ترى حين استدعى وزير الدعاية في حكومة هتلر النازية، جوزف غوبلز، السينمائي فريتز لانغ نحو عام 1933، وكانت فترة قصيرة من الوقت قد مرت على وصول هتلر إلى الحكم، كي يطلب منه تحقيق أفلام سينمائية تمجد الفوهرر وسياساته، وإن بقوالب فنية رفيعة المستوى، هل كان يعرف أن لانغ يهودي أو بالأحرى نصف يهودي؟
كان يعرف ذلك بالتأكيد، لكنه كان يفترض أن الرجل ليس بعيداً فكرياً عن النازية، وهو الذي كان بالتأكيد قد شاهد أفلامه ولمس فيها نزعة أيديولوجية لا تبتعد كثيراً عما يطلبه، لا سيما منها فيلمه الأكبر والأقوى "متروبوليس" (1926 - 1927).
ولعل ما عزز رغبة غوبلز في تحفيز لانغ على الاستجابة له أمران: أولهما أن فيلماً كـ"متروبوليس" حققه صاحبه متبنياً الأيديولوجية القريبة من النازية فيه يمكن أن يشفع للانغ و"يسامحه" على قربه من اليهودية. فهو بعد كل شيء لم يكن أول يهودي يتعاون مع النازيين على الرغم من رغبتهم العميقة في اجتثاث اليهود من ألمانيا وربما من العالم، والثاني أن زوجة لانغ ومساعدته وكاتبة معظم أفلامه كانت تيا فون هاربو المعلنة نازيتها منذ زمن بعيد. لكن ينبثق من هنا سؤال شائك: إذاً ما الذي حمل لانغ بعد تفاهمه المبدئي مع غوبلز على جمع أشيائه ومغادرة برلين قاصداً فرنسا قبل أن يصل إلى أميركا، حيث سيستقر ويصبح لاحقاً من كبار الكبار في السينما الأميركية والعالمية؟
فنان خارج الأيديولوجيا
لا يمكن القول إن مبادئه الفكرية كانت وراء هربه، ولا حتى يمكن الافتراض أن خوفه من البقاء وإدراكه لما سيحل بأبناء جلدته كانا السبب. ثم إن تاريخ الأفكار التي عبر عنها في أفلام عديدة حققها في ألمانيا قبل "متروبوليس" وبعده لا ينم عن أنه كان تقدمياً في فكره معادياً للنازية.
ومن هنا، سيبقى الجواب غامضاً حتى وإن كنا في متابعتنا حياة لانغ ومساره السينمائي في "الخارج"، سنجد أن رهانه لم يكن رهاناً خاسراً. بخاصة أنه لن يفوته أن يقول لاحقاً، في معرض حديثه عن ماضيه السينمائي، إن زوجته كانت هي وراء الأفكار التي تبدو نازية في سينماه، أما هو فكان صاحب التجديد التقني والإبداع الجمالي.
والحقيقة، أن لانغ حين كان يقول هذا كان يبدو مؤمناً به، حين نعرف أن العدد الأكبر من أفلامه "الأميركية" اتسم بنوع من الخروج عن الأيديولوجية الفاقعة حتى حين كان يحقق أو يعيد تحقيق مواضيع ألمانية قد يكون فيها تلميح إلى شرور النازيين.
الأولوية للفن
في نهاية الأمر، ربما يضعنا هذا بالفعل أمام فنان أعطى الأولوية في فنه كما في حياته وخطابه الفكري، للبعد الجمالي على حساب الأيديولوجيا حتى حين تكون مطلوبة منه أو مفروضة عليه أو في الأقل متوقعة منه! وربما يمكننا هنا القول إن في هذا يكمن جواب منطقي على التساؤلات التي نطرحها في صدده.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في النهاية لن يكون من المنطقي اليوم محاكمة لانغ وهو الذي كان وظل حتى النهاية (رحل عام 1967 عن ست وثمانين سنة) رجل فن يضحي بكل شيء في سبيل فنه، وبالتالي رجل سينما كان أخشى ما يخشاه أن تجر سينماه إلى مواقف لا يريدها. ومن هنا ربما يكون نجاح "متروبوليس" والتفسيرات التي يمكن أن يكون قد اكتشفها لاحقاً على تحقيق الفيلم وعرضه ما أخافه ودفع به إلى الهرب حتى وإن كان قد حقق خلال السنوات التي سيبقى فيها في وطنه أفلاماً عدة لا تقل عن ذلك الفيلم أدلجة، لكن ذلك كان قبل وصول النازيين إلى الحكم ومحاولتهم جره إلى سياساتهم.
الفيلم الذي حير متفرجيه
ونعود هنا على أية حال إلى "متروبوليس" لنلفت إلى أنه ندر لفيلم أن حير متفرجيه مقدار ما حيرهم هذا الفيلم بغموض موضوعه، من ناحية، وبوضوحه من ناحية ثانية. كان الغموض كبيراً إلى درجة أن مؤرخي السينما لم يتوانوا خلال العقود التالية لظهور الفيلم عن اعتباره فيلماً يعبر عن موقف مساند من مخرجه، ولو بشكل ضمني للأيديولوجية النازية، القائمة على مبدأ التصالح بين رأس المال والعمال على خلفية المحبة وانتظار المخلص المنتظر.
وكان الوضوح أكبر لدرجة أنه حين حاول لانغ، لاحقاً، وبعد أن فر من براثن النازيين لاجئاً إلى عدة دول أوروبية قبل الاستقرار في الولايات المتحدة، أن ينكر أن لفيلمه تلك السمة لم يصدقه أحد، ولم يعتبروه في حقيقة أمره من المضطهدين من قبل النازيين بسبب ذلك الفيلم في الأقل، فهو عندهم إنما خشي عواقب الغوص في تلك اللعبة أكثر وأكثر.
وكان غوبلز في حقيقة الأمر يستند في إبداء رغبة حكومته بالتعاون مع لانغ، تحديداً على السمعة التي اكتسبها فيلم "متروبوليس" في ذلك الحين باعتباره فيلماً ينطلق من أيديولوجية المصالحة الطبقية النازية، كرد على أيديولوجية الصراع الطبقي الشيوعية.
العقل واليد والقلب
مهما يكن، وبصرف النظر عن بعده الأيديولوجي الغامض - الواضح، اعتبر هذا الفيلم ومنذ عرضه العالمي الأول من ناحية أسلوبه الفني وحبكته المستقبلية واحداً من أهم الأفلام في تاريخ السينما الصامتة، وهو لا يزال يصنف حتى يومنا هذا في عداد أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما.
والحقيقة، أن مشاهدة "متروبوليس" اليوم من شأنها أن تدهشنا لما في هذا الفيلم من عناصر مستقبلية، ومن حداثة تقنية ومن بعد رؤيوي ملفت. فالفيلم لا يزال يبدو لنا حتى اليوم حديثاً في أسلوبه ولغته، وربما تدين له معظم أفلام الخيال العلمي السياسي التي حققت من بعده. ومع هذا لا يمكننا إلا أن نقر، مع فريتز لانغ نفسه، بأن موضوع الفيلم "ساذج وطفولي" حين نعرف أن لانغ قال لاحقاً عن فيلمه -حين بات نزيل المنفى في الولايات المتحدة!- بأن "الحل" الذي ينتهي إليه والذي يرى في "الحب وسيلة تحل محل الصراع للوصول إلى السلام بين الطبقات"، "حل تافه غير منطقي"، فالفيلم ينتهي بأن يقول لنا إن العقل (رأس المال) واليد (العمال) سيجمعهما القلب! وهذا البعد الذي رآه لانغ فيما بعد ساذجاً كان هو على أي حال جوهر الفيلم ومبرر انتمائه إلى الفكر النازي.
ولا بد أن نذكر مرة أخرى هنا بأن لانغ تشارك في كتابة الفيلم مع زوجته في ذلك الحين تيا فون هاربو، التي عرفت بتوجهها النازي الصريح، كما أشرنا، ورفضت مجاراة زوجها حين هرب من ألمانيا، وهذا ما سهل على المخرج أن يقول لاحقاً إنه يعتبر نفسه المسؤول التقني والفني عن الفيلم بينما يعتبر تيا فون هاربو المسؤولة الفكرية عنه.
أفكار نازية عادية
يروي "متروبوليس" حكاية عالم مستقبلي تتحكم به الآلات والناس الآليون، تحت سيطرة رأس المال والعلم الذي يسانده. ويحدث ذات مرة أن ابن صاحب المصنع المسيطر على ذلك العالم يكتشف العاملة الفقيرة الحسناء ماريا التي لا تتوقف عن تأليب العمال ضد رأس المال، وإن كانت تنصحهم بين الحين والآخر بالتريث واتباع سبيل العقل. يغرم ابن صاحب المصنع بالفتاة، وهذا ما يكتشفه والده الرأسمالي الكبير الذي يلتجئ إلى العالم روتوانغ كي يفشل على الفتاة كما على الشاب خططهما للوصول إلى مصالحة.
لكن، كل الخطط التي يرسمها العالم تفشل، على مذبح إرادة الحبيبين، وينتهي الفيلم بالمصالحة بين العمال ورأس المال، مصلحة يكون العالم ضحيتها. وكل هذه الحكاية تصور في الفيلم على شكل صراع بين النور والظلام، بين الشر والخير، لا بين مصالح مختلفة ومتناحرة، ناهيك ببعد في الفيلم يجعله هنا أيضاً يساير رجعية النازية في صراعها مع العلم كوسيلة من وسائل التقدم في المجتمع.
مهما يكن من أمر، فإننا حين نشاهد في أيامنا هذه هذا الفيلم الفذ ننسى كل أبعاده الأيديولوجية وتظل في الأذهان أبعاده الفنية من الديكورات الهندسية الرائعة، إلى إدارة الممثلين، إلى التصوير الذي يجعل الفيلم منتمياً إلى عالم السينما التعبيرية الألمانية، وإن بتجاوز لها لافت للنظر.