أذربيجان العصية على الأيديولوجية التوسعية الخمينية، علاقتها بإيران محط التحليل والاهتمام السياسي، لما يكتنف تلك العلاقات من تناقضات دينية ومفارقات استراتيجية، وما تطرحه من ملابسات حيال واقع السياسة الخارجية الإيرانية، هل هي براغماتية مصلحية أم أيديولوجية دينية؟
أذربيجان ذات التركيبة السكانية الشيعية لا تحظى بذات القدر من الاهتمام في سلم المصالح الخارجية الإيرانية، بل إن الأيديولوجية الخمينية وولاية الفقيه الإيرانية التي ترى نفسها مناضلة عن الشيعة والمسلمين في كل الأقطار الإسلامية، تخفق أمام مناصريها قبل خصومها في إيجاد الاتساق ما بين النظرية والتطبيق إزاء ما تدعيه من مبادئ دينية وثورية سياسية، ومرد الإخفاق في حالة العلاقة مع أذربيجان هو مناصرة إيران في مناسبات عديدة الجانب الأرميني المسيحي ضد الجانب الأذربيجاني المسلم الشيعي، تبعاً للمصالح البراغماتية.
وتفاقمت، أخيراً، التوترات العسكرية بين الطرفين على مشارف حدودهما المشتركة، وتعالت أصوات التهديد والاتهام، ويمكن أن تقرأ الأحداث الماضية في عدة سياقات نظراً للاعتبارات المتشابكة لكلا الطرفين وتبعاً للتطورات الإقليمية والدولية الراهنة.
اعتبارات ومخاوف إيرانية
صعدت إيران من موقفها وأقامت المناورة العسكرية على الشريط الحدودي مع أذربيجان، وأرجعت تحركها إلى وجود تواطؤ أذربيجاني مع إسرائيل، رغم نفي الرئيس الأذربيجاني هذه الإدعاءات، فإن الأمر يمكن قراءته في سياق التحوط الإيراني من تلقي ضربات عسكرية من أطراف دولية بمساعدة قوى إقليمية، لا سيما وأن إظهارها إمكانياتها العسكرية في الشمال الغربي يأتي متزامناً مع ضربات تشنها ضد كردستان العراق بذريعة ملاحقة الإرهابيين وقصف مقرات الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة. هذه الأحزاب لم تقم بنشاطات عدائية ضد إيران، أخيراً، في حين أن الميليشيات العراقية الموالية لإيران هي من تصعد من هجماتها على مطار أربيل ومقار القوى الدولية داخل الإقليم الكردستاني، وكل المؤشرات توحي بمحاولة إيران فرض هيمنتها وإثبات مقدرتها على الرد إن جوبهت بأي اختراق أمني، سواء من قبل أذربيجان أم من قبل كردستان العراق.
لدى إيران ما يكفي من المشاكل الداخلية، ولكنها بالتحول إلى ممارسات خارجية صارخة تهدف إلى توحيد الجبهة الداخلية، ولملمة أوراق الإشكاليات الصحية والمعيشية، وعلى قدم المساواة تحقيق مكاسب إقليمية جراء المتغيرات المتلاحقة في الواقع الإقليمي الجديد. وهي تتنبه إلى التطورات المحيطة بها، مثل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والمناورات العسكرية التي تجريها تركيا مع أذربيجان وباكستان، والتقارب التركي مع دول الخليج ومصر، وكما يعبر قيادات الحرس الثوري، فالدبلوماسية رهينة الفشل ما لم تقرن بالقوة العسكرية الصلبة، لذا عمدت إلى استخدام لغة القوة والتهديد، وأرادت لفت انتباه القوى المناوئة في الإقليم، من أنها ند عسكري له حضوره وإمكانياته، كي تضمن حصد نفوذ سياسي في التطورات الإقليمية المقبلة واستغلال الفراغ الناجم عنها. كما أنها تطمح إلى تأكيد مكانتها الإقليمية للقوى العظمى على المستوى الدولي، لا سيما وهي مقبلة على استكمال جولات مباحثاتها النووية مع القوى العالمية الست، "روسيا، والصين، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وأميركا".
ساحة صراع إقليمي مع الجارة التركية
أذربيجان إحدى أهم ساحات الصراعات الإقليمية بين تركيا وإيران، بخلاف اشتباكهما في سوريا وفي قضاء سنجار بالعراق، وقد شكلت مالآت الأزمة "الأذربيجانية - الأرمينية" العام الماضي في إقليم ناغورنو قره باغ انتكاسة للمصالح الاستراتيجية الإيرانية المهادنة لأرمينيا. فقد نجحت أذربيجان في السيطرة على أراضي شاسعة من الإقليم تبعاً للدعم العسكري الذي تلقته من تركيا، لا سيما طائرات الدرون والتقنيات العسكرية المتطورة، مما خول تركيا أن تكون لاعباً أساسياً في فرض تسوية مرضية للطرفين، واقتضت الاتفاقية التي أبرمتها روسيا بين أذربيجان وأرمينيا وقف الحرب على أن تضمن قوات روسية الأمن على خطوط التماس بين الطرفين، في حين تشارك تركيا بموجب اتفاقية بينها وبين أذربيجان بقوات حفظ الأمن على شريط التماس المرسوم من قبل روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تظهر الإشكالية الكبرى لدى إيران في وجود قوات تركية مناوئة على الأراضي الأذربيجانية المحاذية لها تماماً، وربما كانت تبتغي بمناوراتها العسكرية الأخيرة إبداء عدم رضاها عما آلت إليه أزمة قره باغ، وعزمها الدبلوماسي والسياسي إحداث تعديل في توازنات القوة في المنطقة، غير أن أذربيجان دولة تتسلح بقوى خارجية رادعة للتمادي الإيراني، وقد هدد الرئيس الأذربيجاني نظراءه السياسيين في إيران بإشراك قوى إقليمية، وهو ما ترجم إلى الإعلان عن إجراء مناورات أذربيجانية - تركية مشتركة على الحدود مع إيران، مما يغربل خطط إيران الاستراتيجية، ويرغمها على الرضا بالوضع القائم، وإن كان من ضمن خياراتها اتخاذ مسار تعديل بشن الحرب، وهو أمر له حساباته وتعقيداته، فمن المرجح ألا تخرج منه إيران بالمكاسب التي ترمي إلى تحقيقها.
سياسات الطاقة في المنطقة وأدوار اللاعبين الرئيسيين
لا يمكن التحدث عن أذربيجان في الصراع التركي - الإيراني دون التطرق إلى سياقات الطاقة وخطوط التجارة. استعادة أذربيجان لأراض شاسعة في إقليم قره باغ غيّر المعادلة لصالحها ومكنها أولاً من قطع الطريق على خطوط الاتصال البري بين إيران وأرمينيا، وثانياً ربطها وجنوب القوقاز بالأراضي التركية مباشرة. وأخيراً، فرضت أذربيجان تعريفات جمركية مشددة على ناقلات الوقود الإيراني المتجهة إلى أرمينيا والمارة عبر الأراضي التي باتت تحت السيطرة الأذربيجانية من الإقليم، مما أشعل شرارة الحنق الإيراني ضد أذربيجان.
الأدهى من ذلك على المدى البعيد، هو تعاون تركيا وأذربيجان في مجال سياسات الطاقة، وخير مثال قائم هو أنبوب الطاقة "باكو- تبليسي- جيهان"، لتصدير النفط من أذربيجان مروراً بجورجيا فتركيا إلى بقية العالم. ووجدت تركيا ضالتها في أذربيجان لتقليل اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي والنفط الإيراني، كما أن العلاقة مع أذربيجان تشكل البوابة التي من خلالها تسعى تركيا إلى الاستئثار بثروات دول آسيا الوسطى وبحر قزوين.
تَعمق العلاقة الأذربيجانية - التركية، حظي بدعم أمريكي غربي، لا سيما في مجال الطاقة كي يغنم العالم الغربي من مكاسب الطاقة جراء هذه العلاقة، ويقلل اعتماده على الغاز الطبيعي الروسي. روسيا كلاعب دولي متأثر بحسابات العلاقة التركية -الأذربيجانية، يعي التحركات التركية ويطبق سياسات مضادة تضمن نفوذه السياسي في أسواق الطاقة الأوروبية وعلى مستوى الدول المصدرة له في المنطقة، سواء كانت أذربيجان أم إيران أو حتى دول آسيا الوسطى.
وفي المجمل، فإيران في تجاذباتها السياسية مع جنوب القوقاز خلال السنوات القليلة الماضية لم تحصد نجاحات تذكر، بل ربما فاقها ندها الإقليمي "تركيا" بمراحل، كون الأخيرة وطدت علاقتها بأذربيجان عسكرياً واقتصادياً، وفتحت للثروة الطبيعية الأذربيجانية آفاقاً واسعة في اتجاه أسواق الطاقة الأوروبية والغربية، بينما كان التعاون الإيراني - الأرميني مدار الشك والانتقاص بموجب تناقضه مع الأيديولوجية الإيرانية وبروباغندا منصاتها الإعلامية، وزاد من تعقيد الأمر عزوف روسيا عن دعم أرمينيا عسكرياً في صراعها مع أذربيجان على حرب قره باغ نظراً لميل القيادة الأرمينية نحو المحور الغربي. ولا ننسى أن الحسابات الروسية لا تميل إلى الاصطفاف مع محور إيراني - أرميني، خصوصاً في مجال الطاقة بحكم التنافس الروسي الإيراني على أسواق الاستهلاك العالمية.