في سنة 1940 نزح تاجر الأعمال الفنية بول روزنبيرغ من باريس التي احتلها النازيون، وسافر إلى أميركا. قبل مغادرته أودع الرجل أثمن اللوحات التي يملكها بقبو مصرف، في ليبورن الفرنسية. بيد أن مجموعته الفنية التي تتضمن لوحات لـهنري ماتيس، وقعت بأيدي النازيين. وقد أخذوا تلك اللوحات وخزنوها في "جو دو بوم" Jeu de Paume بمدينة باريس، وهو مستودع استخدمه المحتلون. ثم ما لبثوا أن اقتحموا غاليري الفن الذي يملكه روزينبيرغ في باريس وحولوه إلى مكان لدراسة المسألة اليهودية، ولكنهم استضافوا فحسب المعارض المعادية للسامية.
وأخيراً، في سنة 2015، أعيدت تلك الأعمال الفنية إلى ورثة روزنبيرغ. لكن الأمر ليس سوى مثال واحد على كيفية سرقة الأعمال الفنية ونقلها بين البلدان الأوروبية الواقعة تحت الاحتلال النازي، قبل أن يعيد أصحاب المجموعات الفنية والمؤرخين اكتشافها [العثور عليها] خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها.
يأتي المعرض الجديد تحت عنوان "انبعاث: استعادة ما ضاع من حكايا الفنون المسروقة" Afterlives: Recovering the Lost Stories of Looted Art، وهو نُظم ابتداءً من 20 أغسطس (آب) بالمتحف اليهودي في مدينة نيويورك، ليروي بعض تلك الحكايا. ويقدم المعرض للجمهور أكثر من 150 قطعة من الأعمال الفنية والأغراض الاحتفالية، تعرض لغاية 9 يناير (كانون الثاني) 2022، وتمثل نماذج من الفن الحديث والصور الفوتوغرافية والأغراض ذات الصلة بالثقافة اليهودية، كانت قد سرقت إبان الحرب العالمية الثانية.
وكان المتحف اليهودي في نيويورك استخدم كمخزن في سياق جهود لاستعادة تلك الأغراض. في هذا الإطار قالت دارسي ألكسندر، التي شاركت سام ساكيروف في تنسيق المعرض وتنظيمه، "إن الفن بمقدوره رواية تلك القصص". وأضافت "عندما يعاين المرء عملاً فنياً لا يمكنه على الدوام رؤية ما عاشه (العمل) وما مر به. إذ قد يكون سافر عبر فصول مختلفة من التاريخ. إننا نعرض أعمالاً لم تعرض منذ سنوات عديدة إلى جانب بعضها بعضاً".
في السياق ذاته، تضم مجموعة المتحف اليهودي اليوم أكثر من 200 قطعة من هذه الأعمال والأغراض الاحتفالية المستعادة. وقد جرى استخدام المتحف في نيويورك كمخزن ضمن جهود استعادة الأغراض والقطع المذكورة. لذا، فإن اللحظة الراهنة تمثل لحظة تاريخية للمتحف. عن هذا يقول ساكيروف "إنها المرة الأولى التي يتم فيها إلقاء ضوء على تلك المرحلة المهمة من قصة الفن بعد الحرب [الثانية]".
وكانت آلاف من القطع الفنية قد سرقت خلال الحرب العالمية الثانية. وسافرت القطع المسروقة بين مراكز توزيع عدة قبل أن يعاد اكتشافها من قبل أصحاب المجموعات الفنية بعد الحرب. وتعتبر نجاة بعض القطع بمثابة معجزة. وهناك أكثر من مليون عمل فني وأكثر من مليوني كتاب أعيد اكتشافها بعد الحرب، فيما دمر النازيون على ما يبدو عدداً أكبر بكثير.
يضم المعرض لوحات لمعلمين كبار من معلمي الحداثة في القرن العشرين، أمثال مارك شاغال وبول سيزان، إضافة إلى صور فوتوغرافية نادرة، ووثائق تقتفي أثر الأعمال الفنية خلال الأربعينيات والخمسينيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك يوجه المعرض الانتباه إلى أمر أغفل في الماضي، ويتمثل، وفق ألكسندر، بـ"النساء الكثيرات اللاتي كن جزءاً من تلك الجهود خلف الكواليس". تتابع "إننا نلفت الانتباه إلى الأشخاص الذين أسهموا في إعادة اكتشاف تلك الأعمال، لأن المخيلة العامة لا تعير انتباهاً كافياً لهذه الجهود. لذا أردنا إبراز أسماء أصحاب الجهود المبذولة". في هذا الإطار ثمة صور فوتوغرافية معروضة لمؤرخي فنون أمثال روز فيلاند وإديث ستانتون، وأيضاً لأشخاص آخرين لعبوا أدواراً أساسية في استعادة ما سرق، كخبير المكتبات إدغار برايتنباش، والجنرال في الجيش الأميركي لوشيوس دوبينون كلاي، وغيرهما.
وبالنسبة للأعمال الفنية والأغراض التي تعرضت للنهب، فقد سرقت من المعابد اليهودية وأودعت في مكتبات بحثية نازية. عن هذا الأمر يشرح ساكيروف "أعمال كثيرة دمرت، فيما جرى تذويب بعض الأغراض للحصول على الفضة. جزء من تلك الأعمال والأغراض نجا من التدمير وقد عثر عليه خلال السنوات المنصرمة في مخابئ وملاجئ نازية محصنة. وهذه الأعمال الفنية والأغراض تبقى أثراً من ذاك الاضطراب".
وما زالت ألمانيا حتى اليوم تجهد لإعادة الأعمال الفنية التي صودرت خلال الحرب العالمية الثانية. في هذا الإطار أعادت ألمانيا في الآونة الأخيرة لوحة من أعمال إريش هيكيل لورثة مالكها اليهودي. وفي سنة 2012 وحدها تم العثور على أكثر من 1400 عمل سرقه النازيون، إضافة إلى ما كان يعرف بـ"مخزن الفن في ميونيخ".
وحالة كل قطعة فنية أعيد اكتشافها تروي ما كان قد حل بها. عن هذا الأمر يوضح ساكيروف "ثمة (أعمال) مخدوشة ومتضررة، ومعوجة، وتفتقد لبعض أجزائها". يتابع "هذه الأعمال تخبرنا كيف كان يمكن ألا تنجو أبداً من تلك الحقبة المدمرة. ونحن نتيح للزوار التجوال بين هذه القطع والأعمال".
ثمة بين المعروضات صور فوتوغرافية نادرة بالأسود والأبيض من سنة 1942 تظهر أكواماً كبيرة من الكتب التي نهبها النازيون، إضافة إلى أغراض مثل تاج توراة إيطالي من سنة 1698، وكتاب صلوات من بولندا يعود لسنة 1837، وتميمة فضية من مدينة البندقية الإيطالية من القرن الثامن عشر. وهناك أيضاً مجموعة من كتب الصلاة، بعضها بأغلفة جلدية ومنسوخ بالحبر على الورق وبخط اليد، وبعضها الآخر بأغلفة مرصعة بالفضة. وهناك شمعدانات الـ"هانوكاه"، وآنية من القصدير، وعدد من فناجين عيد الفصح اليهودي من آواخر القرن الثامن عشر.
وتشير ألكسندر إلى أن هناك بين المعروضات "مجموعة من الأعمال الفنية لرواد الحداثة كانت من ممتلكات صالات عرض باريسية". وتضم الأعمال الفرنسية المعروضة لوحة ذاتية لـهنري فانتين لاتور من سنة 1861، ولوحات لـ كاميل بيسارو، وغوستاف كوربيت.
ومن بين المعروضات أيضاً لوحة "الشجرتان" لـبول كلي من سنة 1940، ولوحة "عيد البوريم" لـ مارك شاغال من سنة 1916، ولوحة "المستحمة والصخور" لـبول سيزان من سنة 1860. كذلك هناك لوحة "الأقحوانات" لـهنري ماتيس من سنة 1939، التي كان يملكها روزنبيرغ.
أما الصور الفوتوغرافية المعروضة، فتروي قصة المثقفين اليهود الذين نزحوا من أوروبا، وهي القصة التي لم تروَ من قبل. كما هناك العديد من الصور الفوتوغرافية التي التقطها مصور البورتريه الألماني أوغوست ساندر، وهي جزء من سلسلة صورها سنة 1938 حملت عنوان "المضطهدون"، حيث التقط مجموعة بورتريهات بوضعية الجلوس لرجال ونساء يهود مضطهدين. كما صور ساندر أصدقاءه وزملاءه اليهود الذين أرادوا مغادرة ألمانيا حين صعد النازيون إلى السلطة في الثلاثينيات. ولم يكن ساندر يهودياً من جهته، إلا أنه كان معادياً للفاشية. وقد أتت تلك الصور كجزء من مجموعات متسلسلة أكبر صورها، حملت عنوان "أشخاص من القرن العشرين".
كذلك يضم المعرض صوراً فوتوغرافية للمصور الألماني يوهانس فيلبيلماير، الذي كان رئيس المصورين في "مصلحة المحفوظات المركزية في ميونيخ" من سنة 1945 لغاية 1949. وقد صور فيلبيلماير عملية إعادة الأعمال الفنية المسروقة عقب الحرب العالمية الثانية، وكان من بينها 500 لوحة ومنحوتة من النمسا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا، وغيرها من الدول الأوروبية.
وفي سنة 1947 أُطلقت "المؤسسة اليهودية لإعادة إحياء الثقافة" Jewish Cultural Reconstruction Inc. التي أسست لتوثيق الأعمال الفنية التي أنقذت في أوروبا بعد الحرب، إثر نهبها، وقد أسهمت هذه المؤسسة بإيجاد مأوى [أماكن تستقبل وتحفظ] لأكثر من 360 ألف كتاب ولفائف توراة وأغراض احتفالية.
عن المؤسسة المذكورة يقول ساكيروف "لقد أطلقت بمشاركة الحكومة الأميركية لاكتشاف واستعادة الأغراض المتعلقة بالثقافة اليهودية، والتي كانت ملكاً لمجتمعات دمرت خلال الحرب. وهي كانت أغراض يتيمة، من دون ورثة، ولم يكن واضحاً لمن ينبغي إعادتها. وقد تصرفت هذه المؤسسة نيابة عن الشعب اليهودي وباسمه".
ومن أبرز الشخصيات التي يكرمها المعرض، روز فيلاند، مؤرخة الفن الفرنسية التي كانت تعمل في "جو دو بوم" بباريس حين اجتاح النازيون المدينة. والنازيون أبقوها في منصبها. "فراحت تصور الوثائق النازية، التي ساعدت كثيراً فيما بعد في تحديد أمكنة الأغراض والأعمال (المسروقة)" وفق ألكسندر. تابعت ألكسندر قائلة "نجاة تلك الأغراض والأعمال اعتمدت على الحظ في بعض الأحيان. وفيلاند كانت مؤرخة مرموقة عملت وراء الكواليس".
إحدى صور المعرض من سنة 1945 أو 1946 تظهر فيلاند مع المسؤولة في المتحف إديث ستاندن في "مصلحة المحفوظات المركزية" في فايسبادن، ألمانيا. والسيدتان تتصوران قرب لوحات تم العثور عليها، وقربهما حارس مسلح. "هاتان السيدتان كانتا في طليعة [دورهما الأبرز في] جهود استعادة المسروقات" يقول ساكيروف، "وهما خاضتا في ذلك الكم الهائل من المواد الثقافية التي سرقها ودمرها النازيون. لقد حاولتا إعادة تلك الأغراض إلى أصحابها المستحقين. بعملهما ذاك أسسا السابقة التي بتنا نقر بها اليوم، والتي تقول إن سرقة الثقافة أمر غير مقبول. كان إصرارهما كبيراً على إعادة كل غرض إلى أصحابه المستحقين. وهما أمامنا الآن (بتلك الصورة) في لحظة بطولية وأخلاقية [ترفع لواء المبادئ الإنسانية]".
© The Independent