خرجت التظاهرات إلى شوارع تبليسي احتجاجاً على اعتقال الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيللي، الذي عاد مختبئاً في شاحنة وصلت إلى ميناء باتومي آتية من ميناء أوديسا الأوكراني، قبيل موعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في جورجيا يوم السبت الماضي، بعد سبع سنوات من اللجوء إلى أوكرانيا، التي كان وصل إليها في وقت سابق قادماً من الولايات المتحدة بعد رفضها قبوله لاجئاً سياسياً. وكان ساكاشفيللي حصل على الجنسية الأوكرانية بمساعدة صديقه الرئيس الأوكراني السابق بيتر بوروشينكو، الذي قام بتعيينه محافظاً لمدينة أوديسا، لكنه عاد ووقف منه موقفاً معادياً، بعد أن انقلب عليه وشن ضده كثيراً من الحملات التي اتهمه فيها بالفساد، ليضطر إلى الهروب بحثاً عن مقر مؤقت للإقامة، وجده في بولندا التي سرعان ما اضطرت إلى ترحيله قسراً في وقت لاحق إلى أوكرانيا.
انتزاع الصدارة؟
في عملية طغى عليها الطابع البوليسي المسرحي الاستعراضي، ظهر ساكاشفيللي في توقيت مواكب لبدء الانتخابات النيابية، في إطار محاولاته لحشد الدعم والتأييد لحزبه السابق "الحركة الوطنية المتحدة"، الذي خاض هذه الانتخابات في محاولة لانتزاع الصدارة من الحزب الحاكم "حزب الحلم الجورجي". ومن المعروف أن جورجيا تواصل تعايشها مع الأزمات التي داهمتها منذ احتجاجات فصائل المعارضة على نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في العام الماضي، وفاز فيها الحزب الحاكم بفارق ضئيل، وسط اتهامات للحكومة بالتزوير. وكان إيراكلي كوباخيدزه رئيس "حزب الحلم" الجورجي الحاكم أشار إلى أن ساكاشفيللي وصل متسللاً بانتهاكه الحدود عبر ميناء باتومي، في إطار خطة كانت تستهدف تنفيذ عملية الانقلاب والإطاحة بالحكومة. وفي معرض تنفيذ ما أضمره من مخططات تستهدف زعزعة مواقع الحكومة وحشد الجهود الرامية إلى دعم مواقف حزبه في هذه الانتخابات، استبق ساكاشفيللي عملية اعتقاله بنشر رسالة بالفيديو أعلن فيها وصوله إلى جورجيا. ودعا أنصاره للخروج في 3 أكتوبر (تشرين الأول) إلى ميدان الحرية في تبليسي احتجاجاً على نتائج الانتخابات، التي فاز فيها الحزب الحاكم "الحلم" بأغلبية 47 في المئة من الأصوات، متقدماً على حزب ساكاشفيللي "الحركة الوطنية المتحدة" الذي فاز بالمركز الثاني بنسبة أصوات تقدر بـ 31 في المئة، في الوقت الذي لم يحصل فيه حزب رئيس الوزراء السابق جورجي أخاريا "من أجل جورجيا" سوى على قرابة 8 في المئة من الأصوات. وما إن جرى اعتقال ميخائيل ساكاشفيللي الذي نشرت وزارة الداخلية الجورجية صورته، يقتاده اثنان من رجال الشرطة مكبلاً بالأغلال، وقد علت شفتيه ابتسامة اتسمت بقدر كبير من "تعمد الاستعراضية"، حتى خرج أنصاره يحاصرون مقر محبسه، وهم يرفعون أعلام الاتحاد الأوروبي و"الناتو" اللذين كان ساكاشفيللي أعلن منذ سنوات ولايتيه بعد نجاح "ثورته الملونة" في عام 2003، عن طموحات بلاده للانضمام إليهما. وكان ساكاشفيللي واصل خطواته "الاستعراضية" من داخل محبسه في السجن العمومي في "روستافي" غير بعيد عن العاصمة تبليسي، بالإعلان عن إضرابه عن الطعام، وطلب اللقاء مع قنصل أوكرانيا في جورجيا، استناداً إلى كونه مواطناً أوكرانياً عقب حصوله على الجنسية الأوكرانية بعد هروبه إلى أوكرانيا في عام 2013 في أعقاب نهاية ولايته الثانية. وكانت السلطات الجورجية سمحت في وقت لاحق بزيارة قام بها قنصل أوكرانيا، تأكدت من خلالها من أن ساكاشفيللي في حالة صحية طيبة، لا تهددها أية أخطار. وذلك وحده يكفي بحسب تقديرات كثيرين من المراقبين، لرصد ما تتسم به تحركات ساكاشفيللي من عبثية، تبتعد به كثيراً عن أية أوجه شبه، أو مقارنة مع عودة المعارض الروسي ألكسي نافالني من ألمانيا في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، الذي عاد عن عمد وسبق إصرار، على الرغم مما كان يتهدده من أخطار، في محاولة من جانبه أيضاً للمشاركة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفاز فيها الحزب الحاكم "الوحدة الروسية" بأغلبية ساحقة.
عودة "تزيد التوترات"
وفيما كان أنصار ميخائيل ساكاشفيللي يواصلون ترديدهم للشعارات التي تدين روسيا وتحملها مسؤولية اعتقال زعيمها وتطالب بالإفراج عنه، أعلنت الحكومة الجورجية أنها سبق وحذرته من أنه سوف يتعرض للاعتقال فور وصوله إلى جورجيا، لمحاكمته جزاء "إساءة استخدام السلطة"، في إطار قضايا جنائية سبق وأصدر القضاء الجورجي حكمه غيابياً في 2018 فيها بسجنه لمدة ست سنوات. وأعلن رئيس الوزراء إيراكلي غاريباشفيلي في مؤتمر صحافي عقده في نهاية الأسبوع الماضي، أن "رئيس جورجيا الثالث ميخائيل ساكاشفيللي اعتقل وأودع السجن". وأضاف رئيس الحكومة الجورجية أن ساكاشفيللي لن يُسمح له بالسفر إلى أوكرانيا حسب طلبه، إلا بعد أن يقضي كامل العقوبة في السجون الجورجية، فضلاً عما كشفت عنه السلطات في تبليسي حول أن هناك قضايا أخرى ومنها تسلله ودخوله الأراضي الجورجية بشكل غير شرعي، تنتظر الفصل فيها، ما قد يزيد من مدة العقوبات المفروضة ضده. ومن جانبها، أعلنت الرئيسة الجورجية سالومي زورابيشفيلي في تصريحات أدلت بها عبر التلفزيون الجورجي، أن عودته إلى جورجيا "تزيد التوترات قبل الانتخابات البرلمانية"، فيما أكدت أنها لن تستخدم صلاحياتها في العفو عنه، وإسقاط ما صدر ضده من أحكام بالسجن، وذلك لأن العقوبات الصادرة بحقه نهائية وغير قابلة للاستئناف. وكان تيا تسولوكياني نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة والرياضة والشباب أكد أيضاً، أن جورجيا ليست لديها الرغبة في تسليم ساكاشفيللي إلى الجانب الأوكراني لقضاء عقوبته هناك. وأكد المسؤول أنه سيقضي كامل المدة (أكثر من ست سنوات) التي حددتها المحكمة الجورجية بحقه داخل وطنه. وأضاف أنه "لا توجد منفعة قانونية لذلك"، مشيراً إلى أن تسليم المجرمين إلى أوكرانيا من جورجيا لا يحدث إلا عندما يتم تقديم الشخص، الذي يطالب الطرف الآخر بتسليمه، إلى المسؤولية الجنائية هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الصدد، كشفت المصادر الرسمية الجورجية عن إدانة الرئيس السابق غيابياً في قضايا تتعلق بقتل المصرفي ساندرو غيرغفلياني، والاعتداء بالضرب على النائب فاليري غيلاشفيلي. وأشارت إلى أنه صدر بحقه الحكم في الحالة الأولى بالسجن ثلاث سنوات، وفي الحالة الثانية بالسجن لمدة ست سنوات، إضافة إلى اتهامات أخرى تتعلق بدوره في فض تجمع المعارضة في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، ومذبحة شركة "Imedi TV" واختلاس أموال من ميزانية الدولة، وهي قضايا لا تزال منظورة أمام القضاء في جورجيا.
حسابات الغرب
وفي أول رد فعل شبه رسمي عن العاصمة الروسية، نقلت وكالة أنباء "ريا نوفوستي" عن يلينا بانينا، عضو لجنة الشؤون الدولية بمجلس الدوما، ما قالته في معرض تعليقها على نتائج الانتخابات في جورجيا على خلفية احتجاز الرئيس السابق ميخائيل ساكاشفيللي، "إنه يمكن أن يتحول إلى عامل طويل الأمد لزعزعة الاستقرار في البلاد وستستخدمه الولايات المتحدة للضغط". وأضافت بانينا أن "أحداث اليومين الماضيين تؤكد أن ساكاشفيللي لم يعد يُنظر إليه بوصفه زعيماً سياسياً يُعتد به سواء في جورجيا أو في الغرب. ولا توجد لديه آفاق سياسية في وطنه التاريخي. وفي الوقت نفسه، بالكاد يمكن للمرء أن يقول إن ساكاشفيللي تم شطبه بالكامل من حسابات الولايات المتحدة والغرب". على أن ذلك لم يمنع البرلمانية الروسية من التوصل إلى استنتاج مفاده "أن ساكاشفيللي ما دام موجوداً في سجن جورجي، فإنه يمكن أن يتحول إلى عامل طويل الأمد لزعزعة الاستقرار، بما يمكن التوقع معه أن الولايات المتحدة قد تستخدم في النهاية قضيته كأداة للضغط على السلطات الجورجية الحالية لإجبارها على أن تصبح أكثر ولاءً لواشنطن". وفي هذا الصدد، يرى عدد من المراقبين بعضاً من أوجه الشبه بين عودة المعارض الروسي ألكسي نافالني إلى روسيا كما أشرنا سابقاً، وهو يعلم يقيناً أنه لا بد أن يخضع لتنفيذ ما صدر ضده من أحكام في قضايا جنائية سابقة، وعودة الرئيس الجورجي السابق ساكاشفيللي، الذي كانت صدرت ضده أيضاً أحكام غيابية بسجنه جزاء الجرائم التي كنا قد أشرنا إليها. على أن الصخب وردود الأفعال التي كانت صدرت عن كثيرين من قيادات البلدان الغربية، ومنهم الرئيس الأميركي جو بايدن والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن اعتقال وسجن نافالني، لم تجد بعد ما يوحي باحتمالات أن يصدر مثلها دفاعاً عن ميخائيل ساكاشفيللي. وتشير المصادر الجورجية الى أن تصريحات المسؤولين الأميركيين، ومنهم على وجه الخصوص، سفير الولايات المتحدة لدى جورجيا، ما تزال تتسم بالحذر وكثير من التحفظات. ولم تتعد ردود أفعال الجماهير الجورجية حدود أنصاره من أعضاء حزبه المعارض. أما الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الذي سبق وحاول تعيينه في منصب رقابي حكومي، لم يجد قبولاً لدى مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني)، فقد اكتفى بإعلان "أن أوكرانيا تتعهد ببذل قصارى جهدها للإفراج عن ميخائيل ساكاشفيللي المحتجز في جورجيا"، وهو ما قالت السلطات الجورجية بشأنه إنها لا ترى أي أساس قانوني لذلك.
استنفد كل أوراقه
وذلك كله يؤكد مدى الفشل الذي تجاوز كثيراً ما لحق بخطة نافالني لدى عودته إلى روسيا، التي أراد من خلالها إثارة كثير من ردود الأفعال في الداخل، بما قد يخدم خطته للتأثير على نتائج الانتخابات البرلمانية. وعلى الرغم من كل الصخب والجلبة والاختلافات السياسية التي نشبت بين موسكو وكثير من العواصم الأوروبية، ولم تتجاوز أبعد من الحملات الكلامية والتراشق اللفظي، فضلاً عن ظهور أسماء جديدة وعقوبات إضافية ضد روسيا وعدد من كبار المحيطين بالرئيس فلاديمير بوتين، فلم يصدر عن الكرملين ما يكشف عن اهتزاز في التوجه أو تراجع عن القرار والرؤى، التي سبق وحددت كثيراً من ملامح وأبعاد مواقف الكرملين من هذا المعارض الروسي، الذي طالما تجاهل الرئيس بوتين النطق أو الإشارة إلى اسمه. وشتان بين ما حدث مع نافالني بالأمس القريب، وما يحدث اليوم مع ساكاشفيللي، الذي باتت آماله وشعارات معارضيه تقتصر على مجرد الإفراج عنه وعودته إلى أوكرانيا، في الوقت الذي يستأثر فيه خصومه بكامل السلطة في الوطن الأم جورجيا، التي عبثاً تواصل محاولاتها للحاق بقطار الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
وبهذه المناسبة، نقلت صحيفة "أزفيستيا" الروسية عن روسلان بورتنيك مدير المعهد الأوكراني للتحليل والإدارة، أن مغامرة ساكاشفيللي والعودة إلى جورجيا جاءت بعد أن استنفد كل أوراقه ورصيده في أوكرانيا من دون نجاح يُذكر، فضلاً عما كشفت عنه من سوء تقديراته للأوضاع والواقع السياسي في جورجيا. وفي ذلك القول الفصل الذي قد يغني عما عداه من أحكام أو تعليقات.