منذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وتبعات الحادثة محط النظر والتحليل السياسي في النطاقين الإقليمي والدولي، والأمر برمته أعاد إلى الأذهان إشكاليات الصراع على النفوذ في منطقة آسيا الوسطى بحكم متاخمتها لأفغانستان.
دولياً، لروسيا والولايات المتحدة والصين حسابات متضاربة في حيز السياسة والاقتصاد في المنطقة، وقد تم إيجاز جُلّ هذه المناكفات السياسية في تحليل سابق، لكن الحديث عن آسيا الوسطى لا بد أن يتطرق إلى مساعي طرفين إقليميين آخرين هما تركيا وإيران.
مساعي وأدوات تركيا الثقافية والسياسية
تركيا طرف فاعل في صراع النفوذ على آسيا الوسطى (أوزبكستان، وكازاخستان، وطاجكستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان)، وعلى الرغم من انعدام الارتباط الجغرافي بالمنطقة لا تكف تركيا عن استغلال أوراق أيديولوجية وثقافية واقتصادية بغية تحقيق الاختراق المنشود. ومنذ استقلال دول آسيا الوسطى الخمس في بداية التسعينيات، سارعت أنقرة إلى الاعتراف بها دولياً، ومدت جسور التواصل الدبلوماسي، إلا أن تحركها الاستباقي يُقرأ في إطار التنافس الثنائي مع روسيا الاتحادية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وفي إطار المضاهاة السياسية لأي تغلغل إقليمي منافس، وبخاصة إيران. بهذا تشكلت الرؤية التركية الاستراتيجية تجاه الإقليم في مسارين اثنين؛ الأول ثقافي - أيديولوجي يرتكن إلى القواسم اللغوية المشتركة بينها وبين أغلب شعوبها في المنطقة، حسب السردية التركية، والثاني تطلعها لتوطيد العلاقة واغتنام الفرص الاقتصادية في واحد من أشد مجالات العالم حيويةً.
تركيا لا تزال تستخدم ورقة اللغة المشتركة، كما يتبدّى في خطابات الرئيس التركي أردوغان وحديثه عن "الوحدة التركية"، أو في الأهداف المرجوة من "مجلس الدول الناطقة بالتركية"، الذي يضم أذربيجان من جنوب القوقاز، وتركيا، إضافة إلى أربع دول من آسيا الوسطى؛ قيرغيزستان وكازاخستان وأزبكستان المنضمة في 2019، وتركمانستان التي ما زالت تحضر اجتماعات المنظمة بصفة "مراقب" فقط. ومع أن فكرتي "اللغة التركية" المشتركة و"الجالية التركية" تجدان ممانعة مجتمعية، بالذات لدى القوميين بداخل دول الإقليم الحريصين على هويتهم الثقافية واللغوية المتمايزة عن الهوية والقومية التركية، فإن المبتغى من تكتل كهذا هو بلا شك طموح تركي براغماتي يرمي إلى التكامل الاقتصادي والتجاري لا إحياء المفاهيم القديمة أو المزاعم التاريخية من "وحدة الشعوب التركية".
مبتغى التكامل الاقتصادي يشكل المقاربة التركية الأخرى من أجل الاستئثار بعديد من الفرص الاستثمارية في آسيا الوسطى ومشاريع البنى التحتية وزيادة معدلات التبادل التجاري مع دول الإقليم، لا سيما أن الأسواق الوسط آسيوية من الوجهات الأساسية المستهلكة للبضائع التركية.
تجدر الإشارة إلى أن تركيا في مقارباتها السياسية تجاه دول آسيا الوسطى تظهر نفسها بمظهر الدولة "النموذج"، ويعزز لسرديتها هذه احتفاء الغرب والديمقراطيات المتقدمة بمثالها "الإسلامي" العلماني والديمقراطي. تبعاً للإدراك الغربي آنذاك، فالقوى الإسلامية المنشقة للتو عن الاتحاد السوفياتي الشيوعي بعد سقوطه في بداية التسعينيات، ستجد الطريق ممهداً أمامها للدخول في النظام العالمي الليبرالي عبر بوابة تركيا. والحقيقة أن هذه المقاربة لم تلقَ الصدى الذي كان يأمله صناع القرار التركي، فدول الإقليم الناشئة لم تكن كلها وحدة متجانسة، وعصفت بها مشاكل داخلية عديدة، وأجهزتها الأمنية البكر لم تكن حصدت بعد الخبرة الكافية، لذا كان لقياداتها السياسية توجهات متحرزة إزاء النوايا التركية، وحاولت من ثم استيعاب المصالح المتضاربة للقوى الدولية والإقليمية على السواء دون انحياز تام.
أدوات ونهج إيران الخارجي تجاه آسيا الوسطى
انطلقت إيران في مقارباتها الخارجية تجاه آسيا الوسطى من مقتضيات الأمن والتنافس الإقليمي، إذ بادرت بالاعتراف بدول الإقليم منذ استقلالها علها تحقق هدفين اثنين، الأول محاولات قطع الطريق على القوى الإقليمية الأخرى من أن تستغل الفجوات السياسية وتحظى بنفوذ ثقافي أو أيديولوجي معتبر في ما تعده إيران مجالاً حيوياً باتجاه الشمال من محيطها الجغرافي. والثاني يحاول جاهداً تقليل المخاطر الأمنية الناجمة من اختراقات القوى الدولية مثل الولايات المتحدة الأميركية أو روسيا، وكذلك قوى إقليمية أخرى مثل تركيا ودول الخليج، وأيضاً إسرائيل.
إيران لوحت ابتداءً بأوراقها الأيديولوجية الثورية بغية استمالة القوى الناشئة في المنطقة إلى معسكرها السياسي، لكن محاولاتها تلك باءت بالفشل نتيجة اصطدامها بنخب سياسية في آسيا الوسطى ذات ميول علماني وراغبة في التحرر من الصراعات الدينية التي رأت فيها معولاً لهدم البنى الوطنية لديها. بعد ذلك، انبرت إيران إلى الضرب على وتر الثقافة والإرث الحضاري المشترك، لكن مآل المحاولات هذه واجه ذات المصير كسابقتها. وعلى الرغم من ركونها إلى عناصر ثقافية منوعة مثل الفولكلور واللغة، مع العلم بأن طاجكستان الدولة الوحيدة في المنطقة التي تتحدث الفارسية، والتراث الشعبي المتمثل في الاحتفال بالأعياد التقليدية كالنوروز، نجد نجاحاً محدوداً جداً لإيران في هذا السياق، بل إن قيادات دول المنطقة كان تخشى التغلغل الإيراني الأيديولوجي والثقافي، على سبيل المثال الرئيس الأوزبكي السابق إسلام كريموف طالما شنّ هجوماً إعلامياً لاذعاً ضد إيران، منوهاً بالتهديد الذي يفرضه نموذجها على بلدان المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنبهت إيران إلى الخلل المنهجي لديها، وعدّلت من سياساتها لتتحول إلى بناء الشراكات الاقتصادية وزيادة معدلات التجارة كمداخل براغماتية نحو الإقليم الوسط آسيوي. وحققت إيران بهذا مكاسب اقتصادية وقفزات تجارية ملموسة في شراكاتها مع دول مثل تركمانستان المحاذية لها، وطاجكستان، وأوزبكستان، بعد تولي شوكت ميرزاييف السلطة في ديسمبر (كانون الأول) 2016، فضلاً عن بلوغ تجارتها لمستويات لا بأس بها مع قيرغيزستان وكازاخستان. ولأن دول آسيا الوسطى ذات جغرافية حبيسة ومنحسرة عن الوصول إلى المياه والبحار المفتوحة، فأهم مقترحات التنمية التي تطرحها إيران هي توفير ممر طاقوي لنقل صادرات دول المنطقة عبر الأراضي الإيرانية باتجاه الخليج العربي، ومن ثم إلى الأسواق العالمية جمعاء. ويبقى أن أشير إلى وطأة العقوبات الأميركية المفروضة على إيران منذ منتصف عام 2018، والتي مثلت تطويقاً للاقتصاد الإيراني وحدّت من سبل نمو العلاقات الاقتصادية مع دول آسيا الوسطى.
سياسات الطاقة وصراع النفوذ في آسيا الوسطى
بين تركيا وإيران وروسيا والصين وأميركا، يبقى العامل الحاسم للتوغل في آسيا الوسطى متمثلاً بالمقام الأول في نجاعة سياسات الطاقة المتخذة مع بلدان المنطقة، والدولتان الثريتان من حيث الموارد الأحفورية "النفط والغاز" هما الدولتان المطلتان على بحر قزوين، كازاخستان وتركمانستان، لكن امتلاك موارد نفطية وغازية لا يفوق أهمية مسائل السيطرة على الخطوط والممرات الحيوية لنقل النفط والغاز إلى الأسواق العالمية، لذا تدور صراعات القوى الدولية والإقليمية على المنطقة في فلك السيطرة على خطوط نقل الطاقة.
هناك خمسة طرق رئيسة ناقلة للطاقة من المنطقة إلى خارجها، حسب دراسة للدكتور عبدالقادر دندن بعنوان "حرب الأنابيب في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين"، أولاً طرق شمالية تمثل المصلحة الروسية، وتمكن كازاخستان وأذربيجان في جنوب القوقاز من الاتصال بخطوط الانابيب الموجودة مسبقاً، وثانياً طرق غربية تدفع بها كل من الولايات المتحدة وتركيا وأذربيجان وجورجيا، حيث تتفادى هذه الطرق المرور عبر الأراضي الروسية أو الإيرانية، وثالثاً طرق جنوبية عبر إيران أهم مساوئها زيادة اعتماد الأسواق العالمية على مضيق هرمز، ورابعاً طرق شرقية باتجاه الصين، وخامساً طرق جنوبية شرقية تمتد عبر أفغانستان إلى باكستان، وصولاً إلى الهند، وهي طرق تحبذها السياسة الخارجية لدول الخليج العربي.
تعدد الطرق يعبر عن التنافس المحموم على الصعيد الدولي بين روسيا والولايات المتحدة والصين، كما هو الحال على الصعيد الإقليمي بين إيران وتركيا والخليج العربي. وروسيا على وجه الخصوص لها قصب السبق في هذا المضمار، كما أنها تعمل في الاتجاهين الأمني العسكري، حيث عززت أخيراً قواعدها العسكرية في المنطقة بالأسلحة المتطورة، والأمني الطاقوي، مستفيدة في ذلك من الإرث السوفياتي والبنى التحتية التي خلفها في دول المنطقة، والأمر ظاهر للعيان في مساعيها لاحتكار منظومة خطوط الأنابيب الصادرة من كازاخستان وتركمانستان لتمر عبر الأراضي الروسية. لا شك أن دول الإقليم تبحث عن طرق متنوعة حتى لا تضل أسيرة ضغوط روسية أو غربية، فاستفادت من تشابك المصلحة مع الصين لبناء أنبوب آسيا الوسطى - الصين.
الولايات لمتحدة لا تدخر جهداً في تمكين الشركات الأميركية والغربية من فرص الاستثمار في مجال الطاقة في المنطقة، أبرز مثال، الزوبعة التي حدثت حيال امتلاك حق بناء خط الأنابيب عبر أفغانستان بين شركة صينية وأخرى أميركية لتستولي عليه بنهاية المطاف شركة "شيفرون" الأميركية. وفي خط مُوازٍ، تدعم الولايات المتحدة الجهود التركية في مجال الطاقة للوصول إلى الإقليم وجنوب القوقاز نكايةً في روسيا والصين، وطمعاً في تقليص الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، كما حدث في تأييدها لخط أنابيب النفط "باكو – تبليسي - جيهان" العابر لأذربيجان وجورجيا حتى تركيا.
يسترعي الانتباه المتغيرات السياسية والأمنية التي حققتها تركيا في جنوب القوقاز العام الماضي عبر اصطفافها عسكرياً بجانب أذربيجان في أزمة "قره باغ" ضد أرمينيا المدعومة من قبل روسيا، ومحاولة تركيا لاستغلال هذا الانتصار النسبي، إضافة إلى تعاونها مع أذربيجان في مجال الطاقة، كي تستميل دول وسط آسيا وتحثها على التجاوب السياسي والاقتصادي لمبادراتها وعروض الشراكة المختلفة.
وأخيراً، تنطوي مصلحة إيران في الإقليم على التلويح بتوفير العبور السلس للمنطقة باتجاه البحار المفتوحة، لكن الإشكاليات المالية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد تضيّق من خيارات إيران، كما أن نموذجها الاقتصادي المعزول دولياً لا يشجع دول آسيا الوسطى على الانخراط معها في مشاريع الطاقة الكبرى. على الرغم من ذلك نجد التوجه الإيراني دائب السعي إلى الانفتاح على دول آسيا الوسطى اقتصادياً، كجزء من سياسة حكومة رئيسي الجديدة، والموسومة بـ"الاتجاه شرقاً"، والتي تكللت جهودها بقبول عضوية إيران في "منظمة شنغهاي للتعاون"، على الرغم من أن هذا التطور لن يفضي إلى علو كعب السياسة الإيرانية في منطقة آسيا الوسطى، وإنما يبرز في إطار انتشال اقتصادها المتهاوي من منزلق الانهيار التام.