يختلف الباحثون في نشأة الأدب البوليسي العالمي، فمنهم من يعيدها إلى القرن التاسع عشر، ويربطها بالحضارة الصناعية، ويعتبر الروائي الإنجليزي إدغار آلان بو الأب الروحي لهذا الأدب، ومنهم من يعيدها إلى القرون الغابرة، ويربطها بالأساطير القديمة لوجود عناصر مشتركة بين النوعين. وعلى الرغم من هذا الاختلاف بين الرأيين، فإنهما يجمعان على أن هذا النوع من الأدب يقوم على الإثارة والتشويق، في الشكل. ويقوم على جريمة مرتكبة، ومجرم ارتكبها، وضحية وقعت عليها، ومحقق يحل ألغازها، في المضمون. ولعل هذه المقومات جعلت بعض النقاد يغمط هذا النوع حقه، غير أن قيامه بالتوغل في الدوافع النفسية لارتكاب الجريمة، وتقصي الظروف الاجتماعية للمجرم، ومواكبة أعمال التحقيق فيها، يضع هذا النوع في قلب اهتمامات الرواية المعاصرة، ويرقى به عن التسلية العابرة، ويدعو إلى إعادة النظر في الموقف منه.
العنوان والمتن
من هذه الشرفة، نطل على رواية "السلسلة" البوليسية، الصادرة عن دار نوفل، بترجمة نتاليا حوسامي، للكاتب الإيرلندي المقيم في نيويورك أدريان ماكنتي الذي يجمع بين دراسة الفلسفة وكتابة الرواية ونقد الكتب، ويدخر في رصيده اثنتي عشرة رواية بوليسية ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وبالدخول إلى "السلسلة" من العلاقة بين العنوان والمتن، نشير إلى أن تمظهرات الأول في الثاني تتعدد، وتختلف من فصل إلى آخر، فالسلسلة هي نظام صارم مغلق للخطف تديره أيدٍ خفية، يتم إدخال شخوص معينة إليه، ويمنع عليها الخروج منه (ص20 و21). وهي أداة معدنية ثقيلة طولها تسعة أمتار (ص29). وهي آلية ذاتية الحماية (ص35). وهي نظام عقابي يخشاه ضحاياه، ويلتزمون بتعليماته، ولا يجرؤون على الانشقاق عنه (ص74 و195). وهي إطار لم ينجح أحد في كسره (ص110). وهي أداة تدمير لضحاياها (ص295). وهي مصدر لجني الأموال لمؤسسها (ص297). وهي بشرية، هشة، ضعيفة، يمكن تحطيمها، وليست خرافة (ص315). وغيرها. وهكذا، تتراوح تمظهرات السلسلة بين المعنى المادي المباشر بما هي أداة معدنية تستخدم لتقييد المخطوفين، والمعنى المجرد بما هي إطار علائقي يختار الداخلين إليه، ويحظر عليهم الخروج منه. وهذا المعنى الأخير هو الذي ينتظم أحداث الرواية.
نظام السلسلة
تدور أحداث الرواية في ولاية نيوهامبشير الأميركية، خلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتتمحور حول سلسلة من أعمال الخطف، تقوم فيها أسرة المخطوف بدفع فدية مالية وخطف آخر من أسرة أخرى لتحريره، وتقوم الأسرة الأخرى بفعل الشيء نفسه لتحرير مخطوفها، في سلسلة تستمر سنوات، تديرها جهة خفية تتحكم بمفاصل اللعبة، وتملي شروطها على الجميع، وتجني جراء ذلك الأموال الطائلة، إلى أن تقرر إحدى حلقات هذه السلسلة التصدي لها، وتتمكن من كسرها في نهاية الرواية. وهكذا، تجمع شخوص الرواية ممن يقع عليها فعل الخطف بين ثنائيات: الضحية والجلاد، والمخطوف والخاطف، والمسلوب والسالب، على أن الطرف الأول من كل ثنائية يسقط عليها كقدر محتوم لا مجال لرده، وقيامها بالطرف الثاني يتم بالإكراه تحت وطأة قتل مخطوفها، فتجد نفسها مرغمةً على ارتكاب ما يتنافى مع مبادئها وأخلاقياتها، وتختار المصلحة على حساب المبدأ. بينما يرتع الخاطف الحقيقي في ساديته وأعطابه النفسية وما جناه من أموال، ويدير لعبته القذرة مستنداً إلى إتقانه التكنولوجيا الحديثة.
يشكل خطف الفتاة كايلي أونيل، ابنة الثالثة عشرة، خلال انتظارها باص المدرسة في جزيرة بلام، الحلقة الأولى في سلسلة الخطف، على المستوى النصي، فتقوم أسرتها، المؤلفة من أمها المطلقة والمريضة بالسرطان رايتشل، وعمها الضابط المتقاعد بيت، بدفع فدية مالية وخطف إميليا دنليفي ذات الأعوام الثمانية، من شارع بوزيدون لتحرير ابنتها، ما يشكل الحلقة الثانية. ثم تقوم هذه الأخيرة بالشيء نفسه، فتدفع فدية مالية وتخطف الفتى المقعد من إيست بروفيدانس هنري غوغ، ما يشكل الحلقة الثالثة. ثم يقوم سيموس غوغ، والد هنري، بخطف غاري بيشوب، ابن الرابعة عشرة من كونكينيكت، ما يشكل الحلقة الرابعة في السلسلة. ويترتب على تنفيذ كل حلقة ما يطلب منها إطلاق المخطوفين تباعاً. على أن تخلف إحدى الحلقات عن التنفيذ يرتب على الحلقة السابقة لها مسؤولية تصحيح الخلل بقتل مخطوف الحلقة المتخلفة وخطف آخر بديل عنه.
هذه الوقائع تشغل الجزء الأول الذي يشكل 60 في المئة من الرواية، وتحصل خلال خمسة أيام فقط، تبدأ من الساعة 7:55 من صباح الخميس، وتنتهي الساعة 6 من مساء الاثنين، ويحسب الوقت فيها بالدقائق والساعات. وفيها تلعب الحلقة الأولى، على المستوى النصي، دوراً محورياً في مجرى الأحداث، يتوزع على الأم رايتشل، والابنة كايلي، والعم بيت، ويبقى الأب مارتي، خارج الصورة، ويكون آخر من يعلم. فتتضافر جهود أفرادها في مواجهة السلسلة وأدواتها، في الجزأين الأول والثاني من الرواية، حتى كسرها وتخليص الناس من شرورها.
الأم والابنة
في هذا السياق، تغلب الأم رايتشل مشاعر الأمومة على ما عداها، وتبدي شجاعة خارقة في مواجهة التحديات، وتتغلب على أزمتها النفسية الناجمة عن الطلاق وأزمتها الجسدية الناجمة عن مرض السرطان، وتقوم بكل ما يلزم لتحرير ابنتها من براثن السلسلة، في مرحلة أولى، وتخليص الآخرين من شرورها، في مرحلة لاحقة. ولا تتورع عن الخطف والترهيب وقطع المسافات الطويلة واستخدام السلاح لتحقيق هدفها المزدوج.
وفي السياق نفسه، لا تقل ابنتها المخطوفة كايلي شجاعةً عن أمها، فتبدي تماسكاً في مواجهة خاطفيها، وتحاول الهرب من القبو الذي وضعت فيه، وتضرب الخاطف على رأسه بمفتاح معدني، وتتدرب لاحقاً على فتح الأصفاد، وتقوم بذلك في المعركة الأخيرة الفاصلة مع الرأس المدبر في نهاية الرواية، وتطلق النار على أحد مؤسسي السلسلة وترديه. إلى ذلك، يلعب العم المتقاعد بيت دوراً داعماً في مجرى الأحداث على الرغم تقدمه في العمر وإدمانه على المخدرات، فيواكب الأم في كل خطواتها، ويشاركها في الخطف ودفع المال وإطلاق النار، ويصاب في المعركة الأخيرة من أجل تحقيق هدفهما المزدوج المشترك.
القضاء على الوحش
إذا كان الجزء الأول من الرواية يتمحور حول الجرائم التي يديرها الوحش الخفي، وينفذها ضحاياه بعضهم ضد بعضهم ، فإن الجزء الثاني الذي يشغل 40 في المئة من الرواية يتمحور حول القضاء على الوحش ووضعه في المتاهة، وفي هذا الجزء، تطفو على سطح الأحداث المضاعفات المتمادية لجرائم الخطف على الضحايا، وهي مضاعفات تتراوح بين الكوابيس والتبول اللاإرادي والنحول الجسدي والقلق المستمر في حالة كايلي، ابنة رايتشل الأستاذة الجامعية، وبين النوبات العصبية المتكررة وسماع الأصوات المزعجة ومحاولة الانتحار والوصول إلى مستشفى الأمراض العقلية في فيرمونت في حالة آنا، ابنة إريك لونروت عالم الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هنا، تدفع هذه المضاعفات ذوي الضحيتين إلى التفكير في ضرورة اكتشاف الوحش الخفي والانتقام منه ووضع حد لجرائمه المتعاقبة، ويشكل اللقاء بين رايتشل وبيت، من جهة، وإيريك، من جهة ثانية، بداية تحول في مجرى الأحداث، فيقوم الأخير بتصميم تطبيق لتعقب اتصالات الوحش الهاتفية وتحديد مكانه لتبليغ الشرطة عنه، وتقوم الأولى باستدراج الوحش إلى الكلام واستخدام التطبيق المذكور، حتى إذا ما نجحت في ذلك، تكتشف أن الرأس المدبر للسلسلة توأمان اثنان يتعدد اسماهما بتعدد المراحل العمرية، هما: مونبيم وماشروم في الطفولة، أوليفر ومارغريت في الصبا، وأولي وجنجر في الشباب. وتكون الطامة الكبرى أن جنجر هي صديقة زوجها السابق الوسيم مارتي التي تتخذ من العمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي غطاءً لأعمالها القذرة. وحين يفتضح كل ذلك، تنشب معركة في مزرعة جد التوأمين في جزيرة تشوات المطلة على نهر إين، تنجلي عن القضاء على مؤسسي السلسلة وإراحة الجميع من شرورهما. وبذلك، يقول أدريان ماكنتي في "السلسلة"، إن تضامن الضحايا شرط ضروري للتخلص من الجلاد وقتل الوحش.
أعطاب نفسية
غير أنه ما كان للتوأمين أن يتوحشا ويرتكبا الجرائم لولا أعطابهما النفسية الناجمة عن نشوئهما في بيئة متوحشة، فالأب توم فيتزباتريك، والجد دانيال، يقومان بقتل أمهما أليسيا وأصدقائها صغيرين، والأب وزوجته تشيريل يعنفانهما لفظياً وجسدياً ويؤثران أخاهما الأصغر أنتوني عليهما. هذه الممارسات تدفع بهما إلى الانتقام، فيرميان أخاهما من السفينة خلال رحلة بحرية للأسرة، ويحملان أمه التي تلجأ إلى الحبوب المنومة مسؤولية ما حصل له، ويمتنعان عن إنقاذها حين يعثران عليها غائبة عن الوعي. ويبلغ انتقامهما الذروة حين يقدمان على قتل الأب الثمل، ويظهران الأمر على أنه حالة انتحار. بهذا المعنى، يكون التوأمان الجلادان ضحيتين بدورهما للبيئة التي نشآ فيها دون أن يشكل هذا الاستدراك تبريراً لجرائمهما المتعاقبة.
تختلف "السلسلة" عن الرواية البوليسية النمطية في وجود عدة جرائم فيها، وليس جريمة واحدة، وفي عدم وجود محقق خاص فيها، وفي غياب تام للشرطة، وفي قيام الضحايا باكتشاف المجرم والقضاء عليه. وهذا الاختلاف لا يقلل من بوليسيتها، بل يمنحها فرادتها في إطار النمط، ويجعل قراءتها محفوفة بالمتعة والإثارة.