على صوت سيارة بائع المياه المحلاة، تجمع نحو 20 مواطناً لشراء عبوات تكفيهم ليوم أو أكثر، مسرعاً قطع المشهد العجوز أبو محمد الذي وصل يزاحم المكتظين، ويخاطبهم "لم تدخل المياه منزلي من أسبوع تقريباً، أفسحوا لي المجال لأحصل عليها".
حالة الرجل، مشابهة تماماً لباقي المصطفين أمام بائع المياه، وهي بالطبع لا تختلف عما يعيشه معظم سكان قطاع غزّة، الذين باتوا يشترون من الباعة المتجولين مياه الشرب لعدم توفرها في صنابير منازلهم. وحتى المياه في الصنبور، إذا توفرت غالباً ما تكون غير محلاة ولا تصلح إلا للاستخدام المنزلي وليست مخصصة للشرب، وعادة ما تصل للمنازل حسب جدول وصل التيار الكهربائي.
مشكلة جودة وكمية
وفقاً لبيانات المركز الفلسطيني للأبحاث التي تفيد بأن 25 في المئة من سكان القطاع تصلهم المياه لمدة سبع ساعات يومياً، ويحصل 56 في المئة منهم على عدد الساعات نفسه ولكن كل يومين، وبقية السكان كل ثلاثة أيام.
المشكلة في المياه، ليست مقتصرة على قلة الكمية التي يترتب عليها غالباً عدم توافرها في منازل المواطنين، بل أيضاً تتعلق بالجودة، فالمتوفر منها ملوث سواء كان الخاص للشرب أو الاستخدام المنزلي أو للزراعة.
يقول مسؤول الاتصال والبرامج في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان محمد شحادة، "إن سكان غزّة يعانون قلة المياه الواصلة لهم، وكذلك يتسممون ببطء بسبب تلك التي تصل إلى منازلهم"، وأشار إلى "أن نحو ربع الأمراض المنتشرة ناتجة عن تلوث المياه، فيما تقدر نسبة 12 في المئة من وفيات الأطفال والرضع بسبب أمراض معوية ذات صلة بالمياه الملوثة سواء تلك الخاصة للشرب، أو التي تستخدم للزراعة".
ويضيف، "لا يوجد أفق لمعالجة تلك الكارثة، وليس هناك مبرر على الإطلاق لاستمرار هذا الوضع في غزّة، لذلك على المجتمع الدولي والسلطات الإسرائيلية أن يضمنا حق السكان في الأمن المائي بشكل كامل". لافتاً إلى أنهم أبلغوا مجلس حقوق الإنسان التابع لهيئة الأمم المتحدة بهذه المعلومات.
يحتاج سكان القطاع لحوالى 215 مليون متر مكعب من المياه سنوياً لجميع الاستخدامات، ولكنهم يعانون في ذات المدة من عجز يصل إلى 130 مليون كوب. وتحصل غزّة على المياه من ثلاثة مصادر، تعتمد بنسبة 96 في المئة على الخزان الجوفي، واثنين في المئة على المباعة من إسرائيل، وبنفس النسبة على مياه البحر المعادة تحليتها عبر محطات تعاني مشكلات الكهرباء.
المياه الجوفية غير صالحة للشرب
يقول رئيس المعهد الوطني الفلسطيني للبيئة والتنمية أحمد حلس، "إن الاعتماد على المياه الجوفية والضغط الهائل في سحبها أدى لانخفاض منسوب الخزان تحت الأرض لمسافة 21 متراً عن مستوى سطح البحر، وبناء عليه دخلت مياه البحر للخزان بمقدار أربعة كليو مترات من مساحة القطاع، بسبب زيادة ملوحة المياه لدرجات قياسية". ونتيجة لذلك، أصبح 85 في المئة من مياه الخزان الجوفي غير صالحة للشرب، وبات اعتماد السكان عليها مقتصراً على الاستخدام المنزلي وري المزروعات، وتوجهوا لشراء مياه للشرب من شركات خاصة تعمل على تحلية المياه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عوامل التلوث
في خزان غزة الجوفي مشكلات وملوثات كثيرة، يوضح حلس، "أنه بسبب شبكات الصرف المهترئة، التي تدمرت أغلبيتها نتيجة الحروب المتكررة التي استهدفت البنية التحتية، ونتيجة لذلك تسربت المياه العادمة للخزان. وعلى غرار هذا هناك 30 في المئة من سكان القطاع غير موصولين بشبكات صرف صحي، وعادة ما يستخدمون حفراً امتصاصية، ترشح منها المياه العادمة إلى الخزان مباشرة دون أي عملية معالجة".
وبحسب حلس، "فإن أنشطة الزراعة المعتمدة على المبيدات الحشرية، أدت إلى ترشح المواد الكيماوية للخزان، إضافة إلى أن غزة تنتج يومياً 2100 طن من النفايات الصلبة وعند تحلل كل طن ينتج 200 لتر عصارة شديدة السمية تنزل إلى مياه الخزان الجوفي".
ولمحاولة إنقاذ الخزان الجوفي، تعمل ست محطات (تتبع لمنظمات دولية) على معالجة المياه العادمة التي ينتجها سكان غزّة وتقدر يومياً بحوالى 160 ألف متر مكعب، وفور الانتهاء من عملية تنقيتها تجري إعادة حقنها في الخزان الجوفي، يقول حلس عنها، "إنها غير معالجة، ولكن عند وصولها للناس تكون غير ممرضة بيولوجياً.
بحسب بيانات سلطة جودة المياه، في غزّة يوجد نحو 18 ألف بئر (تابعة لجهات حكومية أو خاصة) تعمل على سحب الخزان الجوفي، يصفها حلس "بالعملية الجائرة" ويلفت إلى أن الخزان عادة ما تتم تغذيته بمياه الأمطار، التي تقدر بحوالى 80 مليون متر مكعب، لكن هذه الكمية غير كافية لتعويض ما يسحبه السكان، لذلك يصبح الخزان غير صالح للاستهلاك الآدمي.
المياه المباعة غير مراقبة
وفي الحقيقة، يعتمد سكان غزّة على المياه المباعة للاستخدامات الآدمية (الشرب وطهي الطعام)، وفي محاولة لتوفير مياه صالحة لذلك، تعمل نحو 110 محطات تحلية على تنقية المياه، لكنهم يعتمدون كذلك على الخزان الجوفي، بخاصة أنهم لا يستطيعون استخدام مياه البحر. ويقومون ببيعها.
يقول حلس، "إن تلك المياه يوجد فيها صفر أملاح ومعادن، وفيها مشكلة في الكلور، ومشكلات تلوث بيولوجي تصل إلى 50 في المئة من إجمالي المياه المباعة، وذلك لأن 70 في المئة من محطات التحلية العاملة في غزّة غير مراقبة".
وفي أسوأ الأحوال تكلف عملية شراء الماء الصالح للاستخدام الآدمي نحو 30 دولاراً أميركياً شهرياً، ويقع ذلك ضمن إطار الأمن المائي، إذ حددت منظمة الصحة العالمية والمعهد العالمي للمياه والبيئة والصحة، أن عملية الشراء يجب ألا تزيد على 5 في المئة من إجمالي قيمة الدخل الشهري للفرد.