ستبقى أنغيلا ميركل مستشارة ألمانيا لفترة من الوقت بعد، إلى أن ينشأ تحالف جديد، لكن حملة الانتقادات اللاذعة ضدها قد بدأت. فتعرضت للهجوم لأنها كانت متسامحة للغاية مع روسيا، أو حتى أسوأ بعد، لأنها سمحت لدولة من المحتمل أن تكون عدائية، بفرض سيطرتها على إمدادات الطاقة لديها من خلال دعمها لخط أنابيب نورد ستريم 2.
كما أن قرارها بالتخلص التدريجي من الطاقة النووية أدى إلى زيادة اعتماد قطاع الكهرباء في ألمانيا على الفحم والليغنيت (أي الفحم البني)، اللذين أمنا ثلث كمية الطاقة الكهربائية في البلاد خلال العام الماضي. وفي منحى مقابل، انهالت عليها الانتقادات في كثير من القضايا الأخرى أيضاً.
ولكن مهما كان رأيك في سجلها، هناك شيء واحد يبرز عن سواه. لقد حقق الاقتصاد الألماني نجاحاً باهراً. خذ البطالة على سبيل المثال. وصلت نسبتها 5 في المئة قبيل الوباء، بعد أن انخفضت من 12 في المئة تقريباً في عام 2005 عندما تولت ميركل منصبها. أو انظر مثلاً إلى وضع ألمانيا المالي. في 2005، بلغ العجز أكثر من 3 في المئة، متخطياً المستوى المحدد في ميثاق النمو والاستقرار الأوروبي. وبحلول عام 2019، كانت البلاد تحقق فوائض كبيرة في الميزانية. وازدادت الصادرات بقوة، محولة البلاد حاضراً إلى أكبر مصدر للسيارات والأدوية في العالم، علماً أن ألمانيا تحقق فائضاً تصديرياً هائلاً.
جزء كبير من هذا النجاح تم إنجازه على عهد المستشارة أنغيلا ميركل. أطلق على ألمانيا لقب "رجل أوروبا المريض" في السنوات الأولى من هذا القرن، غير أن الإصلاحات المطبقة في العمل والسوق في عهد سلف ميركل، غيرهارد شرودر، أرست أسس التحول الذي حدث بعد ذلك على عهدها. لقد ورثت اقتصاداً واقعاً في المتاعب، لكنها ورثت أيضاً السياسات التي أخرجته من ذاك المأزق. فما الإرث الذي ستتركه لخلفها؟
التهمة الموجهة إليها هي أنها كانت محظوظة في ما يتعلق بالاقتصاد، وأن ألمانيا قد تواجه في السنوات العشر المقبلة رياحاً معاكسة أقوى بكثير مما كانت عليه في الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والجدير بالذكر أن ثلاث قوى رئيسة تحرك تلك الرياح المعاكسة. الأولى هي الديموغرافيا. إذ إن ألمانيا تشيخ بسرعة. صحيح أن تدفق اللاجئين على مدى السنوات القليلة الماضية قد جلب أعداداً كبيرة من الشبان، ونتيجة لذلك ارتفع عدد سكان البلاد بين 2011 والعام الماضي. لكنه يتراجع الآن مرة أخرى، وبينما تختلف التوقعات، يبدو أنه سيستمر في التراجع خلال السنوات الثلاثين المقبلة، مع أكبر انخفاض في الفئة العمرية المتراوحة بين 20 و60 عاماً.
والثانية هي هيكل الاقتصاد. في الواقع، أن تكون أكبر مصدر للسيارات في العالم قد لا يشكل نقطة قوة في حالة ركود هذه الصناعة. وفي هذا السياق، تعتقد شركة "روبرت بوش"، صانعة المكونات الألمانية، أن العالم قد وصل ربما إلى ذروته في إنتاج السيارات. وعلى أي حال، هناك مواطن ضعف واضحة في القطاع. فالابتكاران العظيمان في السنوات الأخيرة، وهما تطوير السيارات الهجينة والسيارات الكهربائية، قد تم إنجازهما في اليابان والولايات المتحدة، وليس في ألمانيا. في المقابل، واصلت الشركات الألمانية التركيز على سيارات الديزل، متسترة على مستوى انبعاثاتها السامة.
ويعمل قطاع صناعة السيارات الآن على إصلاح نفسه، مطوراً سيارات كهربائية بسرعة، فيما يخضع أربعة مديرين تنفيذيين سابقين في شركة "فولكس فاغن" حالياً إلى محاكمات بسبب دورهم في فضيحة انبعاثات الديزل. في مقلب مغاير، تقع الصناعة الألمانية العظيمة الأخرى، وهي صناعة الأدوية، في طليعة تطوير العقاقير الطبية، ويعتبر اختراع شركة "بيونتيك" (BioNTech) للقاح فعال للغاية ضد كورونا شهادة على ذلك. إذاً، لا ينبغي لأحد أن يقلل من شأن الكفاءة الفنية في البلد. لكن ألمانيا تشارك أوروبا نقطة ضعفها الأكبر المتمثلة في الفشل في خلق فائزين جدد في مجال التكنولوجيا المتقدمة، على نفس النطاق الذي حققته الولايات المتحدة والصين. والجدير بالذكر أن محاولتها الرئيسة للقيام بذلك، من خلال شركة المدفوعات "واير كارد" Wirecard، قد انتهت بكارثة. فالشركة مفلسة، وأحد مديريها التنفيذيين البارزين هارب من العدالة.
وتواجه البلاد أيضاً تحدياً ثالثاً. في الحقيقة، تعتمد ألمانيا بشكل كبير على الصادرات، لا سيما إلى الصين، أكبر شريك تجاري لها. إذا اكتسب الاتجاه العام نحو التصنيع المحلي زخماً، وإذا تدهورت العلاقات بين الغرب والصين، فسوف تتعرض ألمانيا لضربة مزدوجة. ويبدو كلاهما احتمالاً معقولاً. ومن الآثار الدائمة لأخطاء سلسلة التوريد الحالية هو سعي الشركات إلى البحث عن منتجين محليين بدلاً من الموردين في الجانب الآخر من العالم. أما بالنسبة إلى الصين، فمن الصعب رؤية التوترات الحالية تنخفض في السنوات القليلة المقبلة. ستسعى ألمانيا إلى البقاء على علاقة جيدة مع الصين، لكن ذلك قد يخلق مشكلات مع ثاني أكبر شريك تجاري لها، الولايات المتحدة.
لا شيء من هذا يعني التنبؤ بكارثة اقتصادية لألمانيا، بل هدفه ببساطة هو الإشارة إلى أن المستشار المقبل، بغض النظر عن هويته، سيواجه تحديات اقتصادية خطيرة. وأعتقد أن الناس سوف ينظرون إلى الوراء وسيعتبرون الوقت الذي كانت فيه أنغيلا ميركل في المنصب عصراً ذهبياً، فترة شبيهة بما يسمى "المعجزة الاقتصادية"، أو ما يعرف بالألمانية بـ"فيرتشاتس فوندر" (Wirtschaftswunder)، حين تعافت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. هذا الإنجاز، بالطبع، يجب أن ينسب إلى قيادة ميركل الهادئة. لكنها في الوقت نفسه تترك مشكلات كثيرة لخلفها. وستغدو عشرينيات القرن الواحد والعشرين أعواماً أشد ظلمة بالنسبة إلى ألمانيا.
© The Independent