لا تزال ترددات تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي "استهدفت" الجزائر، تصنع الحدث بعدما توسعت لتطال تركيا التي ردت على وصفه "التواجد العثماني" في الجزائر بـ"الاستعمار"، حيث قال وزير خارجيتها مولود تشاوش أوغلو، إنه "من الخطأ للغاية إقحام تركيا في هذه المناقشات، فتاريخها خال من أي وصمة عار مثل الاستعمار".
جبهات خصام
ولم تتوان أنقرة عن توجيه رسائل الانتقاد إلى باريس، وصرح الوزير أوغلو خلال مؤتمر صحافي مشترك عقده مع نظيره الأوكراني في مدينة لفيف، "رأينا ولا نزال، أن مثل هذه الأساليب الرخيصة غير مجدية في الانتخابات أيضاً"، مشدداً على أنه "إذا كان لدى ماكرون كلام يخصنا فنحن نفضل أن يقوله لنا مباشرةً بدل الحديث من خلفنا".
ويرى مراقبون أن الرئيس الفرنسي فتح على نفسه جبهات خصام سيكون لها وقع على مشواره السياسي واقتصاد بلاده، ففي ظرف أسبوع "خسر" شريكاً استراتيجياً ممثَلاً بالجزائر إثر تصريحات تطعن في "الدولة والشعب والأمة الجزائرية"، وما تبع ذلك من إجراءات "تأديبية مفاجئة" تعلقت بحظر عبور الطائرات العسكرية الفرنسية الأجواء الجزائرية باتجاه منطقة الساحل، بعدما تم استدعاء السفير الجزائري في باريس. ثم جاء "الانزلاق" الفرنسي الآخر في حق دولة مالي التي كان رد فعلها سريعاً فاستدعت السفير الفرنسي بباماكو للاحتجاج، وسط تحركات تشي بتغيير مرتقب في توجهات ذلك البلد العسكرية والاقتصادية نحو روسيا وتركيا والصين، ليأتي الدور على تركيا المستاءة من إقحامها في أزمة "ماكرون ومن ورائه فرنسا مع الجزائر"، في حين أن التوتر بين أنقرة وباريس يعود لسنوات.
"مطلب تضامني أخوي"
في السياق، رأى أستاذ الحقوق، حاج حنافي، أن "لفرنسا تاريخها الاستعماري المخجل في أفريقيا عامة والجزائر بخاصةً، وعمدت إلى إقحام تركيا في مثل هذه المسائل، محاولةً رسم الصورة الموازية لها ذاتها لدى الرأي العام، سواء في فرنسا، أو بين أتباعها من شعوب دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط". وقال "لذلك يحاول ماكرون أن يخفف العبء من خلال خلق خلفية تاريخية تحاكي الاستعمار الفرنسي الغاشم وهو الوجود العثماني في المنطقة، غير أن هذه المحاكاة تحمل مغالطة كبرى".
وبيّن حنافي أن "الوجود العثماني كان بالأساس مطلباً تضامنياً أخوياً يرتبط بالخلافة الإسلامية التي طُلب منها العون وبشدة ضد التمدد الغربي الصليبي، الإسباني والبرتغالي، ثم الإيطالي والفرنسي، على عكس الغزو الفرنسي الذي بُني على أطماع أجنبية جاءت بغرض استبدادي لفك ديون وأعباء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كادت تهلكها"، مبرزاً أن "الصراع يعود من جديد اليوم، ذلك أن الوجود التركي في ليبيا يزعج فرنسا التي ترصد المنطقة بمخططاتها الاستعمارية في صورتها الجديدة، وهي اقتناص الصفقات التي تستنزف ثروات الدول دون أي تطوير جاد أو تنمية حقيقية".
استعادة مفاتيح المستعمرات
في المقابل، اعتبر الإعلامي الجزائري عبد الحكيم مسعودي، أن "هذه ليست المرة الأولى التي تتحول فيها الجزائر إلى ملف للتراشق مع فرنسا، وعليه فالأهداف ظرفية واستراتيجية في الوقت ذاته، فعادةً ما تكون بواجهة استعراضية على مشارف الانتخابات في فرنسا كما هي الحال هذه المرة، وتأتي في مرات أخرى في سياق "التصادم" على مناطق النفوذ على غرار الطموحات التركية في شمال أفريقيا والرغبة الفرنسية في استعادة مفاتيح المستعمرات التي تحررت منها، إلى جانب المصالح الاستراتيجية في عدد من القضايا على غرار الملف السوري والتوسع التركي في المتوسط والقضية الليبية".
ورأى مسعودي أن "هذه المواجهات طبيعية وحتمية في إطار الاتجاه العام نحو التعددية القطبية في العلاقات الدولية، وتحديداً على مستوى حوض البحر المتوسط، سواء كان ذلك في ملف الجزائر أو أي ملف آخر"، مشدداً على أن "ملف ذاكرة الجزائر لا يشكل بالنسبة إلى باريس وأنقرة إلا إحدى جبهات المواجهة التي يمكن من خلالها قراءة تصادم المصالح على أصعدة أخرى". وأضاف أنه "على الرغم من حملها طابع الإحراج الدبلوماسي، إلا أن تلك المسألة تعبر أيضاً عن صورة الاستقطاب الدعائي داخل الجزائر من قبل أنصار أردوغان، من تيار الإخوان ووكلاء الدعاية لصالحهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وختم بالقول إنه "يجب الإشارة إلى أن التاريخ يذكر أن العلاقات بين فرنسا وتركيا جيدة في معظم أوقاتها حتى في عهد الدولة العثمانية ومنذ عهد فرانسوا الأول وسليمان القانوني. كما لا ينسى الشعب الجزائري تصويت تركيا ضد استقلاله في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما شارك الجيش التركي مع فرنسا ضمن جيوش الناتو لضرب ثورة الجزائريين التحررية".
الخلاص من "العار"؟
ويبدو أن كل طرف سواء تركيا أو فرنسا يسعى للخلاص من "العار" عبر محاولة تبييض فترة تواجده في الجزائر، فباريس تنعت الحضور العثماني بأنه "استعمار منسي"، حيث قال ماكرون "أنا مفتون بقدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدقه الجزائريون"، بينما تشدد أنقرة على أن "الاستعمار الفرنسي همجي في ظل ارتكاب جرائم ومجازر ضد الإنسانية".
علاقات تاريخية عميقة
وفي خضم الجدل حول التواجد والاستعمار والحماية وأمام "الصدام" بين تركيا وفرنسا، أوضح وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، على هامش الاجتماع الوزاري الثالث بين إيطاليا وأفريقيا في روما، أنه "مهما كان سبب الأزمة بين فرنسا والجزائر، لا أعتقد أنها ستؤثر على علاقاتنا مع الدول الشقيقة مثل تركيا"، مبرزاً أن "الجزائر وتركيا تمتلكان علاقات تاريخية عميقة وروابط معنوية قوية". وأشار إلى أن "أنقرة أسهمت في التنمية في الجزائر، ونتطلع إلى مزيد من العلاقات والاستثمارات التركية خلال الأيام المقبلة"، مؤكداً أن "الجزائر تدعم إقامة علاقات شراكة نوعية مع تركيا تشمل كافة المجالات". ورأى لعمامرة أن "تركيا بلا شك لاعب مهم للغاية".
معركة اقتصادية سياسية بامتياز
في السياق، اعتبر القيادي في تيار الإخوان في الجزائر، سعيد مرسي، وهو من مؤسسي "حركة مجتمع السلم"، أن "الحاصل بين فرنسا وتركيا بخصوص الجزائر معركة اقتصادية سياسية بامتياز، بدليل أن تركيا تمكنت من الفوز بمشاريع مهمة كانت من نصيب المؤسسات الفرنسية وحدها، مع تنامي حضور الشركات التركية في الجزائر بوتيرة متسارعة، وقد بلغ عددها أكثر من 800 شركة، وهذا كله على حساب تراجع فرنسا اقتصادياً وسياسياً، غير أن الجزائر لم تستفد من ذلك بأكثر من هامش توفيري على حساب النوعية، تماماً مثلما كان عليه الوضع مع فرنسا، نتيجة طبيعة الصفقات وما يشوبها من دفع عملات للحصول عليها، لتبقى الجزائر دائماً الخاسر في ذلك حتى من قبيل التوازن أو البديل".
وتابع مرسي، أن "فرنسا حريصة كل الحرص على أن تحتكر الجزائر وتراه حقاً دولياً لها وليس لغيرها، بحكم اتفاقيات الوصاية الاستعمارية وعدم جدية النظام الجزائري في التخلص منه ببدائل اقتصادية منتِجة لتبقى بلداً مستهلكاً وخدماتياً"، مضيفاً أن "فرنسا ترى باستعمارها للجزائر أنها هي التي حددت خارطتها الجغرافية والبشرية، إذ كانت من قبل مجرد مستعمَرة عثمانية منهوبة ومفتوحة، ومن حقها وحدها دون غيرها إدارة دفة الوصاية عليها، ولذلك فوجود الشركات التركية يشكل ضربة وطعنة لهذه الوصاية".