لم تمر دقائق على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، إلا وبدأت الروايات تُنسج حول أسبابه، بدءاً من رواية انفجار مفرقعات، ورواية الخطأ في تلحيم البوابة الرئيسة للعنبر رقم 12 وغيرها من الروايات التي عكست ريبة من محاولات "طمس" أي مسعى لجلاء الحقيقة، لا سيما أن سلسلة اغتيالات مشبوهة طالت أمنيين وسياسيين لبنانيين يُعتقد أنهم يمتلكون معلومات متعلقة بقضية المرفأ.
ومع تقدم التحقيقات التي يجريها المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، وتوصله إلى استدعاء سياسيين وأمنيين تابعين لمنظومة السلطة إلى التحقيق، بدأت الحملة تستعر تدريجاً بوجهه، وصولاً إلى التهديدات المكشوفة التي طالته على ألسنة قياديين في "حزب الله"، وسبقت الإعلان الصريح للأمين العام للحزب حسن نصر الله عن ضرورة عزل بيطار، متهماً إياه بـ"تسيس التحقيق والتآمر" على حزبه.
خلاصات حاسمة
وكان لافتاً إصرار النواب والوزراء المتهمين على عدم المثول أمام القاضي، ومحاولة ترويج أنه يحصر التحقيقات في إطار تهمة الإهمال الوظيفي تمهيداً للاستهداف السياسي، وأنه يتجاهل أسباب التفجير ومن استقدم شحنة نيترات الأمونيوم المنفجرة، إلا أن مصادر قضائية قريبة من القاضي بيطار رأت أن التحقيقات توصلت إلى خلاصات مهمة حول من أدخل المواد المتفجرة وأُرسلت عشرات الاستنابات القضائية إلى عدد من الدول يتواجد فيها المتهمون بوصولها إلى مرفأ العاصمة اللبنانية. وأضافت المصادر عينها أن الإجراءات القانونية لتلك الاستنابات تتقدم باتجاه الكشف عن عملية وصول النيترات إلى بيروت.
وأعلن المصدر أن بيطار بات قريباً من إصدار قراره الظني، إلا أنه ينتظر تسلّم التقرير التقني للاستخبارات الفرنسية المتوقع خلال أسابيع قليلة، والذي يحاكي عملية التفجير وحسم الرواية النهائية حول إذا ما كان الانفجار مفتعلاً أو مجرد حادث، موضحاً أن محققين فرنسيين شاركوا في تحقيقات الأيام الأولى للانفجار حللوا عيّنات من الموقع، ومضيفاً أن القاضي بيطار راسل دولاً كبرى مثل روسيا وأميركا وفرنسا، تمتلك أقماراً اصطناعية بهدف تدعيم التحقيق. وأشار المصدر ذاته إلى أن بيطار توصل إلى خلاصات دقيقة في هذا الشأن ويسعى من خلال تقارير الاستخبارات الدولية إلى تعزيز القرائن الدامغة التي يمتلكها.
وحول سبب ارتياب "حزب الله" من التحقيق والضغوط التي يمارسها على السلطات الأمنية والسياسية لمنع إعطاء أذونات التحقيق ومنع الضابطة العدلية من تنفيذ مذكرات التوقيف، أكد المصدر أن "التحقيقات سرية ولا يمكن معرفة إذا كان الحزب متورطاً بالقضية"، معتبراً أن سلوك الحزب يؤكد الشكوك بتورطه أو تخوّفه من أن يكشف بعض الذين تم استدعاؤهم عن معلومات "خطيرة" تدينه أو تؤدي إلى فتح ملفات مرتبطة باغتيالات سياسية وعمليات أمنية.
الشوط الأخير
في السياق، قال الصحافي المتابع للشؤون القضائية يوسف دياب إن "القاضي بيطار مصمم على الاستمرار بالتحقيقات. وهو أنجز ما بين 70 إلى 80 في المئة منها وهو حريص على استكمالها وعدم إضاعة الوقت وإدخال القضية في متاهات التجاذب السياسي"، مشدداً على أن "بيطار يعتبر نفسه غير معني بالتهديدات التي تحصل خارج قصر العدل، وغير مسؤول عن الاشتباكات التي حصلت في الأيام الأخيرة".
وشدد دياب على أن "القاضي بيطار بات في الشوط الأخير من هذه المهمة"، معترفاً بأن "هناك عراقيل تحول دون الاستماع إلى النواب والوزراء المستدعين إلى التحقيق بسبب نظام الحصانات والتدخل السياسي، إلا أن القاضي سيستكمل استجواب مدّعى عليهم آخرين وينتظر بعض المعطيات التقنية وأجوبة عن الاستنابات الخارجية قبل أن يختم التحقيق ويحيله إلى المجلس العدلي وعندها تنتهي مهمته". ولفت إلى أن "من لديه اعتراضات على القرار الاتهامي يستطيع التوجه إلى المجلس العدلي المكوّن من أعلى خمسة قضاة في البلاد".
ورأى أن "التحقيق مستمر ولن يتأثر بالضغوط المتصاعدة، لا سيما أن ثلاث دعاوى ارتياب قُدمت ضد بيطار أمام أعلى مراجع ومحاكم في لبنان ورُدّت جميعها، في حين لا تزال هناك دعويَين عالقتَين أمام محكمة التمييز الجزائية لنقل الدعوى من القاضي بيطار. وفي حال وافقت المحكمة على إحداها، حينها يمكن كف يد بيطار بالطريقة القانونية وليس عبر التهديد والضغط في الشارع". وأوضح دياب أن "التحقيق مستمر إلا إذا حصلت خيارات سياسية تشكل انقلاباً على القانون والقضاء عبر الضغط على وزير العدل الذي بدوره ربما يضغط على مجلس القضاء الأعلى لتسمية قاضٍ بديل، بالتالي يكون القضاء فقد مصداقيته ويضع مصير الدولة والنظام القضائي في مهب الريح، ويُسقط صورة الدولة أمام الرأي العام المحلي والدولي كونها شريكة في تدمير القضاء".
اجتماع استثنائي
ويخشى مراقبون من تصاعد الضغط السياسي والأمني على القضاء لعزل المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، فيما يعقد مجلس القضاء الأعلى اجتماعاً استثنائياً يوم الثلاثاء المقبل للاستماع إلى رأي بيطار حول مسار التحقيق في القضية.
في هذا الإطار، اجتمع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مع وزير العدل القاضي هنري خوري ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، لبحث الأحداث الأمنية التي حصلت في الطيونة وضرورة الإسراع في التحقيقات الجارية لكشف الملابسات الكاملة وإحالة المتسببين على القضاء المختص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشدد ميقاتي خلال الاجتماع على "أن الملف الكامل لما حدث هو في عهدة الأجهزة الأمنية وتحت إشراف القضاء المختص"، مؤكداً أن "الحكومة حريصة على عدم التدخل في أي ملف يخص القضاء، وأن على السلطة القضائية أن تتخذ بنفسها ما تراه مناسباً من إجراءات".
تسريب "مريب"
في سياق مرتبط، فوجئ أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت ليل الجمعة بمقطع فيديو "مستغرب" يظهر فيه الناطق باسم لجنة أهالي الضحايا إبراهيم حطيط، مطالباً فيه المحقق العدلي بيطار بالتنحي.
وظهر حطيط في مقطع الفيديو بشكل مرتبك، يتلو بياناً مكتوباً، ما دفع البعض إلى مقارنته بفيديو "أحمد أبو عدس" الذي تبنّى فيه اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، والذي تبيّن لاحقاً أنه مفبرك بهدف التضليل. وتوجه حطيط في الفيديو الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى المحقق العدلي بالقول "نحن وضعنا دمنا عندك ولكن ما حصل يشير إلى تسييس واستنسابية فاضحة ووصلت الأمور إلى إراقة دماء الأبرياء، لذا، نحن نطالبك بالتنحي لإفساح المجال أمام محقق عدلي آخر يكون أميناً على دمائنا".
وتبنّى حطيط أدبيات وأسلوب "حزب الله" لناحية ربط التدخل الأميركي بمسار التحقيق، إذ قال "ندين التدخل الأميركي السافر في القضية والتحقيق، فأميركا لم تدعم يوماً أي قضية إلا لمصالحها الخاصة الخبيثة، كما نرفض كل محاولات تدويل القضية، بخاصة أننا في لبنان لدينا تجربة سيئة مع المحاكم الدولية".
في المقابل، أكد وليام نون، شقيق ضحية انفجار مرفأ بيروت جو نون، أن "ما صدر عن حطيط كان تحت التهديد وهذه ليست لغته، ولن نلومه على موقفه المستجد".
وكشف وليام نون أنه وآخرين من أهالي الضحايا حاولوا الاتصال بحطيط وزوجته من دون أن يتمكنوا من الوصول إليهما. وأضاف أن شخصين من ذوي الضحايا أيضاً يسكنان في الضاحية الجنوبية لبيروت في مكان قريب نسبياً من منزل حطيط لم يتجرّآ على زيارة منزله للتأكد من وجوده هناك"، مضيفاً "ناشدنا أحد الأمنيين الكبار الدخول إلى منزل إبراهيم حطيط والتأكد من سلامته لكنه ردّ أنه لا يستطيع التصرف من دون إذن، لا سيما أن المنطقة التي يقطنها حطيط تحتاج إلى تدابير وأذونات استثنائية".
وحتى الساعة لم يصدر أي بيان رسمي أو من "حزب الله" حول البيان الشائك الذي تلاه حطيط، إلا أن وسائل الإعلام القريبة من الحزب بثته من دون الإشارة إلى أي شكوك وبنت عليه تأكيداتها حول "إجماع أهالي ضحايا المرفأ على عزل القاضي بيطار".
أولياء الدم
ورداً على فيديو حطيط، اعتبرت لجنة أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت ومجموعة لجان ذوي الشهداء والضحايا والجرحى في بيان "أن ظروفاً مستجدّة أدّت بإبراهيم حطيط، شقيق الضحية ثروت حطيط، إِلى إصدار بيانه الأخير المستغرب باسم عوائل الضحايا"، مؤكدين أن "هذا الموقف لا يمثلهم أبداً".
وشددوا على أنهم ثابتون في مواقفهم السابقة بما يخص الثقة التي أولوها للقاضي طارق بيطار للتحقيق في القضية، مؤكدين أَن قضيتهم "أعلى وأسمى من زجّها في التجاذبات السياسية والطائفية والسلطوية، كما على ضرورة امتثال كافة المطلوبين إِلى العدالة أمام التحقيق".
وجدّدت اللجنة الوعد أن "دماء أهلها وأولادها وأخوتها وجرحاها لن تذهب سدى وستقوم بكل الخطوات الرامية إِلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، واقفة سداً منيعاً ضد أي تدخلات في عمل القضاء".