تكتسب أزمة شرق السودان أهميتها من كونها مؤثرة في مستقبل التحول الديمقراطي في السودان، وتهدد كيان الدولة ذاتها في دولة جنوب السودان، وتمتلك أيضاً أبعاداً إقليمية ودولية.
ورغم كل هذا التعقيد في الموقف وتداعياته السياسية والاقتصادية ما زالت المعالجات السياسية من جانب المجلس السيادي والحكومة لهذه الأزمة الحادة قاصرة، ولا تهتم بعنصر الوقت الذي يشكل عاملاً إضافياً في تعقيد وتركيب المشكلة، وهي الحالة التي قد تكون مطلباً في حد ذاتها لأحد أطراف الصراع على السلطة في السودان.
مشكلة ثلاثية الأبعاد
الملامح الرئيسة لأزمة شرق السودان تبدو داخلية، فهي تعكس مشكلة ثلاثية الأبعاد، تكمن أولاً في التنمية غير المتوازنة في دول العالم الثالث بشكل عام، وثانياً هي تعبير عن استبعاد تاريخي لما يسمى سودانياً بالهامش، وثالثاً هي انعكاس لتفاعلات خارجية على المستويين الإقليمي والدولي.
ويمكن القول، إن تداعيات التنمية غير المتوازنة قد أنتجت إلى جوانب عوامل أخرى أزمات مفصلية في السودان مؤثرة في سلامة الدولة تاريخياً منها أزمتا دارفور وجنوب كردفان اللتان أضيفتا إليهما شرق السودان التي تتفاعل حالياً إلى حد المساهمة في شح الإمدادات الحيوية للدولة، والتأثير في الإمدادات الغذائية والصحية، وذلك لكون إقليم شرق السودان يملك كل الموانئ التي تربط السودان بالعالم الخارجي.
وفي حالة شرق السودان يمكن رصد تداعيات التهميش التنموي على مواطن شرق السودان في وفاة السيدات الحوامل مثلاً، نتيجة ضعف يصل لحد الانعدام للرعاية الصحية، وانعدام المياه النظيفة والكهرباء، وكذلك الصرف الصحي خارج المدن، فضلاً عن ضعف البنى التحتية، ما عدا تلك المرتبطة بالعاصمة، وحركة التجارة مع الإقليم والعالم، وتبتعد تماماً عن خدمة السكان أو أماكن وجودهم في المجتمعات المحلية المتوسطة والصغيرة، حيث يشكل سكان شرق السودان ستة ملايين نسمة، 50 في المئة منهم من قبائل البجا الرعوية، المنقسمين إلى قبيلتي الهدندوة والأمرار، بينما قبيلة البني عامر تنتمي إلى العرب، وتعيش في كل من السودان وإريتريا. كما يعيش في شرق السودان جزء من قبيلة البشارية المشتركة مع مصر. ويتحدث أبناء شرق السودان لغتين، إحداهما التغري لبني عامر، وأخرى من أصل كوشي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما على المستوى السياسي، فإن حالة التعجل التي رافقت الثورة السودانية، التي كان السلام أحد أهم شعاراتها، جعلت النخب السياسية السودانية تدمج شرق السودان مع الحركات المسلحة من إقليم دارفور أساساً، وذلك على الرغم من أنه لم يعلن تمرداً مسلحاً منفصلاً على الحكومة تاريخياً، لكنه كان ضمن التجمع الوطني المعارض لنظام البشير، وتحرك مباشرة بعد إسقاطه، لكن في شكل صراع قبلي بين الهدندوة والبني عامر كان قد بدأ عام 1989.
وقد كان إدماج حكومة الثورة لمسار الشرق ضمن اتفاقات السلام، بهدف إعلان النجاح في أهم أهداف الثورة وهو السلام، فتم توقيع الاتفاقية شبه الشاملة، التي حملت عنوان اتفاقية جوبا للسلام في أكتوبر 2020، لكن المشكل الرئيس فيها أن الأطراف التي مثلت شرق السودان مُختلف عليها، فيما يتعلق بمدى تمثيلها للإقليم، من هنا جاء رفض هذا المسار بالكلية من جانب المجلس الأعلى للبجا والعموديات، حيث تصاعد التوتر السياسي بشأن مسار الشرق.
وبطبيعة الحال تمتلك أزمة شرق السودان عدالتها نتيجة حالة التهميش التنموي، لكن ذلك لا ينفي توظيفها السياسي على المستوى الداخلي في المرحلة الراهنة، نتيجة تصاعد مستوى الاحتقان في العاصمة الخرطوم بين مكونات المجلس السيادي الذي يملك صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتهاء الفترة الانتقالية، فالمكون العسكري في هذا المجلس يبدو أنه يقاوم حتى الآن أن يكون شريكاً في صناعة القرار، ويسعى للهيمنة، خصوصاً أن أحد استحقاقات الوثيقة الدستورية، وهي تسليم رئاسة المجلس السياسي للمكون المدني الشهر المقبل، وذلك رغم تعهدات الفريق عبد الفتاح البرهان برعاية التحول الديمقراطي حتى نهاية المرحلة الانتقالية في عام 2024 للأمين العام للأمم المتحدة.
توظيف شرق السودان في الصراع السياسي
ولعل ما يؤكد ما ذهبنا إليه من توظيف ملف شرق السودان في الصراع السياسي، هو أنه إلى جانب المطالبة بإلغاء مسار شرق السودان في اتفاقية جوبا، يتمترس المجلس الأعلى للبجا والعموديات حول مطلب حل الحكومة الراهنة برئاسة عبد الله حمدوك، بعد تخليه عن مطلب تكوين مجلس عسكري سداسي ممثلاً للأقاليم السودانية، وذلك في ضوء حفيظة المجتمع الدولي، الذي اعتبر أن مطلب تكوين مجلس عسكري سداسي بمثابة الإشارة لإمكانية حدوث انقلاب عسكري يمسك بزمام السلطة فعلاً في السودان، فتحرك بالضغط والتلويح بالتخلي عن السودان بالكلية سواء في الدعم الاقتصادي، أو إعادة الإدماج في المنظومة العالمية، وذلك بتدخل ثلاثي الأبعاد من الإدارة الأميركية، والأمم المتحدة، والبنك الدولي، فضلاً عن الموقف الأوروبي الداعم لهذه الجهات الثلاث في توجهاتها إزاء السودان.
أما مطلب المجلس الأعلى للبجا بحل الحكومة واستبدالها بحكومة كفاءات، فهو يستند إلى بطئها في تطوير الأوضاع الاقتصادية الشديدة الصلة بالمعيشة اليومية للمواطنين، لكنه أيضاً أيقن أن التخلص من هذه الحكومة وحمدوك نفسه بات مطلباً عاماً للنظام السياسي المعزول بثورة ديسمبر، وذلك في ضوء حجم الدعم الدولي المقدم لهذه الحكومة، ولشخص حمدوك، خصوصاً أن رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا هو محمد الأمين ترك المنتمي إلى حزب المؤتمر الوطني المحلول.
تداعيات اقتصادية
وعلى المستوى الاقتصادي، فإن إغلاق ميناء بورتسودان، يحرم البلاد من الوقود المستورد عبر خط الأنابيب وعبر شاحنات الصهاريج، اللذين يوفران الاحتياجات للديزل بنسبة 60 في المئة و40 في المئة للبنزين بخلاف غاز الطهي. وكذلك يسفر إغلاق خطي أنابيب البترول عن شح إمدادات الوقود للسودانيين بنسبة 50 في المئة، وسيؤثر في مصفاة الخرطوم التي تكرر نصف حاجة السودان من النفط، وهو ما قد يفاقم من وطأة شح الوقود، كما تعتمد مصفاة الخرطوم على 10 آلاف برميل يومياً من جنوب السودان مجاناً التي تمنح للسودان جراء برنامج "الترتيبات المالية لانفصال الجنوب عن السودان"، وذلك فضلاً عن عوائد معالجة ونفط الخام التي تصل إلى 9 دولارات عن كل برميل.
أما محطة كوستي الحرارية التي تنتج 500 ميغاوات كهرباء فسوف تتوقف، لأنها تعتمد على خط تصدير نفط جنوب السودان بـ18 ألف برميل يومياً على المستوى الإقليمي، ما أثار مطالبة نخب شرق السودان بمجلس عسكري الهواجس والشكوك لدى النخب السياسية السودانية، وهي الشكوك التي جرى التعبير عنها على منصات التواصل الاجتماعي بشأن إمكانية وجود دعم إقليمي، للمكون العسكري لفرض هيمنته على المعادلة السياسية السودانية، وذلك حتى يتماهى مع نظم سياسية أخرى، لكن تبقى هذه الشكوك بلا أدلة.
في السياق الإقليمي أيضاً يبدو أن تحرك قبيلة البني عامر المكون البشري المشترك مع إريتريا مثيراً للشكوك، وذلك في ضوء تصنيف السودان من جانب إثيوبيا كداعم لإقليم التيغراي الذي تخوض أديس أبابا ضده حرباً ضروساً، وهو ما يجعل هناك إمكانية لتدخل الحليف الإريتري لإثيوبيا في أزمة شرق السودان دفعاً نحو تعقيدها، وذلك رداً على ما تقول به إثيوبيا من دعم السودان للتيغراي.
أما على مستوى دولة جنوب السودان، فإنها تصدر 125 ألف برميل نفط يومياً إلى ميناء بورتسودان للتصدير، تشكل عوائدهم 98 في المئة من الموازنة في جنوب السودان، وهي الموازنة المحققة للاستقرار السياسي النسبي في جوبا، بما يعني أن فقدانها يشكل ضغوطاً سياسية قد تتحول إلى احتجاجات في وقت تبدو المعادلات السياسية حرجة تحت مظلة توازنات تنفيذ اتفاقية السلام المنشطة بين أطراف الأزمة الجنوب سودانية الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار.
أما على صعيد العلاقات السودانية الجنوب سودانية فإن فقدان سيطرة المركز في الخرطوم على إقليم شرق السودان يعني أن يتوجه الجنوب ربما على المدى المتوسط لدراسة خيارات أخرى، منها تصدير البترول عبر كينيا، وهي خطة كانت مطروحة في السابق، وخطورة تنفيذها أنها تجعل جنوب السودان أكثر ارتباطاً بدول شرق أفريقيا عن شمال السودان، وهو ما يعرض البلاد لمخاطر استراتيجية على المستوى المتوسط.
إجمالاً، يبدو تحرك رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، أخيراً، بشأن تكوين لجنة للحوار مع المكون العسكري الذي علق التفاعل مع المكون المدني خطوة قد تقود إلى تهدئة الأوضاع التي تتطلب إرادة سياسية من الجميع حتى يتم ضمان مستوى متوسط من الاستقرار السياسي في السودان، هو المطلب الذي يحوز دعم المستويين الإقليمي والدولي، نظراً لما يمثله عدم الاستقرار من تهديد للجميع داخل السودان وخارجه.