية بحسب اتفاقية فك الاشتباك بين دمشق وتل أبيب، مما أثار جدلاً حول هويتها الحقيقية. ولطالما شكلت قضية مزارع شبعا سبباً لإثارة النزاع السياسي الداخلي وقضية محورية مع السلطات السورية، بسبب عدم تحديد ملكيتها، في الوقت عينه استمرار الاحتلال الإسرائيلي لتلك المنطقة.
وعادت إلى الواجهة بعد إعلان الولايات المتحدة اعترافها بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، الذي يشمل وفق التعريف الدولي والإسرائيلي مزارع شبعا. بالتالي تخضع المزارع للقرار الدولي رقم 497، وتحضر فيها قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك "أوندوف".
في السياق كان خلاف قد نشأ بين الأفرقاء اللبنانيين حول خضوع المزارع لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242 وليس لـ425، بمعنى أن تحريرها مرتبط بالانسحاب من الجولان السوري. ولم يتمكن لبنان حتى اليوم من الحصول على اعتراف رسمي من النظام السوري بلبنانية مزارع شبعا، أو بترسيم الحدود معه، وهو اعتراف تنتظره الأمم المتحدة، لتثبت لبنانية تلك المنطقة. وكان القرار الأممي رقم 1860 الذي صدر في مايو 2006، شجع في أحد بنوده الحكومة السورية على التجاوب مع مطلب نظيرتها اللبنانية الداعي إلى ترسيم الحدود المشتركة بين البلدين، لا سيما في المناطق ذات الحدود الملتبسة أو المتنازع عليها.
حسم الهوية مقابل السلام
في السابع من أبريل (نيسان) عام 2021 نشرت مجلة "نيولاينز" الأميركية مقالاً للدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف، والذي كان مبعوثاً أميركياً في سوريا، وسفيراً ومستشاراً خاصاً لشؤون المرحلة الانتقالية بدمشق في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، يسرد فيه لقاءه مع رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد، في قصر تشرين في الـ28 من فبراير (شباط) 2011، يقول "صدمتني صراحة الأسد وعدم تردده في إخبار دبلوماسي أميركي أن الأرض المعنية (مزارع شبعا) التي تعتبر الأساس في مكانة (حزب الله) المزعومة كحركة (مقاومة لبنانية) هي أرض سورية لا لبنانية".
وأبدى الأسد استعداده لحل علاقة سوريا العسكرية مع إيران، وإلزام لبنان بالتوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل وإخراج "حزب الله" من نشاطات المقاومة، مقابل معاهدة سلام بين سوريا وإسرائيل تستعيد دمشق بموجبها جميع الأراضي التي خسرتها في حرب يونيو 1967. ويضيف السفير هوف في مقالته "كان توضيح الأسد حول ملكية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا جزءاً صغيراً من محادثة بدت، في ذلك الوقت، كإضافة (الأوكتان) الذي تشتد الحاجة إليه عندما بدأت وساطة السلام تتلاشى".
وأثار حديث الأسد عن مزارع شبعا وامتدادها الشمالي الشرقي المعروف باسم تلال كفرشوبا اهتماماً أميركياً في تلك الفترة، فالمناطق المذكورة احتلتها إسرائيل عام 1967 كجزء من مرتفعات الجولان السورية، وهي ذات كثافة سكانية منخفضة، وتتعامل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان (اليونيفيل) معها، باعتبارها أراضي سورية محتلة.
يذكر أن هوف كان زار لبنان عام 2012 ورسم الخط (خط هوف) الذي اقترح من خلاله أن يجري تقاسم المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل عند الحدود البحرية الجنوبية.
ذريعة "حزب الله"
في مقالته يذكر الدبلوماسي الأميركي أنه جرى فصل سبع قرى شيعية في شمال فلسطين عن المجتمعات ذات الصلة في لبنان من خلال ترسيم الحدود الأنجلو - فرنسية لفلسطين ولبنان الكبير، الذي اكتمل في 1924. وفي عام 1948 جرى طرد القرويين من فلسطين إلى لبنان، بواسطة هجوم عسكري إسرائيلي. وأضاف "سبق أن وجهت سؤالاً لرئيس الحكومة اللبنانية السابق سليم الحص عام 2000، حول القرى السبع، فبدا حائراً ومحرجاً. بعد عام 2000، أكد (حزب الله) ضرورة تنفيذ انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي اللبنانية. فلو لم يستمر الاحتلال فضد من كان يقاوم (حزب الله)؟ ومن دون مقاومة كيف كان لإيران أن تحافظ على ميليشيات مسلحة في لبنان مستقلة عن القوات المسلحة اللبنانية؟ فلجأ (حزب الله) أولاً إلى بالون اختباري أول اسمه القرى السبع".
ويواصل هوف، "تابعت وتعمقت وكتبت حول الجدل على مزارع شبعا منذ ابتداعها كمشكلة، ففوجئت (وسعدت) ليس فقط برفض الأسد المطالبة اللبنانية بالمنطقة، وإنما اعتراف حكومته بها أيضاً. أما بالنسبة إلى المحادثات المحتملة مع لبنان حول التعديلات الحدودية، فقد جرت بالفعل مفاوضات ثنائية رسمية قبل خسارة مرتفعات الجولان، ولم تتنازل سوريا عن أي شيء لجارتها اللبنانية. ومع ذلك لم يصدر عن الدولة اللبنانية شيء حيال احتلال أي من أراضيه عام 1967، إلى أن خرج الادعاء بذلك بعد 33 عاماً. كانت المنطقة التي يطلق عليها اسم مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الإدارة السورية حتى يونيو 1967 عندما احتلتها إسرائيل".
وبالعودة إلى موقف وليد جنبلاط، فإن هناك أسئلة كثيرة تطرح عن لماذا اختار أن يطلق تصريحه من دمشق، وهل أراد أن يوجه رسالة مفادها أن إسرائيل تحتل أراضي سورية لا لبنانية، وتحويل وجهة النزاع إلى سوريا وإسرائيل، وبالتالي لم يعد هناك نزاع على الحدود اللبنانية، ما ينفي الحاجة إلى "المقاومة" ضد أي احتلال إسرائيلي؟.
وبغض النظر عن أن الإعلان بأن المزارع سورية يثير انقسامات داخلية حادة، سابقاً واليوم، فإن الاعتراف بذلك كان سيجنب لبنان حروباً متعددة مع إسرائيل، لكن في الوقت نفسه، كيف كانت ستستمر سردية "المقاومة" التي جعلت من المزارع رمزاً لتحرير الأرض، وأداة لتبرير استمرار الحزب في التسلح.
في المقابل، فإن مثل هذا الإعلان كان قد يُسرع عملية تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل في ظل اتفاقيات سلام مماثلة لما حدث مع مصر، والأردن، والإمارات العربية، والبحرين، لكن هذا حتى الآن ليس مقبولاً داخلياً بسبب الانقسامات الطائفية والأيديولوجية. من هنا قد يكون جنبلاط فضّل الصمت أو الضبابية بشأن تبعية مزارع شبعا لعدم إثارة خلاف داخلي أو إقليمي قد يجر لبنان إلى عزلة أو تفجير سياسي داخلي. كما أنه راعى التوازنات الإقليمية والدولية، خصوصاً أن مسألة شبعا كانت تُستخدم كذريعة لإبقاء سلاح "حزب الله" نشطاً، ولعبت دوراً محورياً في تحديد مستقبل العلاقات اللبنانية- الإسرائيلية.
الاعتراف وتأثيره
تعد مزارع شبعا رمزاً أساسياً في خطاب "المقاومة" منذ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، حيث اعتُبرت آخر بقعة محتلة تُبرر استمرار عمل "المقاومة" وسلاحها. سوريا، بدورها، لم تصدر وثيقة رسمية تؤكد تبعية المزارع للبنان، مما أبقى الملف مفتوحاً ومبهماً عن قصد، لتعزيز موقف "حزب الله" السياسي والعسكري. وإذا أُعلن رسمياً، وبدعم داخلي، أن المزارع سورية، فإن مبرر "المقاومة لتحرير الأرض اللبنانية المحتلة" يسقط تلقائياً. وتصبح مسؤولية تحرير المزارع سورية، وبالتالي تنتقل شرعية "المقاومة" إلى دمشق، لا بيروت. وهذا يُضعف مكانة "حزب الله" كمدافع عن السيادة الوطنية، وسيفقد الجماعة المصنفة إرهابية في العديد من الدول، الغطاء الوطني للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ما قد يُسهل الضغوط الدولية لنزع سلاحه.
لكن في المقابل، لماذا قد لا ينهي الاعتراف فعلياً سلاح "حزب الله"؟ ذلك لأنه لا يعتمد فقط على ملف شبعا لتبرير سلاحه، بل على مفهوم "حماية لبنان من التهديد الإسرائيلي"، وهو خطاب قابل للتطوير وفق الظروف. أيضاً التدخل الإقليمي في سوريا والعراق واليمن أضاف بُعداً عقائدياً وعسكرياً لوجوده، مما يجعل سلاحه أداة ضمن محور أوسع بقيادة إيران. إضافة إلى أن الحزب يمثل شريحة واسعة من الطائفة الشيعية التي ترى في سلاحه حماية للوجود الطائفي في مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية. وحتى لو اعترف لبنان بأن شبعا سورية، فإن خطر العدوان الإسرائيلي (مثل اغتيالات القادة أو الغارات الجوية) يوفر لـ"حزب الله" حجة جديدة للبقاء مسلحاً تحت شعار "الدفاع والردع". أيضاً إسرائيل لا تزال ترى في "حزب الله" تهديداً وجودياً، وأي محاولات لنزع سلاحه قد تؤدي إلى تصعيد عسكري بدلاً من حل سياسي.
ومن السيناريوهات المحتملة بعد الاعتراف أنه قد يؤدي إلى مطالبة دولية وإقليمية بتسليم سلاح "حزب الله" للدولة، ما يُجبر الحزب على التحول إلى قوة سياسية بحتة. لكن في المقابل يُمكن أن يتحول الاعتراف إلى أزمة داخلية، حيث يرى الحزب وحلفاؤه أنه مقدمة لنزع سلاحه، ما يُشعل خلافات طائفية وسياسية قد تصل إلى صدامات داخلية. وقد تستغل إسرائيل الاعتراف كمبرر لتوجيه ضربة استباقية لـ"حزب الله"، بحجة إزالة التهديد العسكري بعد سقوط شرعيته. وقد تعزز إيران من دعمها للحزب، معتبرةً أن نزع سلاحه تهديداً لمصالحها الإقليمية.
وعلى رغم أن الاعتراف بسورية مزارع شبعا قد يُضعف شرعية "المقاومة" قانونياً وسياسياً، فإنه لن يؤدي تلقائياً إلى نزع سلاح "حزب الله"، نظراً لتعقيد التوازنات الداخلية والإقليمية. وسيبقى سلاح الحزب مرتبطاً بعوامل أوسع تشمل التهديد الإسرائيلي، والارتباط بمحور إيران، والانقسام الداخلي اللبناني. هنا يتوقف الأمر على كيفية تعامل المجتمع الدولي والقوى الإقليمية مع هذا الاعتراف، وما إذا كان سيمهد لتفاهمات جديدة أو يعمّق النزاعات القائمة.