سيطر النمط الاستهلاكي على العقل البشري، وأعاد صياغة حياته، فتعدّى التسوق هدفه الأصلي، وهو شراء الحاجات الأساسية، وبات لإشباع الحاجات النفسية، فقد تركت النزعة الاستهلاكية أثرها على حياة الإنسان، وأصبحت النظرة المادية هي التي تتحكم في سلوكه، وتعيد ترتيب قيمته.
وبعد أن سادت هذه الغريزة باتت قدرة الإنسان على الاستهلاك تؤثر على نظرته لذاته وتقييم مجتمعه له، وأصبح سياقنا الاجتماعي والثقافي يُضفي طابعاً طبيعياً على هذه الرغبة من أجل سباق حب الظهور وتعويض النقص المركب، والبحث عن المكانة الاجتماعية من خلال الإنفاق على الكماليات والأشياء غير الضرورية، ما أعطى سلوك الاستهلاك قيمة إضافية بات من خلالها دلالةً على مستوى الرفاهية.
شركات التكنولوجيا المالية
من أجل تحقيق تلك المتطلبات التي باتت قوانين اجتماعية، يجب أن ينساق الفرد مع غريزة استهلاكية لا يملك محدودو الدخل خياراً لمجاراتها سوى بالاقتراض، فالفجوة المتسعة بين الواقع والتطلعات أعطت فرصة هائلة للبنوك والشركات المالية لكسب مزيد من العملاء، فقد غيّرت التكنولوجيا وسائل التمويل، ودخلت شركات التكنولوجيا المالية في تنافس مع البنوك في ممارسة الإغراء، ونتيجة لذلك شهدت منطقة الخليج توسعاً ملحوظاً في هذه الخدمات في عام 2020، التي تسمى في الحملات الدعائية "اشترِ الآن وادفع لاحقاً"، فظهر عديد من المزودين، مثل "بوست باي"، و"تابي"، و"تمارا"، و"سبوتي"، وحصل معظمها على تمويل واستثمارات مرتفعة من أجل استكشاف السوق والفرص المتاحة فيها، فأصبحت تتنافس في تقديم خطط دفع خالية من الفوائد للعملاء، ولكنها تختلف في طرق السداد وعدد المتاجر الموجودة في التطبيق، فيتم تقسيم فاتورة التسوق الخاصة بك إلى أربع دفعات متساوية، أو أقل، وتقوم بدفع 25 في المئة من فاتورتك مقدماً، و25 في المئة كل أسبوعين، حتى يتم سداد مشترياتك.
وتتيح لك هذه المنصات التمويلية تقسيط ما يخطر في بالك، وما لا يخطر، فلم يعد التقسيط عند تلك الشركات مقتصراً على الأساسيات كما هو متعارف عليه في السباق لشراء سيارة أو منزل، فهذه التطبيقات تمكنك من تقسيط ملابسك أو أحذيتك، وقناني العطور أو عبوات الماكياج، وحتى لعب الأطفال، والهدايا وباقات الورد، وتم تصميمها لجذب المتسوقين الشباب عبر الإنترنت، وتعد هذه التطبيقات بديلاً أسهل وأكثر أماناً للائتمان من دون فوائد.
وتأخذ هذه الشركات فوائدها غالباً من أصحاب المتاجر، وتتراوح في الغالب بين 5 و6 في المئة من قيمة السلعة.
تراكم الديون
يوضح هيثم الطريقي، مدير التسويق والعلاقات العامة في شركة "تمارا"، إحدى شركات التكنولوجيا المالية، والتي لم يتجاوز عمرها السنة، وتمتلك أكبر قاعدة مستخدمين، بالمقارنة مع الشركات المنافسة في هذا القطاع بالسعودية، أن فلسفة "تمارا" تتمثل في أن "نبتكر حلولاً مالية تساعد العملاء على تحسين الدفع والمحافظة على السيولة المادية، وذلك من خلال تقسيم فاتورة المشتريات الخاصة بهم على دفعات من دون فوائد".
وفيما يتعلق بالديون، أكد أن شركته "تؤمن بالاتزان للحد من تراكم الدين والاستهلاك، وذلك بعدم زيادة تكاليف إضافية على المستهلك"، ويكون ذلك من خلال وضع "حدود إنفاق مرنة يتم تحديدها عادةً بواسطة النظام الأساسي للشركة بدلاً من المتجر".
وذكر أنه خلال فترة وجيزة جداً تضاعف عدد المستخدمين أربعة أضعاف شهرياً منذ قيام الجولة الاستثمارية الأولى، وتم استقطاب ما يقارب 150 ألف مستخدم كل شهر، لكنه تحفظ في الإفصاح عن العدد الإجمالي لمستخدمي التطبيق.
ومع لجوء المستهلكين لهذه التطبيقات التي عززت النزعة الاستهلاكية، وقادت إلى الإنفاق الزائد وارتفاع الديون، بخاصة لدى الفئة العمرية بين 18 و25 عاماً، الذين أصبحوا ينفقون أكثر من قدرتهم على السداد، بات لزاماً أن نسأل عن كيفية الموازنة بين مزايا الخدمات ومخاوف حماية المستهلك من فخاخ هذه التطبيقات.
وعلى هذا يعلق المستشار المالي أحمد البوري، بأن هذه التطبيقات تُعوّد الشباب على شراء الأساسيات والكماليات على حد سواء. ويضيف أن "استخدام الدفع المؤجل ينعكس سلباً على حياتهم الآنية والمستقبلية".
ولفت إلى أن "الشاب في هذه الفترة ينضج لديهم الفكر المالي، وغالباً ما يتحدد المصير المالي للأشخاص بناءً على عاداتهم في هذه الفترة العمرية، وعندما تجتمع فكرتا الشراء بالتقسيط وعدم التمييز بين الاحتياجات والكماليات، يدخل الشخص مرحلة التخبط المالي التي يصنعها تراكم الديون والقروض، وحب الاستهلاك والغرق في الكماليات والمظاهر وعدم التركيز في المستقبل المالي".
ويعزو عائذ المبارك، الأستاذ بكلية إدارة الأعمال بجامعة الملك فيصل، السبب الرئيس للبيع بالتقسيط، إلى وجود فجوة مالية بين ما يملكه الفرد وما يرغب بشرائه، "الغالبية من الأفراد يقترضون لشراء سلع لا يملكون قيمتها في الوقت الراهن، ومن الطبيعي أن يكون الاقتراض والتقسيط هو الأسلوب المستخدم لشراء السلع طويلة الأجل كالمنزل والسيارة إذا كانت في الحدود المعقولة، غير أن امتداد هذا السلوك إلى السلع الكمالية والاستهلاكية قد لا يكون خياراً مثالياً للأفراد، وقد يكون نتيجة لفرط الاستهلاك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف، "انعدام التخطيط المالي الشخصي وعدم وجود مستهدفات مالية واضحة لما يرغب المرء في شرائه، بالإضافة إلى النزعة نحو التفاخر والانهزام أمام الضغوط الاجتماعية، هي أسباب هذه الظاهرة"، لافتاً إلى أن تعاظم الإنفاق الاستهلاكي في المجتمعات يتسبب في خفض قدرة المجتمع على الاستثمارات الرأسمالية المنتجة، كما يعزز من تسرب الأموال إلى الخارج، كون السلع الاستهلاكية مستوردة بصفة عامة.
ثقافة الاقتراض في السعودية
لا تكاد تجد في عالمنا اليوم دولة أو شركة أو فرداً لم يطرق باب الاقتراض، ولو مرة في حياته، فقد بلغ مجموع القروض في السعودية 854.5 مليار ريال نحو (228 مليار دولار) حتى نهاية الربع الثاني 2021 كمجموع القروض الاستهلاكية والعقارية وبطاقات ائتمان، بحسب البنك المركزي السعودي.
وذكر أحمد القفاري، أستاذ الاقتصاد والتمويل في جامعة طيبة، أن السعودية تنمو في الاستهلاك أكثر بكثير مما تنمو في الاستثمار. أضاف، "قبل عام 1997 لم تكن تشكل القروض الشخصية سوى قرابة 5 في المئة من مجموع الائتمان المصرفي في السعودية، وأحد أهم أسباب نموها هو تدشين نظام سريع للبنوك، والذي كان من ضمن مميزاته إمكانية الخصم المباشر من الراتب، هذه الميزة مكنت البنوك من ضمان استرداد القرض فأصبح الحصول على قرض أيسر بكثير من ذي قبل، ونما الائتمان الخاص بعد عام 1997 نمواً مذهلاً حتى أصبح يشكل قرابة 40 في المئة بحلول عام 2004، قبل أن ينخفض تدريجياً حتى صار لا يتجاوز الـ25 في المئة"، وذلك بعد أن التفت البنك المركزي بين عامي 2005-2006، وأصدر تشريعات تحد من القروض، وتحددها بنسبة مئوية بناءً على الراتب.
كيف تختلف التطبيقات عن بطاقات الائتمان؟
سهولة عمل هذه التطبيقات أغرت المستهلكين، فبمقارنتها مع البطاقة الائتمان التي تتطلب جهداً وشروطاً معقدة للحصول عليها، مثل امتلاك حساب بنكي وسجل ائتماني نظيف، فضلاً عن التكاليف العالية على المستخدم من رسوم التأخر في الدفع عكس ما يحدث في شركات التمويل الإلكترونية، جعلها خياراً مثالياً.
وعن مراقبة هذه التطبيقات من قبل البنك المركزي السعودي، ذكر أحمد القفاري أن عديداً من هذه التطبيقات ما زالت في البيئة التجريبية التنظيمية "أحد أهداف هذه التجربة هو التأكد من وجود بيئة داعمة وممكنة للتقنيات المالية الجديدة والمبتكرة للمحافظة على وتيرة تقدم التقنية المالية السعودية، ولكن دون الإخلال باستقرار النظام المالي الوطني".
ويرى القفاري أنه "من الأجدى ضمها إلى حدود الاقتراض المعمول بها حالياً، أتوقع أن البنك المركزي يقوم بمراقبة ودراسة انعكاسات هذه التطبيقات على النظام المالي وعلى الأفراد وعلى المستهدفات الوطنية المتصلة بالادخار وتطوير الحلول المالية، وقد يترتب على هذه المراجعات بعض التشريعات لتقنين استخداماتها".