عند الحديث عن مواقف الطرفين التركي والإيراني حيال ملف كردستان العراق، لا سيما مع تزايد هجماتهما العسكرية على الإقليم أخيراً، يجدر التنويه ابتداءً إلى عوامل أربعة أساسية تتأثر بها جل حسابات البلدين الخارجية تجاه الإقليم الكردي.
العوامل الأربعة
العامل الأول تطلع الكرد الدائم نحو دولة مستقلة، الذي يعود إلى عشرينيات القرن العشرين، فعلى الرغم من العراقيل السياسية وإشكاليات التسليح وتشرذم الجبهة الداخلية الكردية، فإن النضال الكردي لم يتوقف، وكانت له محطات تاريخية مفصلية، أهمها قيام جمهورية مهاباد شمال غرب إيران بدعم سوفياتي واجهه الشاه البهلوي وحلفاؤه الغربيون بالقمع عام 1947، ومن ثم مواجهات "حركة البرزنجي" المسلحة ضد الانتداب البريطاني في العراق، ومن بعده الصراع المسلح بقيادة مصطفى بارازاني للكرد ضد الحكومة العراقية في بغداد خلال عقد الستينيات، وأيضاً تكبد الأكراد خيبة أمل كبرى بعد تخلي شاه إيران والولايات المتحدة الأميركية عنهم عند توقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران عام 1975، فضلاً عما جناه أكراد العراق خلال التسعينيات من حملات التنكيل الموسومة بـ"الأنفال" من قبل صدام حسين، قبل أن يفرض حظر طيران دولي على مناطقهم الجغرافية خولهم بعد عقد من الزمان الحصول على الاعتراف بالحكم الذاتي عام 2005 وتضمين ذلك في الدستور العراقي.
زبدة القول أن الطموح الكردي نحو الاستقلال لم تخمد جذوته، والدولتان التركية والإيرانية باعتبار المكونات الكردية داخل نطاقهما الوطني تُولِيَان ما يجري في ساحات الأكراد الإقليمية قاطبة قدراً كبيراً من الاهتمام، مخافة أن يتسرب ذلك الطموح إلى الأقليات الكردية لديهما أو يترجم إلى مزيد من التحركات الكردية الانفصالية، لذا أظهرت الدولتان معارضتهما الحاسمة مساعي استفتاء الاستقلال الذي أقامه الأكراد في العراق عام 2017.
ثاني العوامل هو إشكاليات الأمن القومي والإرهاب، فأول اتفاقية أمنية موقعة بين تركيا وإيران في إطار الورقة الكردية تمت في سبتمبر (أيلول) عام 1993 (دخل العراق طرفًا ثالثًا في الاتفاقية)، وهدفت إلى حفظ الأمن الحدودي. ولغرض منع الكرد من تشكيل دولة مستقلة في شمال العراق، عقدت الدولتان التركية والإيرانية، بمشاركة سوريا، سلسلة من المؤتمرات منذ عام 1992، واستمرت المؤتمرات تلك حتى عام 1995 الذي تفاقم فيه نزاع الحرب الأهلية الكردية لتتدخل تركيا بدعم الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة بارازاني، وإيران بدعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة طالباني. وما زالت الإشكاليات الأمنية التي تفرضها الورقة الكردية محفزاً للبلدين، لتدعيم مجالات التعاون السياسي بينهما، ولتوقيع مذكرات التفاهم بغية تعزيز الأمن الحدودي ومكافحة الإرهاب كي يتجنبا التفجيرات المتكررة لأنابيب النفط والغاز على غرار حادثة تفجير مارس (آذار) عام 2020، التي عطلت تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا.
ثالثاً، ضعف الحكومتين المركزيتين في سوريا والعراق له تداعيات متفاقمة على الوضع القائم في الساحات الكردية وعلى سياسات إيران وتركيا الخارجية تجاه الأكراد. وبالنسبة إلى العراق، فالحكومة العراقية منذ التسعينيات فقدت السيطرة على الشمال الكردستاني عام 1992 بموجِب الحظر الجوي المفروض من قِبل الأطراف الغربية ومجلس الأمن الدولي، وازدادت الحكومة المركزية ضعفاً من بعد عام 2003 جراء الانقسامات الطائفية وتعارض المصالح الداخلية التي تغذيها تدخلات الأطراف الإقليمية. وحالة العراق كقوة إقليمية متهاوية حتمت على القوتين الأخريين تركيا وإيران التنافس على بسط النفوذ داخل أراضيها.
رابعاً، ينتاب إيران وتركيا -بتفاوت- مخاوف عدة جراء التوظيف الدولي والإقليمي للورقة الكردية ضد مصالحهما الاستراتيجية. لا سيما أن اللاعبين الدوليين الذين يستغلون الورقة الكردية كثر، وهدفهم الدفع بمصالحهم في إقليم الشرق الأوسط عبر الاستفادة من الورقة الكردية في الضغط على تركيا أو إيران في سياق علاقاتهم الثنائية بالبلدين، وأهمهم الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا الاتحادية، أما إقليمياً فتبرز إسرائيل التي تحاول بكل ثقلها مد جسور العلاقة مع القيادات والأحزاب الكردية.
حيثيات الضربات العسكرية "التركية-الإيرانية" ضد الإقليم
أحد أهم أولويات السياسة الخارجية التركية هو مواجهة التهديد القومي الذي يشكله حزب العمال الكردستاني، آخذين في الاعتبار أن تعداد الأكراد في تركيا يصل إلى نحو 20 في المئة من إجمالي السكان. حزب العمال تأسس على أيديولوجيا قومية وثورية ماركسية تنشد الانفصال عن تركيا، لكنه مع تطور الأحداث خلال العقود الماضية قيد طموحه بحصول الأكراد على حكمٍ ذاتي وتمتعهم بحقوقهم داخل الأراضي التركية. وقد قامت مباحثات سلام بين الحكومة التركية والحزب الكردي عام 2013، بيد أنها سرعان ما انهارت ولم تصمد أكثر من عامين، إذ شن الطرفان الحرب على بعضهما بعضاً.
سياسة تركيا الخارجية تجاه إقليم كردستان العراق، علاوة على كبح التطلع الكردي نحو الاستقلال، ترمي إلى تكثيف عملياتها العسكرية ضد معاقل حزب العمال في كردستان العراق. وخلال العامين الماضيين شنت تركيا عدة عمليات عسكرية في الشمال العراقي بهدف ملاحقة مقاتلي الحزب واجتثاث جذوره، فأطلقت عملية "مخلب النسر" في منتصف عام 2020، ومن ثم تبعتها عملية "مخلب النسر 2" في فبراير (شباط) 2021 في منطقة غارا بقضاء العمادية التابعة لمحافظة دهوك بإقليم كردستان.
والعملية الثانية كانت تهدف إلى تحرير ثلاثة عشر أسيراً تركياً كانت تحتجزهم قوات حزب العمال الكردستاني، لكنها لم تؤتِ أُكُلَها، بل إن أنقرة اتهمت حزب العمال بقتل الأسرى خلال العملية، فيما رد الحزب بأن القصف التركي لكهفٍ في جبال غارا هو ما أودى بحياة الأسرى جميعهم. ولم تكتفِ تركيا بهاتين العمليتين، بل ألحقتهما العملية الثالثة، "عملية مخلب البرق" في أبريل (نيسان) من العام الحالي. وما زالت تركيا تشن هجماتها ضد معاقل الحزب في كردستان العراق بين الفينة والأخرى، ولديها ثكنات عسكرية متعددة بالداخل العراقي، بذريعة التصدي لـ"إرهاب" حزب العمال الكردستاني، وبحجة غياب الحزم العسكري المنشود من قبل الحكومة العراقية المركزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالنسبة إلى إيران التي تشكل العرقية الكردية فيها قرابة عشرة في المئة من إجمالي سكانها، وإن ذهبت المصادر الكردية إلى أبعد من ذلك، فلا يقل اهتمامها بما يجري في ساحة كردستان العراق عن اهتمام نظيرتها تركيا، وتكترث بكبح تطلعات الكرد نحو الاستقلال، لكنها ولدواعٍ مغايرة وتبعاً للمتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، من تغير جذري في سياسة الإدارة الأميركية وانسحابها من أفغانستان، وظهور صراعات متعددة في أقاليم مختلفة حول العالم تسير جميعها باتساق مع ظهور أقطاب عالمية جديدة، لذا فإن إيران تعول على استخدام القوة الصلبة وشن الضربات العسكرية ضد الإقليم الكردستاني كي تؤكد من حضورها الإقليمي نكاية في القوى الأخرى وتحرزاً من ضربات قد توجه ضدها من قبل الولايات المتحدة الأميركية أو إسرائيل، لا سيما أنها في خضم مباحثات نووية وتريد كسب أوراق تفاوضية تضغط بها على الولايات المتحدة لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
إيران نددت بانتهاك تركيا سيادة العراق، لكنها تناست تدخلاتها السافرة واستباحتها السيادة العراقية منذ عام 2003، على أقل تقدير عبر تأجيج ميليشياتها الشيعية الولائية ضد الأطراف المناوئين لها في الداخل العراقي، وخلال الشهرين الماضيين ظهرت على السطح تحذيرات مصدرها الحرس الثوري الإيراني، موجهة ضد سلطات إقليم كردستان العراق، مفادها المطالبة بإخراج "العناصر الإرهابية" الموجودة في المنطقة، حسب تعبير الدولة الإيرانية، وإلا ستقدم إيران على ضرب مواقع الجماعات المعنية وتدميرها. وعلى الرغم من أن الاشتباكات المعهودة ما بين الأحزاب الكردية الإيرانية المتمركزة في كردستان العراق وإيران كانت خامدة خلال الفترات السابقة، وعلى الرغم من حضور قيادات إقليم كردستان مراسم تنصيب الرئيس إبراهيم رئيسي واحتفاء الجانب الإيراني بالضيف الكردستاني برفع علم الإقليم من دون علم العراق، أقدمت إيران فعلياً على شن هجمات ضد من سمتهم "المتآمرين على أمنها القومي" في داخل إقليم كردستان، وأتت تحركاتها كما أشير في غضون المتغيرات الإقليمية والدولية، وتزامناً مع مناورات عسكرية تجريها على الشريط الحدودي مع أذربيجان، كأنها تريد إرسال رسائل تحذيرية متعددة للقوى النظيرة في الإقليم، وتأكيد حضورها الإقليمي على مستوى دولي بمحاولة إثبات مقدرتها على الرد إن جوبهت بأي اختراق أمني.
تضارب المصالح التركية والإيرانية في كردستان العراق
يتضح تضارب المصلحة التركية-الإيرانية في ساحة إقليم كردستان العراق في نتيجتين اثنتين؛ الأولى تزايد وتيرة الصدام في قضاء سنجار، لأن تطورات القضاء تنبئ بصراعٍ تركي-إيراني محموم في قادم الأيام، والسبب يعود إلى أن المشكلة الأمنية التي يخلقها وجود حزب العمال الكردستاني في سنجار والشمال العراقي، تشكل الهاجس الأمني الأول لدى تركيا، وهي بذا تدرك مدى تأثير النفوذ الإيراني في القضاء على حسابات المكاسب التي تجنيها سواءً في العراق أو في سوريا، في حين يكترث الطرف الإيراني ببسط هيمنته على القضاء العراقي المحاذي لسوريا، كي يتسنى له إمداد السلاح ونقل الميليشيات الولائية عبر الحدود العراقية السورية بسهولة، وكي يكبح التمدد التركي باتجاه مناطق نفوذه الاستراتيجية.
بعد تحرير قضاء سنجار من داعش في عام 2015، وبعد تعرض سكانها الإيزيديين الكرد للاغتصاب والقتل والتهجير، بسطت جماعات كردية سيطرتها على جبال المنطقة بمن فيهم حزب العمال الكردستاني الذي حظي بشعبية جارفة في الأوساط الإيزيدية جراء مساندته لهم في أحلك فتراتهم التاريخية بعد البطش الداعشي الذي حل بهم، بتشييده ممراً آمناً هُرب سكان بلدات القضاء من خلاله. كما وجدت فصائل من الميليشيات الشيعية المساهمة في معارك تحرير العراق ضد داعش طريقًا للانتشار في المناطق المحيطة بالقضاء.
منذ ذلك الحين تطورت علاقات قوات الحشد الشعبي الشيعية مع حزب العمال الكردستاني في ظل مجابهتهما الأعداء ذاتهم، مما حفز أبو مهدي المهندس نائب قائد قوات الحشد الشعبي السابق في عام 2019 لإبرام اتفاقية مع حزب العمال الكردستاني مهدت الطريق لميليشيات إيزيدية تابعة للحزب كي يتسنى لهم الدخول في قائمة الاستحقاقات المالية المخصصة لقوات الحشد الشعبي من قِبل الحكومة الفيدرالية في بغداد.
الفصائل والنخب القيادية للحشد الشعبي تجد مشتركات براغماتية مع حزب العمال الكردستاني، وهذا ظاهر في معارضة الطرفين اتفاق حكومة العراق المركزية مع حكومة إقليم كردستان، الموقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بشأن قضاء سنجار، الذي بموجبه يتعين إخلاء المنطقة من جميع القوات المسلحة، بما فيها الحشد الشعبي وحزب العمال الكردستاني. وقد أرسل الحشد الشعبي ما يقرب من 15 ألف مقاتل إلى منطقة قضاء سنجار لمجابهة التدخلات التركية، بعد اجتماعات عقدت بين قيادات فصائل الحشد، وعصائب أهل الحق، والنجباء، وكتائب حزب الله، في نهاية فبراير 2021 وقيادات الحرس الثوري الإيراني.
هنا تتبدى النتيجة الثانية من معالم الصراع التركي الإيراني في إقليم كردستان العراق وهي تقارب الميليشيات الشيعية العراقية مع حزب العمال الكردستاني مما يهدد مصالح تركيا ويفضي إلى احتدام المناوشات مع الأطراف المحسوبة على إيران، ودلائل التقارب علاوة على دعم الجانبين التركي والإيراني أطرافاً متناحرة في الداخل الكردي، تؤكد تضارب مصالح البلدين واحتمال احتدام صراعهما في ساحة الإقليم في المستقبل.