يبدو أن حربا تجارية وتكنولوجية باردة بدأت بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يُتوقع لها أن تطول عقودا طويلة، مذكّرة بالحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفيتي، والتي استمرت نحو خمسة عقود، إلى أن انتهت بتفكّك الاتّحاد في تسعينيات القرن الماضي.
وقد بدأ المحللون الأميركيون يتحدثون عن هذه الحرب الباردة، وانتشر على الفو هاشتاق على "تويتر" عن حرب باردة تكنولوجية #USChinaTecColdWar ليؤشر على عمق الأزمة بين البلدين التي لا يُعرف مداها.
وفي بداية هذا الشهر، بدأت إدارة ترمب الحرب التجارية مع الصين، عندما تسرّبت معلومات بأن بكين امتنعت عن تنفيذ شروط اتفاق مزمع إبرامه بين البلدين، متعلق بحماية الملكية الفكرية والسرقة التكنولوجية وتحرير العملة "اليوان"، لتتخذ إدارة ترمب قرارا سريعا بفرض رسوم تجارية على بضائع صينية بقيمة 200 مليار دولار بنسب تصل إلى 25%. ثم ردّت الصين بالمثل على بضائع أميركية تقدر بـ60 مليار دولار. لكن الطرفين عادا إلى التخفيف من حدة هذه القرارات، والتلميح بأن صفقة ما في الأفق (وقتذاك انتشر وسم آخر هو #USChinaTradeWar).
القائمة السوداء
أدى ذلك إلى توقف "رالي" البورصات الأميركية في الأسبوع الذي تلا تنفيذ قرار ترمب، الذي أصبح ساري المفعول في 10 مايو (أيار) الحالي. وكانت البورصات تعيش انتعاشة هي الأطول منذ الأزمة المالية العالمية قبل 12 عاما. وما لبثت أن عادت هذه البورصات إلى الارتفاع الأسبوع الماضي على وقع إشارات الحلحلة بين الطرفين واستبعاد شبح حرب أميركية-إيرانية، حتى أخذت الحرب بين الطرفين الأميركي والصيني مسارا آخر، عندما قررت واشنطن حظر التعامل مع شركة "هواوي" الصينية و68 كياناً ووضعها ضمن قائمة تصدير سوداء يوم الخميس الماضي.
إزاحة "هواوي"
لكن الجديد في هذه الحرب دخول شركات تكنولوجية أميركية على خط المعركة لمحاربة منافستها الصينية، شركة "هواوي"، إحدى أكبر الشركات العالمية في تمديد شبكات الاتصالات وإدارتها، وصاحبة ثاني أكبر حصة سوقية للأجهزة الذكية بعد "سامسونغ".
فتنفيذا لقرار ترمب، اتخذت كبرى الشركات التكنولوجية الأميركية مثل "غوغل" و"إنتل" و"كوالكوم" قرارا بوقف تعاملاتها مع "هواوي". ومع أن قرار هذه الشركات يعد امتثالا للإدارة الأميركية، إلا أن المعركة ستزيح من أمامها "هواوي" أو تقوّض تمددها السريع في عالم شبكات الاتصالات والاستحواذ على البيانات الضخمة، وهو أمر كان يقلق عملاق التكنولوجيا الأميركي، شركة "غوغل"، التي تستمد قوتها من إدارة وتخزين البيانات الضخمة التي تمرّ عبرها، تماما كما تفعل "هواوي"، التي تتمتع بأفضلية في العمل في سوق صينية أقل تكلفة من ناحية الإنتاج (عمالة أرخص ويوان ضعيف ودعم حكومي رغم أن (هواوي) تنفي الدعم الحكومي).
تذبذب البورصات
وكانت البورصات الأميركية هوت الاثنين الماضي على وقع قرار الشركات التكنولوجية الأميركية، حيث هناك ارتباطات من ناحية التشغيل والصناعة بين "هواوي" وشركات تكنولوجية أميركية عدة، حيث تأتيها إيرادات من "هواوي" التي تقدّم دائما أسعارا تنافسية مخفضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك قائمة من 20 شركة عرضها "غولدمان ساكس" تأثرت من قرار حظر "هواوي"، حيث تأتيها إيرادات من "هواوي" من بينها: إنتل، وبرودكوم، و كوالكوم، وميكروسوفت، ونفيديا، وغيرها بنسب تتراوح بين 1% إلى ما يقارب 50%.
وعلى الفور، خصم المتعاملون في البورصات أثر الإيرادات التي ستفقدها الشركات الأميركية من أسعار أسهمها، والتكاليف الإضافية التي ستتكبدها في حال لم تجد بدائل بنفس أسعار "هواوي"، وهو ما يعني تلقائيا انخفاضا في أرباح الشركات.
إرجاء حظر "هواوي"
وسارعت الحكومة الأميركية إلى تخفيف هذا الأثر، مع تهاوي الأسهم، إذ أعفت "هواوي" من قرار الحظر لمدة 90 يوما، معطية مهلة للشركات للبحث عن بدائل. وتفاعلت البورصات إيجابيا مع خبر الإعفاء هذا أمس، حيث قفز مؤشر "ناسداك"، الذي يجمع كبرى الشركات التكنولوجية بنسبة تزيد عن 1%، بينما كان ارتفع مؤشرا جونز الصناعي وستاندرد آند بورز 500 بنسبة 0.77% و1.08%.
حرب باردة
وهناك تخوف الآن من "أن تطول الحرب التجارية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين لعشرات السنين"، كما يقول كريستوفر سمارت، رئيس Barings Investment Institute، لـ"ياهو فاينانس".
والمشكلة أن تكاليف الحرب الباردة ستكون باهظة على المستثمرين في البورصات. فقد باتت أسواق الأسهم من أميركا إلى الخليج العربي على موعد كل أسبوع مع قصة اقتصادية سياسية جديدة، فبين الحرب التجارية التي بدأها ترمب في بداية هذا الشهر، والحرب التكنولوجية التي انطقت الخميس الماضي، هناك حرب سياسية عندما ألمح ترمب إلى إمكانية حدوث مواجهة حقيقية مع إيران، سرعان ما تراجع عنها تاركا انهيارات بالمليارات أيضا لأسواق الخليج.
وقد ارتبط الاقتصادان الأميركي، أكبر اقتصاد في العالم، والصيني، ثاني أكبر اقتصاد عالميا، ببعضهما البعض، لدرجة أن فك هذا الارتباط وإعادة رسم خريطة طريق تجارية بين الطرفين لن يكون سهلا، خصوصا أن بكين بنت لسنوات طويلة تنافسيتها على غضّ البصر الأميركي عن السرقات التكنولوجية وانتهاك الحقوق الفكرية للشركات التكنولوجية وبنت إمبراطورتيها.
وادي سيليكون صيني
ويتحدث رائد المصري، وهو مؤسس وشريك في صندوق ملكية خاصة متخصص في التكنولوجيا في السيليكون فالي، عن وجهة نظره في هذه الحرب التجارية والتكنولوجية، ويقول "ستكون لها تأثيرات على المدى القصير، حيث ستحدّ أو تمنع الإجراءات الأميركية من قدرة الصين على الولوج إلى الابتكارات التكنولوجية في وادي السيليكون، لكن في الوقت نفسه ستترك أثرا على التمويل المطلوب لمؤسسي شركات التكنولوجيا الأميركيين.
من ناحية أخرى، بحسب المصري، فإن "الولايات المتحدة تدفع الصين لبناء مركز تكنولوجي خاص بها، ما سيؤثر لاحقا على وادي السيليكون ويخفف من جاذبيته كمركز تكنولوجي عالمي".
هواجس أميركية
وهناك تعقيدات كثيرة في التجارة البينية الأميركية الصينية، وتفكيكها سيتخذ وقتا طويلا، علما بأن الولايات المتحدة تعاني عجزا يزيد على 400 مليار دولار مع الصين.
وهناك مشكلة ستواجه المستهلك في ارتفاع أسعار السلع والمنتجات التي تُصنّع في الصين بتكلفة قليلة ويعاد استهلاكها في السوق الأميركية، وتضاف إليها الآن الأجهزة التكنولوجية التي ستكون أسعارها أعلى على المستهلك الأميركي، وهو أمر سيزيد الضغوط على الاقتصاد الأميركي.
وكانت أغلب بيوت الأبحاث الأميركية توقعت تراجعا لنمو الناتج المحلي للبلدين إذا استمرت الحرب التجارية، وتراجعا للنمو الاقتصادي العالمي بطبيعة الحال.
معركة البيانات الضخمة
ولدى الجانب الأميركي هواجس من التجارة البينية مع الصين عموما، حيث يتهم الأميركيون بكين بأنها لا تحترم اتفاقيات التجارة الحرة وتقلّد السلع ولا تحترم الملكية الفكرية وتقوم بسرقة تكنولوجية، ولا تريد تحرير عملتها "اليوان"، ما يجعل لدى سلعها أفضلية في عمليات التصدير، وهو أمر تنفيه بكين دائما.
وفي ملف "هواوي" هناك تخوف أميركي من تمدّد شركة "هواوي" وسيطرتها على شبكات الاتصال العالمية، خصوصا مع تفوقها الآن في مجال شبكات الجيل الخامس، التي ستحدث ثورة في عالم الاتصالات بسرعات للإنترنت تفوق عشرات أضعاف السرعات الحالية للجيل الرابع. وسيكون الجيل الخامس المحرك الأساسي لإنترنت الأشياء والسيارات ذاتية القيادة والربوتات.
ولا يريد الأميركيون لـ"هواوي" أن تتمكن من السيطرة على قطاع البيانات والمعلومات وتدفقها عبر شبكاتها، ثم تخزينها وتحليلها والاستفادة منها في رسم الصناعات والاقتصادات في المستقبل.