اختارت روايات كثيرة ألا تعين جغرافيتها مثل خماسية عبدالرحمن منيف "مدن الملح" أو "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ أو "الحب في المنفى" لبهاء طاهر أو "التلال" لهاني الراهب أو "العصفورية" لغازي القصيبي وسواها ... وقد سميتُ هذا الاختيار "استراتيجية اللاتعيين".
كما يمكن أن يكون هذا الاختيار تقية من تسمية البلاد والأمكنة بأسمائها، يمكن أن يكون فسحة لإطلاق المخيلة، إضافة إلى التقية أو من دونها. وفي المدونة الروائية الكبيرة التي تتصل بالزلزال السوري خلال السنوات الـ 10 الماضية، ندر اختيار استراتيجية اللاتعيين، ومن هذه الندرة كانت روايتي "تاريخ العيون المطفأة"، ورواية شكيب أبو سعدة "الهلالي ملكاً" "دار كيوان" 2021.
تكتفي هذه الرواية بكلمة "البلاد" اسماً للدولة التي من مدنها تارا ومدينة الشمال، ومن قراها بستان الجوز وخربة راجح وكفر الرمان وسواها، وفي إشارة صريحة نادرة إلى سوريا يأتي ذكر بحر إيجه وجزيرة ليسبوس اليونانية، اللذين اشتهرا بما عرف من مأساة اللاجئين السوريين، والتي سيكون لها نصيب من رواية "الهلالي ملكاً"، مما يلوح بتركيا لـ "ميرانا" وللحدود الشمالية للبلاد، كما ترمي الرواية بإشارات عدة لما يعين فضاءها بالجنوب السوري (جبل الدروز أو جبل العرب)، ومن ذلك "المضافة والوعر والجبل.."، والقول مثلاً من عادة سكان الجبل أن يُعتبر المضيف مسؤولاً عن سلامة الضيف.
البطل والزلزال
لرواية "الهلالي ملكاً" محوران، أو شخصيتان محوريتان، أحمد الهلالي أولاً أو ثانياً، والزلزال السوري ثانياً أو أولاً، والرواية تضفي على الأخير أسماء الحرب والمحنة والكارثة والحراك المدني والحراك السلمي والتظاهرات والاحتجاجات، وكان أحمد الهلالي قد شارك في ربيع 2011 في تظاهرات مدينة دار الشمال التي لمع فيها اسم الناشط معين الزيان، لكن أحمد الهلالي باتت له شكوكه في هذا الذي تمكن من معرفة الناشطين عن قرب، فبعض من يشاركون في الاحتجاجات كانوا يعملون مع جهة أمنية ما، وسيتكشف معين الزيان عن ضابط في الأمن، ويطارد من مكان إلى مكان هذا الذي فضحه أحمد الهلالي.
يندغم محورا الرواية أحدهما في الآخر منذ ربيع 2011، وكان الهلالي قبل ذلك عضواً في حزب يساري، وقد سجن سنة ثم ترك الحزب، ومن مفاصل حياته الأولى عمله صغيراً في ورشة لتصليح السيارات الصغيرة، وهجرته إلى المدينة التي لا يخفى أنها بيروت، حيث عمل في سوبر ماركت في شارع السمرا، تراه شارع الحمرا؟ كما تعلم مهنة الدهان وكانت له الصلة الوثقى مع أم إسكندر، إذ حل في نفسها ظلاً لوحيدها الذي فقدته في الحرب الأهلية، أليست الحرب الأهلية اللبنانية؟، وسوف تستعيد الرواية من ماضي الهلالي المهم والأهم وهي تتابع حياته التالية لزلزال 2011، ابتداءً بمدينة تارا التي تضيق بمئات المخبرين الجائعين في ساحاتها وبرجال الأمن المضطربين كما هي تارا مضطربة ومريضة بالتردد والوهم، تعج بالكسالى الذين يحلمون بحظوة لدى من يتسيدون عليها، وتراهم ينهارون أمام أصنام "مصنوعة من حلوى مغمسة بالدم"، ويشبّه السارد العليم أولاء جميعاً بالوباء الذي يضرب مدينة تارا.
ما إن حضر العنف، تقول الرواية، وحل العنف المضاد بديلاً عن الاحتجاجات حتى تحول بعض المتظاهرين إلى قتلة، وسرعان ما هيمن الموت بالرصاص، تتدفق الرواية، بالقذائف وبالسكاكين وبقطع الرؤوس وبالتعذيب الذي ليس له مثيل وبالحرق وبالاغتصاب وبالبرد والجوع وبالعطش والأوبئة وبالحقد والتكفير والدفن تحت الأنقاض وباللجوء والنزوح والتهجير والهجرة، فإذا بشعب بكامله "تائه فوق أرضه وفوق كل أرض، يلاحقه الموت والعذاب أينما توجه".
مكابدات فردية وجماعية
تتقد لغة الرواية عندما تكتب المكابدات الفردية والجماعية، وتتلون اللغة أحياناً بالمسوح الشعرية، وشكيب أبو سعدة شاعر سبق أن صدرت له عدة مجموعات شعرية منها "تقول القصيدة" و"أنا ما رأيت"، ومن رواياته أيضاً "سنة العصافير" و"مارا". بيد أن الراوي التقليدي المكين كثيراً ما يلقي بظله على اللغة أو على اللعبة الروائيتين، كأن يقول بصدد ما يدور في دخيله أحمد الهلالي، "همس في أذن نفسه" أو "حدث نفسه" أو "ناجى ظله".
تبدأ الرواية باتصال أحمد صالح بالهلالي، مطالباً بمغادرة البيت فوراً، وتتعزز هذه البداية البوليسية بكثير مما يصادف الهلالي، سواء أثناء مطاردة ضابط الأمن المندس بين المتظاهرين له، أم أثناء وقوعه في أيدي المسلحين ثم فراره منهم.
تطلب جهات أمنية عدة أحمد الهلالي كما يطلبه المسلحون، وفي حمأة "الحرب اللعينة" ضيع أثر أهله، وبدأت رحلته في البحث عنهم، فكان أن أرسله مختار قرية بستان الجوز إلى صديقه أحمد صالح، أحد مثقفي تارا وثقاتها، حتى إذا اكتشف أحمد صالح أن ضابطاً قد جاء إلى تارا بمهمة سرية للبحث عن أحمد الهلالي، إنه معين الزيان، كان على الطريد أن يفرّ لتتقاذفه الدروب من بعد وتتدافع الحكايات، ولا يعدم ذلك أن تثقل الخطابة في ما يتعلق بالمتطرفين الغرباء الذين سرعان ما توافدوا إلى البلاد، من دول عربية وغير عربية، بينما كان المتطرفون المحليون متأهبين، ودُفع الجميع إلى الساحات فأخذوا التظاهرات السلمية إلى مسار مظلم ووحشي.
وفي مقام آخر يجري الحديث الخطابة عن جيران البلاد الذين "يدفعوننا الآن عن حدودهم كما يُدفع البلاء والوباء"، ومن تظاهروا بالتعاطف "يطاردوننا" ويمنعوننا من دخول بلادهم، لكنهم يجودون بالخيم والبطانيات والسلاح لنقتل بعضنا، وحتى الأشقاء الصغار المضطهدون التابعون لمن هو أكبر "تنمروا علينا".
الرسالة البيان
تجمع مدينة الحوارة الهلالي مع ثلة من رفاقه المطاردين، ومن الحوارة يمضون خارج الحدود الشمالية للبلاد، فيقيمون في ميرانا سنتين، يميل فيها أستاذ العلوم ريدان إلى الجهاديين، ويقف ضده يوسف الذي يهاجر إلى أوروبا، وستكون ليوسف رسالة طويلة أشبه بالبيان، وتُثقل عليها التقريرية بابتداء الجمل بتوكيد "إن"، كما سيكون للهلالي رسالة مطولة (16 صفحة) يكتبها لصديقه حازم الراضي الذي لقبه الهلالي والآخرون بـ "سراج الليل"، وكان سراج الليل قد هاجر قبل الزلزال يائساً من الوطن ومما كتب الهلالي له أن بلداً يعامل الإنسان فيه كالبهيمة ليس وطناً.
يعود الهلالي من ميرانا إلى البلاد، ويقع بين أيدي المسلحين في عين الحور، وترمي الرواية هنا بإشارة إلى المذهب الذي ينتمي الهلالي إليه، ففي تحقيق المسلحين معه ينكر مذهبه ويعلن أنه مسلم، وينوي الالتحاق بالمجاهدين بعد العثور على أهله، فلو اعترف بانتمائه فسيقتلونه، وقد تعرفت على الهلالي الممرضة المحجبة ضحى أثناء التحقيق معه، لكنها أخفت حقيقته عن المحققين. وفيما انضم إلى المجاهدين وأبلى معهم، يسرد السارد العليم عشق ضحى للهلالي، ويستعاد الماضي الذي كان الهلالي فيه صديقاً لمصعب شقيق ضحى، وقد حصل مصعب على منحة دراسية في بلد عربي، أليس من المبالغة في اللاتعيين ألا يكون لهذا البلد اسم ما؟ وصار أسير التطرف. في تارا كانت قد انتسجت قصة الحب بين ضحى والهلالي، فاستعاد مصعب شقيقته ودبر الاعتداء على الهلالي، وبعدما جمع العاشقان أسرُ المسلحين، يفر الهلالي ويضرب في الأرض المنبوذة، في البلقع المكود، في الصهارة البركانية، مما يصف به الفضاء الجنوبي/ الوعر/ الجبل.
الصخور الباكية
تتألق الرواية في شطرها الأخير، وترمح فيها المخيلة فتنجز تفردها بين مئات روايات الزلزال السورية، ففي بحث الهلالي عن ذويه يبلغ خربة راجح، ويلتقي في المغارة جديه اللذين أنكراه، وفي هذا السياق تأتي حكاية المتمردة الريم التي تزوجت ممن أحبت فقتلهما أخوها، وفي هذا الفضاء تنشب صخور سوداء شاحبة جنائزية الملامح، كأنها نساء متجهمات باكيات في مأتم جماعي.
إنها "قرنة الصخور الباكية"، حيث تلوح رواية شكيب أبو سعدة لرواية "أرواح صخرات العسل" ( 2018) لممدوح عزام، فالفضاء هو في الجنوب السوري، فضاء السويداء والجبل، سوى أن رواية "الهلالي ملكاً" تبتدع قرية الغرائب، ومغارة/ نفقاً هي لمن لجأوا فراراً من الحرب السورية، مركب نجاتهم الوحيد، سفينة نوح، حيث يبدو أن الناس "قد شربت من ماء الجنون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقوم في المغارة/ النفق مدينة غريبة، إذ التجأت أسر كثيرة من نار الكراهية إلى ثقب عميق في طيات الأرض، وهنا يلتقي الهلال بنوارة التي تقود الأطفال إلى صخرة كبيرة مسطحة مثل منصة، حيث يتشبه الأطفال بالجنود وبالمسلحين، ويتوزعون على الصخور مثل جوقات في مسرح بدائي. ومثل ضحى تعشق نوارة الهلالي الذي يتساءل عما أصاب الخلق حتى تبدلوا، فهم يبكون بصمت وبطريقة غريبة، "منهم من يبكي أولاداً قُتلوا، ومنهم من يبكي أحياء تقطعت بهم السبل في بلاد غريبة، ومن يبكي أعزاء في المعتقلات لا يُعرف مصيرهم، ومن يبكي نفسه العائمة فوق أمواج الأحزان".
أيمكن للحرب والخوف أن يفعلا كل هذا؟ يتساءل الهلالي، ويمضي إلى تارا. وفي مشهدية بديعة تأتي نهاية الهلالي التي تجلو أخيراً مصائر أهله رسالة من مختار بستان الجوز إلى أحمد صالح، فإذا بهم قد تبددوا بين قتيل ومهاجر، بينما يحضر الهلالي فيلماً في سينما الفيحاء، وكأن الفيلم مرحلة من حياته. وبينما يتهامس الجمهور من الباعة الجوالين وعمال المقاهي والمطاعم والحمالين عن الممثل بينهم، يباغت رجال مدنيون الهلالي، أنت معتقل، ولم يكن الفيلم إذاً إلا فخاً للهلالي الذي يتساءل، "هل يمكن أن أكون مطلوباً من جميع هؤلاء الأضداد المتقاتلين؟"، وتودع الرواية بطلها بهذه العبارة، "انطفأ مثل نسر في الوغر".