"هذا صعب، لكن ليس مستحيلاً"... هكذا وصف خبراء المال والتكنولوجيا اعتماد عملة "بيتكوين" كعملة احتياط لدى البنوك المركزية على مستوى العالم، لكن في المقابل فإن الأوضاع ستكون أصعب بالنسبة إلى العملات الرئيسة التي يتصدرها الدولار الأميركي.
ومنذ ظهور العملات الرقمية في 2009 وحتى عام 2013 كانت الأوضاع تسير في هدوء بالنسبة إلى جميع العملات المشفرة، لكن القفزة الضخمة التي سجلتها "بيتكوين" وهي العملة الأكثر قوة وانتشاراً في سوق العملات الرقمية خلال عام 2017 تسببت في صدمة كبيرة في سوق العملات الرئيسة، إذ جذبت انتباه المستثمرين والبنوك المركزية وجميع الحكومات على مستوى العالم. وهو ما تسبب في أن تتجه الحكومات إلى تضييق الخناق على انتشار هذه العملات التي تجاوزت جميع التضييقات وواصلت النمو والانتشار، ليتجاوز عددها في الوقت الحالي أكثر من عشرة آلاف عملة رقمية.
وبعدما فشلت التضييقات والحروب التي أعلنتها الحكومات على سوق العملات الرقمية، بدأت البنوك المركزية تتحدث عن عملات رقمية رسمية مضمونة من قبل الحكومات، وكانت الصين في الصدارة التي أطلقت عملتها الرقمية "اليوان الرقمي" في فبراير (شباط) الماضي، لكن أميركا التي تحدثت عن الدولار الرقمي لم تتخذ خطوة مهمة حتى الآن، فيما تعمل شركة "نيكسي" الإيطالية العملاقة للمدفوعات مع البنك المركزي الأوروبي على إصدار عملة رقمية للبنك وهي "اليورو الرقمي".
أمر صعب لكنه ليس مستبعداً
يرى حسام طالب، محلل أسواق المال والتجارة الإلكترونية، أن اعتماد عملة "بيتكوين" كعملة احتياط لدى البنوك المركزية يعد من الأمور الصعبة في الوقت الحالي، لكن ليس مستبعداً حدوث ذلك على المدى القريب.
وأوضح في إفادة لـ"اندبندنت عربية" أن غياب القوانين التنظيمية وعدم وجود ضمانات في سوق العملات الرقمية المشفرة حتى الآن هو أكبر مشكلة تواجه السوق. وعلى الرغم من التضييقات المستمرة التي تمارسها الحكومات والبنوك المركزية على مستوى العالم حول العملات الرقمية المشفرة، فإن السوق تمكنت من تجاوز هذه التحديات وانتشرت وحققت نمواً كبيراً خلال السنوات القليلة الماضية.
وأشار إلى أن المعطيات القائمة تؤكد استمرار نمو هذه السوق، ولذلك لا بديل أن تتجه البنوك المركزية على مستوى العالم للتعاطي معها وبحث وضع آليات رقابية على هذه السوق والاستفادة منها في المستقبل، بخاصة مع سهولة حركة نقل الأموال في ظل هذه المنظومة، كما أنها تضمن السرية التامة في جميع المعاملات.
وقال إنه في حال اعتماد العملات الرقمية كعملات احتياط لدى البنوك المركزية، فإن الأوضاع ستكون أكثر من صعبة بالنسبة إلى العملات الرئيسة بخاصة الدولار واليورو، إذ يواجه الدولار الأميركي مشكلة أكبر ويقع غالباً ضحية للسياسة الأميركية، بعدما شاهدنا عدة دول تتجه إلى استبدال العملات مع دول أخرى وتتخلص من الدولار الذي يسيطر على حصة كبيرة من الاحتياطات لدى البنوك المركزية، كما أنه يعد العملة الرئيسة المعتمدة في حركة التجارة والصادرات والواردات عالمياً. لكن في حال اعتماد العملات الرقمية بشكل رسمي، فإن دولاً عديدة سوف تتخلص من الدولار وتعتمد إحدى العملات بديلاً منه.
كان بنك التسويات الدولية قد كشف في تقرير حديث عن أن استخدام العملات الرقمية المدعومة من البنوك المركزية سيقلل بشكل كبير من وقت وتكاليف سداد المدفوعات عبر الحدود. وأوضح أن نتائج برنامج تجريبي أظهرت أن سرعة تحويل المدفوعات عبر الحدود باستخدام عملات رقمية انخفضت إلى ثوانٍ من أيام سابقاً.
ويوجد حالياً تأخير يتراوح بين ثلاثة إلى خمسة أيام بين الدفع والتسوية لمعاملات عبر الحدود تتم معالجتها من خلال البنوك، وهو ما يأتي مقارنة بوقت يتراوح بين ثانيتين وعشر ثوانٍ حسب النموذج الأولي لتجارب العملات الرقمية التابعة للبنوك المركزية. وفي الوقت نفسه، قد تقلل العملات الرقمية من تكاليف المدفوعات عبر الحدود بنسبة تصل إلى 50 في المئة.
أضعف فترة في تاريخ الدولار
كانت مجموعة "غولدمان ساكس" قد وصفت في تقرير حديث تلك الفترة بأضعف فترات الدولار في التاريخ الحديث. لكن في المقابل، يتوقع "مورغان ستانلي" معاودة الدولار قوته مرة أخرى، إذ أصبح تفاقم عجز الحساب الجاري للولايات المتحدة مثار جدل ساخن في سوق العملات نتيجة تداعيات ذلك العجز على تسعير الأصول المتنوعة، بخاصة أن نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي تعد الأعلى منذ العام 2008، كما أن العجز يتسع على الرغم من تفوق الولايات المتحدة على معظم دول العالم في إحراز تقدم بشأن التعافي من الوباء. وينتج عن تفاقم العجز تخارج سيولة من الدولارات إلى خارج الاقتصاد التي قد تعود مرة أخرى للاستثمار في الأصول الأميركية أو يمكن تحويلها إلى مكان آخر.
يرى "غولدمان ساكس" أن العجز هو المؤشر الرئيس على استمرار تراجع الدولار، إذ يشير محللو البنك إلى أوجه التشابه بين ما يحدث في الوقت الحالي مع الركود الكبير الذي شهده الدولار خلال الفترة من 2002 وحتى 2007. ويتفق "دويتشه بنك أي جي" مع ذلك الرأي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الجانب الآخر، يعتقد كل من "مورغان ستانلي" و"يوريزون أس أل جيه كابيتال" أن البيئة الحالية تشابه ما حدث في الثمانينيات والتسعينيات عندما عزز الدولار من قوته على الرغم من تفاقم العجز. لكن العملة الأميركية تشهد تراجعاً في الوقت الحالي. ويرى "غولدمان ساكس" أن قيمة الدولار لا تزال مرتفعة بالمقارنة بالأوزان المرجحة لتداولات الأصول الرئيسة بشكل أوسع، إذ تمنح الأصول غير الأميركية عوائد تنافسية أكبر. ومن المرجح ابتعاد المستثمرين عن أسواق الدخل الثابت والأسهم الأميركية الطويلة الأجل، ما سيؤدي إلى تراجع الدولار بمرور الوقت.
وتوقع أن يصل عجز الحساب الجاري ذروته بنهاية العام الحالي إلى 4.4 في المئة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بزيادة على متوسط التوقعات البالغة 3.6 في المئة، ليسجل زيادة مقارنة بوصول العجز إلى 3.09 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام الماضي، حين سجل أكبر عجز منذ عام 2008. وإذا تحققت وجهة نظر "غولدمان ساكس" بشأن العملة الأميركية سيصبح الأمر مسألة وقت، حتى يبحث المستثمرون الأجانب عن أصول دولية بديلة ذات عوائد مرتفعة، الأمر الذي سيزيد من ضعف الدولار ويؤدي إلى هبوط طويل الأجل قائم على ضعف هيكلي، وهو ما يتوقعه كثيرون.
الأصول الأميركية تعزز قوة الدولار
في المقابل، فإن جاذبية الأصول الأميركية للأموال من خارج الاقتصاد حول العالم ستعزز قدرة الدولار وتغطية اتساع عجز الحساب الجاري، لأن المستثمرين الأجانب يحتاجون إلى الدولارات للاستثمار في الشركات الأميركية العملاقة مثل "أمازون" و"ألفابيت" الشركة الأم لشركة "غوغل" وكذلك للاستثمار في شركة "فيسبوك" وكلها شركات مدرجة في البورصات الأميركية.
ولا يعتبر ذلك السيناريو غير مسبوق، إذ تعززت قوة العملة الأميركية من قبل في تسعينيات القرن الماضي وسط عجز متزايد نتيجة اجتذاب طفرة الشركات التكنولوجية الناشئة كل الاستثمارات تقريباً. وكذلك خلال الثمانينيات، اجتذبت أسعار الفائدة المرتفعة المستثمرين الأجانب عندما رفع بول فولكر رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق المعدل المستهدف للفائدة إلى 20 في المئة، ما ساعد على دعم الدولار على الرغم من تفاقم عجز الحساب الجاري.
فيما يرى "دويتشه بنك" أن السبب الرئيس للمخاوف بشأن انخفاض الدولار يتعلق بعجز الحساب الخارجي. وقال في مذكرة بحثية حديثة إن النقطة المقابلة لعجز مالي كبير الذي من المتوقع أن يستمر في ضوء تحديات كبح ذلك العجز بسبب توجهات الإدارة الأميركية. بينما يرى "بنك أوف أميركا" أنه لا يمكن استمرار العجز المرتفع في الحساب الجاري لأي دولة إلى الأبد. ولخفض ذلك العجز ستكون هناك حاجة إلى إضعاف العملة لتقليل الواردات وزيادة الصادرات، وسوف يحدث ذلك في مرحلة ما.
الدولار الرقمي
وفي وقت سابق من هذا العام، قال مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إنه سيصدر قريباً ورقة بحثية تستكشف احتمالية إطلاق الدولار الرقمي، بينما يدرس بنك إنجلترا أيضاً إمكانات النقود الرقمية التي يصدرها البنك المركزي.
ومشروع الدولار الرقمي هو شراكة بين شركة الاستشارات "أكسنتشر" ومؤسسة الدولار الرقمي، ويقوده منظمون ومديرون تنفيذيون سابقون. والغرض من مشروع الدولار الرقمي هو تشجيع البحث والمناقشة العامة حول المزايا المحتملة، وجمع قادة الفكر والفاعلين في القطاع الخاص، واقتراح النماذج الممكنة لدعم القطاع العام، وسيعمل على تنسيق البرامج مع أصحاب المصلحة المهتمين لقياس قيمة وإنشاء الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها لإنشاء دولار رقمي.
ستعمل المشاريع التجريبية على تقييم ما إذا كان الدولار الرقمي يفيد الأفراد الذين لا يتعاملون مع البنوك أو الذين يتعاملون قليلاً جداً مع البنوك، وكذلك الأفراد الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الخدمات المصرفية، والشركات الصغيرة.
وفي أوروبا، تعمل شركة "نيكسي" الإيطالية العملاقة للمدفوعات مع البنك المركزي الأوروبي لإصدار عملة رقمية للبنك. وفي بيان، قال الرئيس التنفيذي لشركة "نيكسي"، باولو بيرتولوزو "نحن نتعامل مع البنك المركزي الأوروبي ونسهم في تصميم اليورو الرقمي المستقبلي، لأننا نعتقد أنه يمكن أن يكون قوة إيجابية في تطور المدفوعات الرقمية".
وحدد البنك المركزي الأوروبي خططه لنسخة رقمية من اليورو في يوليو (تموز) الماضي، إذ يتصور البنك المركزي اليورو الرقمي على أنه عملة مكملة لنظامه النقدي الحالي، بدلاً من استبدال النقد المادي أو تقليص دور المقرضين التجاريين.
وتعمل البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم بنشاط على أو استكشاف العملات الرقمية لبنوكها المركزية، أو عملات البنوك المركزية. يأتي ذلك في الوقت الذي يشهد فيه استخدام النقد انخفاضاً متزايداً في العديد من الاقتصادات المتقدمة، ووسط اهتمام متزايد بالعملات المشفرة مثل "بيتكوين".
كما يُنظر إلى الصين على أنها اللاعب الرئيس في السباق نحو العملات الرقمية للبنوك المركزية، بعد أن اختبرت اليوان الرقمي مع ملايين المواطنين في عدد من المناطق خلال شهر فبراير الماضي.