يروى في الأوساط اليهودية الإسرائيلية عادة، بشيء من التندر كما ببعض المبالغة أن ديفيد بن غوريون كان يقول بمرارة خلال سنواته الأخيرة، إن أكثر ما يسبب له المرارة أن المعركة الكبرى التي خسرها في حياته لم تكن ضد أعدائه الخارجيين ولم تكن معركة سياسية، بل كانت معركة يحب أن يطلق عليها اسم "معركة سبينوزا". والحقيقة أن هذا الاسم لم يكن رمزياً بالنسبة إلى ذاك الذي كان يعتبر أقوى رئيس وزراء مر على الدولة العبرية، وربما أيضاً الرئيس الذي يمكن اعتباره المؤسس الحقيقي لذلك الكيان إذ تحول إلى دولة. كان الاسم مباشراً ومنطقياً بالنظر إلى أن تلك المعركة كانت تهدف إلى السعي لرفع حظر كان الحاخاميون اليهود في معبد أمستردام قد فرضوه على الفيلسوف المنشق قبل مئات السنين وظل ساري المفعول ولا يزال حتى اليوم رغم كل الجهود التي بذلها كثر من مفكري اليهود ووصلت إلى ذروتها مع تدخل بن غوريون الذي انتهى إلى الفشل بدوره.
مطرود وملعون من يقترب منه
يعود الحظر الذي يسمى في العبرانية، كما حاله في العربية تقريباً "حُرماً" إلى السابع والعشرين من يوليو (تموز) عام 1656 حين اجتمع حكماء المعبد اليهودي البرتغالي في أمستردام، مسقط رأس المفكر الشاب باروخ سبينوزا، ليعلنوه خارجاً عن الدين في عبارات لم يجابه بمثل قسوتها أي مفكر آخر في تاريخ ذلك المعبد. في ذلك الحين كان سبينوزا يدنو من الرابعة والعشرين من عمره. ومع ذلك عومل من قبل الحكماء كما يعامل مفكر عتيق خائن افترض أنه أضر المعبد وسدنته بشكل لا براء منه. وحكم عليه بالنفي خارج الجماعة وبألا يقترب أحد منه أو يقرأ كتاباته أو يقدم له أي مساعدة، بما في ذلك أهله الذين لا بد من القول هنا إنهم سوف يكونون في مقدمة الذين التزموا بالحرم وطبقوه. كان الحرم يقول بكل وضوح وبحكم ذي لغة مبرمة: "إننا بعون الحكم الصادر عن الأولياء والملائكة، نعلن استبعاد وطرد باروخ دي سبينوزا ونلعنه ونفرض عليه الحرم. (...) ألا فليشعل القدير ضد هذا الرجل آيات غضبه كله وليصب عليه كل أنواع الشرور المذكورة في كتاب الشريعة". وإثر ذلك يمنع الحرم أياً كان من الاقتراب من سبينوزا "أقل من أربع أذرع"، أو أن "يقرأ أي حرف من كتاباته" وطبعاً "أن يطعمه أو يسقيه...".
بقايا عصر الأندلس الذهبي
لقد كان ذلك أقسى وأقصى حكم يمكن أن يصدره الحكماء على يهودي في وسط تلك الأقلية البرتغالية المتشددة التي كانت قد انتقلت حديثاً لتعيش في البلاد الواطئة هاربة من محاكم التفتيش الكاثوليكية التي كانت تمارس شتى أنواع الإكراه على قوم كانوا قد اعتادوا أن يتعايشوا مع الأقوام الأخرى خلال العصر الذهبي للأندلس الإسلامية وها هم يجدون أنفسهم اليوم مهددين ومرعوبين إلى درجة اقتصاصهم ممن يحاول في أوساطهم التفكير بشكل مختلف عنهم. ولكن ما الذي فعله ابن الرابعة والعشرين يومها لكي يثير ثائرة رجال الدين ويجعلهم يجمعون على طرده ولعنه؟ بالتحديد: فكر على غير الشاكلة التي كانوا يفكرون بها قائلاً بشكل أساسي إنه ليس في حاجة إليهم كي يقر بوجود الله والعناية الإلهية. بالنسبة إليه كان عقله وعلمه يؤديان به إلى ذلك الإقرار. وهكذا بكل بساطة نفى سبينوزا الحاجة إلى أولئك البشر بين البشر، معلناً أنه لا هو يحتاجهم ولا الرب يحتاجهم حقاً! صحيح أن ردهم الفكري عليه سيكون مختلفاً عما جاء في الحرم إذ اعتبروه مارقاً ملحداً لا يؤمن بأن لهذا العالم خالقاً. أما هو فإنه، إضافةً إلى مواقفه المعلنة وبخاصة في رسائله كما بعد ذلك بسنوات عديدة، في الكتاب الأساسي المعنون "دراسة لاهوتية – سياسية"، سوف يضع لاحقاً واحداً من كتبه الأساسية وهو كتاب "الأخلاق" لكي يبرهن فيه هندسياً ومنطقياً، وبالتالي بشكل قاطع بالنسبة إليه، على وجود الخالق الذي ترك للآخرين أن يطلقوا عليه الاسم الذي يناسبهم.
تفسير لا اعتذار
أما بالنسبة إلى رد فعله المباشر على "الحرم" فإنه، إذ دعاه بعض الوسطاء للتقدم باعتذار يتراجع فيه أمام الحكماء، اكتفى بإصدار بيان "تفسيري" يبرر فيه خروجه عن المعبد وعدم اعترافه بأحكامه. وهكذا حدثت القطيعة التي لا تزال قائمة حتى اليوم والتي كان بن غوريون من أشهر محاولي إيجاد نهاية لها تعيد باروخ سبينوزا إلى الصراط المستقيم... وربما رغماً عن هذا الأخير الذي تقول لنا سيرته إنه لم يسع في حياته إلى ذلك. بل أمضى تلك الحياة بين أناس يفكرون مثله مصدراً كتباً غفلة من التوقيع وكاتباً رسائل محملة بأفكار مشاكسة، صابراً على ظلم الأهل والأقربين معتداً بفكره الحر وإيمانه العميق الخارج عما يفرض عليه من خارج ضميره.
خلفية حقيقية ومفترضة
منذ البداية إذا سجل سبينوزا تلك القطيعة مع الكهنوت، وهو أمر تحدث عنه تقرير قدم إلى محاكم التفتيش في مدريد رصد "موبقات" المفكر الشاب وفي مقدمتها "اختلاطه بالكفرة الملحدين" و"زعمه أن التوراة كتاب غير صحيح، وأن الروح تفنى بفناء الجسد" ناهيك بأن "الخالق لا يمكن البرهنة على وجوده إلا فلسفياً". ويقول التقرير إن "تلكم هي الأفعال الوحشية التي اقترفها هذا المارق". ولكن في الحقيقة، من الواضح هنا، لا سيما على ضوء قراءة كتب سبينوزا التي سينجزها متكاملة خلال المراحل التالية من حياته لكن معظمها لن ينشر إلا بعد رحيله عام 1677، بخاصة أن ما من ناشر رضي بأن يجازف بإصدارها، من الواضح أن تلك التهم لئن كانت صحيحة في الشكل فإنها كانت مبالغة في المضمون. ومن المؤكد أن القراءة الدقيقة والموضوعية لتلك الكتابات ستجعلنا نقر بأن معركة سبينوزا لم تكن مع الإيمان نفسه، ولكن مع الكهنوت الذين كان يرى أنهم يحتكرون الدين دون وجه حق ولمصالح سياسية خاصة بهم تتنافى على الأرجح مع صدقية الدين وتسعى إلى الاحتفاظ بأرجحية سياسية بمعنى أن الدولة وسياساتها هي المستهدفة في الحقيقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السياسة أولاً وأخيراً
فلئن كانت مواقف سبينوزا من المسألة الإلهية قد شوهت من قبل الذين حكوا عليه بالحرم، لا بد هنا من أن نختم بأن ذلك التشويه إنما كان مقصوداً للتعمية على مواقف أكثر سياسية عبر عنها ذلك المفكر حين رسم للدولة مهمات تتناقض مع المهمات الثانوية التي كان الكهنوت يرسمها لها بغية الحفاظ على مكاسبه. وحسبنا للتدليل على ذلك الأمثلة التالية المستقاة من كتابات سبينوزا نفسها. فبالنسبة إلى سبينوزا، ليس من مهمات الدولة أن تحول المواطنين من كائنات عاقلة إلى بهائم أو جماد، بل عليها أن تسعى إلى تمكينهم من أن يطوروا أجسادهم وعقولهم بطمأنينة وأمان، وأن يستخدموا عقولهم بكل حرية وألا يتنافسوا فيما بينهم في مجال الكراهية والغضب والمخادعة، وألا ينظر واحدهم إلى الآخر بعين الغيرة والحسد والظلم. أما الدولة فلا بد أن تبقى ضامنة لذلك كله. فإن كان لها أن تزول فإن الحرية المطلقة وحدها هي التي تحكم عليها بالزوال...".
أيها الغر قد خُصصت بعقل
إذاً، بالنسبة إلى سبينوزا وكما أكد مرات عديدة لا سيما في كتابه الرئيس "دراسة لاهوتية – سياسية" طالما أن الخالق قد زود كل مخلوق بعقل يفكر به، فإن لكل إنسان الحق في أن يفكر بحرية وأن يحكم على الأمور ويقول ما يشاء. وكمثال على هذا يقول سبينوزا: "مثلاً، إذا رأى مواطن ما أن قانوناً من قوانين الدولة يتنافى مع العقل السليم، ويرى أن من الواجب تغييره لهذا السبب، وإن أبلغ حكمه هذا إلى سيد البلاد (الذي يعود إليه وحده وضع القوانين ومحوها)، لكنه في تلك الأثناء لم يفعل ما يخالف ذلك القانون، سيكون ذلك المواطن جديراً بمواطنيته في الدولة، أما إذا في المقابل، اتهم القاضي الأعلى بالظلم وإذا عمد إلى تشويه صورته في نظر الجماعة ووصمه بالسوء، ساعياً إلى مخالفة القانون رغم أنف القاضي، فلن يكون سوى مشاكس على النظام العام ومواطن متمرد".