تمنى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حدوث "تهدئة" بين فرنسا والجزائر في شأن مواضيع "الذاكرة"، داعياً إلى "السير معاً". وقال في مقابلة مع "فرانس إنتر"، "أتمنى حدوث تهدئة لأنني أظن أن من الأفضل التحاور والمضي قدماً"، داعياً إلى "الاعتراف بالذاكرات كلها والسماح لها بالتعايش". وأكد أن "هذه ليست مشكلة دبلوماسية، بل هي في الأساس مشكلة فرنسية - فرنسية".
"ثقة" بالرئيس الجزائري
وأعرب الرئيس الفرنسي عن "ثقته" بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون، وأكد أن العلاقات معه "ودية فعلاً"، وقال، "أكنّ احتراماً كبيراً للشعب الجزائري، وأقيم علاقات ودية فعلاً مع الرئيس تبون".
في هذا الوقت، وبعد أن قررت فرنسا تقليص منح التأشيرات لكل من المغرب وتونس والجزائر، تزداد الأزمة حدة بين باريس والبلدان المغاربية. وأثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة، المسيئة للجزائر، غضباً واسعاً في المنطقة المغاربية، وما يدعو إلى التساؤل هو توقيت هذا التوجه الفرنسي، وذلك على بعد سبعة أشهر من إجراء الانتخابات الرئاسية، بالتالي هل يتجه ماكرون لإرضاء "اليمين الفرنسي" من أجل ضمان إعادة انتخابه لولاية ثانية؟
توالي الأزمات
كان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، غابرييل أتال، قد أعلن في 28 سبتمبر (أيلول) الماضي، توجه بلاده لتشديد شروط منح تأشيرات لمواطني المغرب والجزائر وتونس، نظراً لرفض تلك الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مهاجريها غير الشرعيين الموجودين في فرنسا، مشيراً إلى أن بلاده تبنّت عام 2018 قانوناً للهجرة ينص على أن "الأشخاص المؤهلين الذين سيتم استقبالهم في فرنسا للاستفادة من اللجوء، يجب أن يكونوا مدرجين فعلياً في فرنسا، أما الذين لا يستوفون المؤهلات للبقاء على أراضينا فيجب إرجاعهم إلى الحدود".
وفي تعليقه على الأمر، قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، إن بلاده "أخذت علماً بهذا القرار الذي نعتبره غير مبرر"، موكداً أن الرباط "ستتابع الأمر عن قرب مع السلطات الفرنسية".
ويوم السبت الماضي، نقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية تصريحات للرئيس ماكرون اتهم فيها النخبة الحاكمة في الجزائر بـ"تغذية الضغينة تجاه فرنسا"، وتساءل، "هل كان هناك وجود أزمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد عام 1830"؟، مشيراً إلى أنه "كان هناك استعمار قبل الاستعمار الفرنسي" للجزائر، في إشارة إلى فترة الوجود العثماني بين عامي 1514 و1830، "أنا مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون".
وفي ردها عن المزاعم الفرنسية، استنكرت الرئاسة الجزائرية تصريحات الرئيس الفرنسي، معتبرة أنها "تمثل مساساً غير مقبول بذاكرة خمسة ملايين و630 ألف شهيد ضحوا بأنفسهم عبر مقاومة شجاعة ضد الاستعمار الفرنسي بين عامي 1830 و1962"، وأن "جرائم فرنسا الاستعمارية، التي لا تعد ولا تحصى، هي إبادة ضد الشعب الجزائري، وهي غير معترف بها (من طرف فرنسا)، ولا يمكن أن تكون محل مناورات مسيئة"، مشددة على رفضها "رفضاً قاطعاً التدخل في شؤونها الداخلية كما ورد في هذه التصريحات، وأن الرئيس عبدالمجيد تبون قرر الاستدعاء الفوري لسفير الجزائر بفرنسا محمد عنتر داوود للتشاور"، كما قامت السلطات الجزائرية بغلق أجوائها في وجه الطائرات الفرنسية.
دوافع التصعيد
ويُرجع المحلل السياسي الجزائري، وعضو حزب جبهة التحرير الوطني، وليد بن قرون، التوجه الجديد لفرنسا تجاه الجزائر إلى "اكتشافها أنها أصبحت لاعباً غير أساسي في التأثير في صناعة القرار في البلد المغاربي، كما تعودت عليه في التسعينيات"، بالإضافة إلى "تقلص حصتها من الريع الجزائري لصالح منافسها الصيني، وكذلك تأثير الجزائر على نفوذها في أفريقيا من خلال إصلاح منظمة الاتحاد الأفريقي ومجلس التعاون الأفريقي - الصيني الذي جعل من الصين الشريك الاقتصادي الأول لأفريقيا"، مشيراً إلى أن فرنسا عملت جاهدة من أجل استغلال الحراك الشعبي لإسقاط نظام الدولة الجزائرية، باعتراف ماكرون، في ظل تنامي دعوات داخل الجزائر مطالبة بضرورة تجريم أفعال الاستعمار الفرنسي، التي تصنف كجرائم ضد الإنسانية، لم تسقط بالتقادم على غرار زراعة الألغام وآثار التجارب النووية الفرنسية، وهذا ما يخلّف عشرات الضحايا سنوياً، مضيفاً أيضاً، أن الجزائر قالت إنها لا يمكن أن تشرع في علاقات تشاركية مع فرنسا من دون تصفية الملفات العالقة، وعلى رأسها ملف الذاكرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر المحلل الجزائري أن التصريحات الأخيرة لماكرون تتطابق حرفياً مع تصريحات وأطروحات حركة "الماك"، المصنفة كحركة إرهابية، وهذا ما دفع الجزائر، بحسب بن قرون، إلى اتخاذ الإجراءات الأخيرة، قائلاً "أعتقد أن العلاقات الجزائرية - الفرنسية ستشهد المزيد من التوترات في ضل تعنت فرنسا الرافض الاعتراف بجرائمها في الجزائر، والتي راح ضحيتها أكثر من خمسة ملايين و600 ألف ضحية".
نظرة كلاسيكية
ويربط الباحث المغربي في العلاقات الدولية، هشام معتضد، واقع العلاقات الفرنسية - المغاربية في ظل الأزمة الحالية، بإشكالية التدبير الفرنسي لإدارتها الدبلوماسية، وللوضع السياسي المرتبط بالاستعدادات للانتخابات الرئاسية الفرنسية، موضحاً أن "الإدارة الفرنسية، بخاصة في شقها المتعلق بالتدبير الدبلوماسي والسياسية الخارجية، ما زالت قابعة في فكر كلاسيكي وتقليدي في ما يتعلق بعلاقاتها الخارجية مع البلدان المغاربية بشكل عام، والمواطنات والمواطنين المغاربيين بشكل خاص، لذلك فهي تعتمد على بلورة استراتيجيات وسياسات مبنية على الإرث الثقافي الاستعماري المتعالي في مفاوضاتها مع البلدان المغاربية". وأوضح أن التبريرات التي تقدمت بها الحكومة الفرنسية، بدافع الحفاظ على توازنات الدولة في علاقاتها مع محيطها الإقليمي، غير متوازنة، ولم تعد تعكس الوضع السياسي الراهن في المنطقة، معتبراً أنها "لا تمت بصلة للرهانات الإقليمية المشتركة، لذلك فعلى الفكر السياسي الفرنسي أن يتأقلم مع تحديات المنطقة بعيداً عن عقدة المستعمر والوصي التاريخي".
كسب ود اليمين
ويشير محللون إلى أن توجهات الرئاسة الفرنسية مرتبطة بظرفية الانتخابات الرئاسية، باعتبار أن ماكرون يرغب في كسب ولاية جديدة باستمالة اليمين، في ظل تنامي الخطاب اليميني المعادي للمهاجرين.
ويعتبر هشام معتضد أن الموقف الفرنسي له بعد سياسي أيضاً، بخاصة أنه ورقة استراتيجية تستعمل على مستوى الخطاب الرئاسي لدغدغة مشاعر فئة معينة من الفرنسيين ممن لديهم منظور مبني على أيديولوجية معينة تجاه بلدان وشعوب المنطقة المغاربية، لذلك، فتوقيت تمريره تلك الرسائل ليس بريئاً، ولا يراد منه فقط تصحيح إشكالية إدارية معينة مرتبطة بالآلة الدبلوماسية للبلد.
ويضيف الباحث المغربي أن هذا التوجه الفرنسي يأتي مرة أخرى ليبرهن على مدى تشبث الإدارة والساسة الفرنسيين بشكل ثقافي استعلائي، من أجل كسب مزيد من الوقت والمصالح على حساب المنطقة المغاربية، ولو من خلال مواقف غير إنسانية، خارج التاريخ وبعيدة كل البعد عن أخلاقيات الدبلوماسية ومبادئ القانون الدولي.
وفي تحليله لوضع العلاقات الفرنسية - المغاربية يقول، ناصر زهير، الباحث في العلاقات الدولية في "مركز جنيف للدراسات السياسية والدبلوماسية"، "لا أعتقد أن الأزمة بين فرنسا والدول المغاربية الثلاث ستتفاقم، باعتبار أن الأمر يجري في فترة حساسة للداخل الفرنسي متعلقة بالانتخابات الرئاسية"، متوقعاً أن تعود علاقات الطرفين إلى سابق عهدها بمجرد انتهاء فترة الانتخابات، وقيام الدول المغاربية ببعض الإجراءات الشكلية بخصوص إعادة بعض المهاجرين غير الشرعيين، باعتبار أن ماكرون يريد إيصال رسالة لجزء من الداخل الفرنسي بأنه يهتم بملف الهجرة، ويريد سحب تلك الورقة من يد اليمين المتطرف، مضيفاً أن النقطة الأساسية تتمثل في تصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص الجزائر، متوقعاً أن تظل هذه الأزمة سنوات عدة.
واعتبر زهير أن الجزائر أقدمت على إجراءات قاسية، سواء تجاه فرنسا أو المغرب بخصوص غلق الأجواء، وهو أمر غير صائب، وأن البلد الأوروبي يعي ذلك، متوقعاً أن تشهد الساحة الفرنسية، خلال الأشهر السبعة المقبلة، العديد من التخبطات في السياسة الداخلية، بالتالي، "من المرتقب أن نشهد المزيد من الأزمات، ولكن سيتم احتواؤها بعد انتهاء فترة الانتخابات".