بعد غياب اكتنفه كثير من الغموض، كان مثاراً لجدل حول مستقبله السياسي إلى جوار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عاد الرئيس السابق دميتري ميدفيديف الى الأضواء بمقال مثير للجدل، سرعان ما أعلن الكرملين عن قناعته بمضمونه الذي اختار له عنوان "لا طائل من وراء الاتصالات مع القيادات الحالية في أوكرانيا". وفي هذا الشأن قال دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، إن ما كتبه ميدفيديف حول "عبثية الاتصالات مع القيادة الأوكرانية"، يتوافق مع ما سبق وأعرب عنه الكرملين في "صيغ مختلفة وعلى مستويات مختلفة".
ونشر ميدفيديف، الذي اضطُر للنزول عند إرادة الرئيس بوتين واقتنع بمنصب "نائب سكرتير مجلس الأمن القومي"، مقالته في صحيفة "كوميرسانت" المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الكرملين، في توقيت مواكب لوصول نائبة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند إلى موسكو بهدف إجراء مباحثات مع عدد من القيادات الروسية حول العديد من جوانب العلاقات بين البلدين وفي مقدمها الموقف من العلاقات مع أوكرانيا واحتمالات لقاء الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وفي خمس نقاط كانت عامرة بالكثير من التجاوزات اللفظية، أوجز "الرئيس الروسي السابق"، موقفه من الأوضاع في أوكرانيا التي وصفها بأنها "ضائعة" تبحث عن هويتها، وأن قياداتها وخاصة الرئيس وصحبه، "أشخاص" لا يتمتعون بهوية ذاتية مؤكدة، ونعتهم بأنهم "تعساء لا يعلمون وطناً لهم، ويجهلون جذورهم التاريخية، ومن أي أعراق انحدروا، وحاروا أمام احتمالات أن يكونوا أوكرانيين أو أوروبيين أو روس أو يهود أو تتار أو مجريين". وقال إن الرئيس الحالي، دون الإشارة إلى اسمه (فولوديمير زيلينسكي)، مكتفياً بوصفه "رئيس الدولة"، "منهك القوى"، ينحدر من أصول عرقية معينة، دون الإشارة إلى أصوله اليهودية التي ينتمي ميدفيديف إليها أيضاً. وذكر عنه أنه لطالما استخدم اللغة الروسية وعمل في روسيا وتلقى منها الكثير من الأموال، ليصبح فجأة رئيساً للدولة، ليعود عن سابق توجهاته الأخلاقية والسياسية، خشية مواجهة المعارضة. وتحدث عن تحول "الرئيس" عن هويته صوب "خدمة المتطرفين الفوضويين من ممثلي القوى القومية".
كاتب آخر؟
وبمفردات تتسم بطابع وصفه معارضون على الساحة السياسية الروسية بـ "السوقي"، مضى الرئيس السابق ميدفيديف في نعت القيادة الأوكرانية بما يقترب من إدراجه ضمن الألفاظ التي من الممكن أن يعاقب عليها القانون. وكان من هؤلاء جليب بافلوفسكي الذي عمل مساعداً للرئيس فلاديمير بوتين، قبل أن ينتقل في وقت لاحق لخدمة خلفه ميدفيديف حتى عاد وانقلب عليه أيضاً، ليشغل مواقعه ضمن صفوف المعارضة "غير الممنهجة". ولم يكتف بافلوفسكي بذلك، بل أشار في حديث الى قناة "دوجد" (المطر) المسجلة في وزارة العدل بوصفها "إحدى منظمات المجتمع المدني" التي ينطبق عليها قانون "العملاء الأجانب"، إلى احتمالات أن يكون وراء كتابة مثل هذه المقالة آخرون، منهم فلاديسلاف سوركوف، المستشار السابق للرئيسين بوتين وميدفيديف، وإن قال آخرون بغير ذلك. وإذ أشار ميدفيديف في مقالته إلى تخلي الرئيس زيلينسكي عن هويته، وإقراره للعديد من القوانين الغريبة التي وصفها بأنها "غير شرعية"، قال إن "مثل هذه الأوضاع تعيد إلى الاذهان ما سبق واتسم بالجنون، والابتعاد عن المنطق والعقلانية". وأضاف أن ذلك قد يفسر ظهور الوثائق غير الشرعية ومنها "أن يُطلَب من ممثلي المثقفين اليهود في ألمانيا النازية، ولأسباب أيديولوجية، العمل في قوات الأمن الخاصة".
ومضى ميدفيديف ليقول "إن القادة الأوكرانيين من الجيل الحالي، شعب لا يعرف سوى اكتناز الأموال والثروات، وإن كان الأهم يظل بالنسبة لهم إيداعها في البنوك الأجنبية بشكل مطلق".
أوكرانيا والسيطرة الأجنبية
واستشهد ميدفيديف بمقالة سلفه وخلفه فلاديمير بوتين التي كان نشرها في وقت سابق من هذا العام وقال فيها إن اوكرانيا بلد خاضع للسيطرة الأجنبية المباشرة، مؤكداً على أن هذه الإدارة أصعب بكثير من تعامل الاتحاد السوفياتي مع الدول الاشتراكية الفردية في فترة سابقة، حيث كان الاتحاد السوفياتي يسمح لحلفائه الجيوسياسيين بمساحة كافية لرسم وصياغة سياساتهم الداخلية، بينما يدرك أنه بخلاف ذلك يمكن أن ينتهي الأمر بأحداث مأساوية مثل الانتفاضات المجرية في عام 1956، أو ربيع براغ في عام 1968.
وحمل المسئول الروسي على السياسة الأوكرانية التي وصمها بالتبعية للولايات المتحدة والسعي للحصول على مساعداتها، فيما تترك شؤونها رهينة واشنطن التي تكتفي بأن تفرد لها دور المواجهة مع روسيا. وقال إن "مثل هذا التحالف هش للغاية ولا بد أن يتحول في مرحلة ما إلى غبار. أما عن آمال الالتحاق بعضوية الناتو والاتحاد الأوروبي، فسرعان ما ستندثر وتتلاشي، لأسباب تعود إلى أن أوكرانيا نفسها لا قيمة لها على خط المواجهة المباشرة بين القوات الغربية وروسيا". وخلص ميدفيديف في هذا الموقع من مقالته إلى أنه "لا يوجد حمقى للقتال من أجل أوكرانيا. وليس منطقياً بالنسبة لنا التعامل مع التابعين. يجب أن يتم التعامل مع أسيادهم"، على حد تعبيره.
وتحول ميدفيديف ليقول إنه يقف على رأس أوكرانيا "أناس ضعفاء يسعون جاهدين فقط إلى اكتناز الثروات والأموال، وتحويلها إلى الخارج". وحرص على التأكيد أن موسكو تعرف الكثيرين منهم جيداً، مشدداً على أن "لا أحد منهم على استعداد للتضحية من أجل أوكرانيا". وأضاف أن "الكراهية لروسيا والرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تفسح المجال أمام دوافع أنانية".
وعلى النحو نفسه مضى ميدفيديف ليقول إنه "لا طائل من وراء العلاقات مع القادة الاوكرانيين الحاليين"، ممَن وصفهم بأنهم "أشخاص جاهلون لا جدوى ولا منفعة منهم. إنهم يغيرون مواقفهم باستمرار لإرضاء أسيادهم في الخارج". وأضاف أنهم "يوقعون اتفاقيات مينسك، ويتفقون في إطار "صيغة نورماندي"، وبعد ذلك - بعد الاضطرابات الداخلية سواء في مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني)، أو في الميدان أو في ما وراء المحيط - يغيرون مواقفهم في اتجاه مختلف تماماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من اعترافه بأن التنازلات المتبادلة أمر وارد في السياسة ، بل وأحياناً بعض الخروج عن الخط المحدد، ولكن ليس إلى الحد الذي يتغير فيه النهج المتفق عليه إلى نهج معاكس تماماً، قال إن القادة الأوكرانيين في تعاملاتهم مع روسيا يكذبون باستمرار ولا يلتزمون بما يتعهدون بتنفيذه من اتفاقيات أو قرارات. ولا يتوقف هذا الأمر على قيادات بعينها، بل ينسحب على جميع المفاوضين الأوكرانيين، ممَن قال إنهم "يتنافسون في بلوغ مستوى الهراء الدائم"، مؤكداً أنه "لا يمكن الوثوق بهم والمفاوضات معهم لا طائل منها".
خلاصة القول
أما عما أراد أن يخلص إليه ميدفيديف في هذه المقالة، فأوجزه في قوله إنه "لا يمكن الوصول مع القيادة الحالية إلى شيء ذو قيمة، وأنه يتسنى على موسكو الانتظار إلى حين ظهور قيادة عاقلة في أوكرانيا، لا تهدف إلى المواجهة الكاملة مع روسيا وحتى حد الحرب معها... فقط مع مثل هذه القيادة الأوكرانية يمكن التعامل"، مؤكداً على أن "روسيا تعرف وتستطيع الانتظار. نحن شعب صبور".
زيارة نولاند
أما عن ردود الأفعال على مقالة ميدفيديف التي جاءت مواكِبةً لانتهاء مباحثات فيكتوريا نولاند في العاصمة الروسية، فكانت تتراوح بين الانزلاق للترويج والتقريظ والمديح، في إطار حملة كاملة يبدو بعضها وكأنه "مدفوع الأجر"، وبين الانتقادات الحادة والإدانة لمضمونها، الذي قال كثيرون إنه لم يختلف عما صدر عن كثيرين من ممثلي السلطات الروسية الرسمية، على الرغم من تفرد الرئيس الروسي السابق بميل نحو الشتائم والسباب وتجاوزات لفظية بحق رئيس أوكرانيا الذي نعته بالجهل والضعف والتبعية والخنوع وانه لا طائل من وراء أي مباحثات معه.
ومن ردود الأفعال ايضاً، نشير إلى ما صدر عن كييف من ردود اتسمت بدورها وفي بعض جوانبها بالتسرع والابتعاد عن الوقار على غرار ما قالوا إنه يتفق مع أسلوب ميدفيديف في هذه المقالة. وفي هذا الصدد قال ميخائيل بودولياك، مستشار مدير مكتب الرئيس الأوكراني، في تعليقه الى وكالة الأنباء الوطنية إن "الجانب الأوكراني يولي اهتمامه فقط بمنصب الرئيس الحالي لروسيا"، وإن مقال ميدفيديف "نص غريب للغاية وغير مناسب وغير ذي صلة ولا يستحق بالتأكيد تقييمات عامة جادة". وأضاف أن "ميدفيديف ليس موضوعاً للسياسة... حتى وسائل الإعلام الروسية الحكومية تعامله بقدر كبير من السخرية". أما إيغور تشوبايس أستاذ الاقتصاد وشقيق السياسي الروسي المعروف أناتولي تشوبايس فأشار في تعليق على خدمة "صوت أميركا" الناطقة بالروسية، إلى أنه قرأ تعليقات سلبية للغاية على موقع إذاعة "صدى موسكو" على مقال ميدفيديف تحدث فيه بشكل غير مبهج عن المستوى الفكري للمؤلف. وقال إنه يعتقد أن مقالة الرئيس السابق لم تؤثر على الرأي العام بالطريقة التي توقعها الكرملين فحسب، "بل تسببت برد فعل عنيف". وأضاف تشوبايس الذي يقف على طرفي نقيض من مواقف شقيقه، أن "مقالة ميدفيديف ضعيفة وتثير أسئلة عدة، وتتضمن بين طياتها الكثير من التناقضات. والأهم من ذلك، أنه يعني أن الحكومة الروسية ترفض رفضاً قاطعاً الدخول في مفاوضات مع أوكرانيا، وهو موقف ليس بجديد". كما حمل تشوبايس على السلطات الروسية متهماً إياها بأنها "قررت الانحياز إلى عزل روسيا، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تدهور الوضع الاقتصادي". وإذا كان تشوبايس أستاذ الاقتصاد اختار نهج الدفاع عن السياسة الأوكرانية على طول الخط كما يُقال، فإنه يكون قد جنح بدوره صوب الطريق المعاكس لما استهل به حديثه حول اتهام كاتب المقالة بعدم الموضوعية. وذلك يمكن استيضاحه في ما قاله حول أن روسيا تنتهج سياسة معادية لأوكرانيا ولا تلتزم بكلمتها وتنتهك الاتفاقيات الدولية وليس لديها سوى صديق واحد هو (رئيس بيلاروس) ألكسندر لوكاشينكو الذي وصفه بـ"الجلاد". وذلك ما سارع آخرون إلى تفنيده من خلال استدعاء الكثير من فقرات مقالة الرئيس بوتين التي قال فيها إن روسيا وأوكرانيا شعب واحد استناداً إلى أصولهما السلافية، إلى جانب دعوته إلى الحوار وإن قال بضرورة أن يتركز هذا الحوار على العلاقات الثنائية بعيداً عن مسالة "ضم القرم" التي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية. كما أشار هؤلاء إلى عدم التزام كييف بتنفيذ "اتفاقيات مينسك" التي وُقِعت تحت رعاية "رباعي نورماندي" الذي ضم ممثلين عن كل من روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، فضلاً عن عدم التزام الرئيس الأوكراني بما سبق وتعهد به خلال حملاته الانتخابية بشأن وقف الحرب في منطقة الدونباس في جنوب شرق أوكرانيا. ولا يمكن أن نغفل في هذا الصدد إصدار زيلينسكي قرارات عدة منها تلك التي صدرت بشأن منع استخدام اللغة الروسية والكثير من القيود التي اتسمت بقدر كبير من العنصرية تجاه الأقليات ومنها المجرية والبولندية، الأمر الذي كان في صدارة أسباب الخلافات مع كل من بولندا والمجر، وليس روسيا وحدها. وما بين ذلك كله تضيع الحقائق التي منها ما يُقال إنه "حق يُرَاد به باطل".