كان يفغيني زامياتين في ذلك العام المبكر 1921، أي قبل قرن بالتمام من اليوم، أول المنشقين عن الثورة الروسية التي كانت قد انتصرت قبل ذلك بسنوات قليلة، وكان هو قبل ذلك واحداً من أبرز الكتاب الذين أسهموا في انتصارها وناضلوا من أجله. ففي ذلك العام أنجز ذلك الكاتب الشاب وكان في السابعة والثلاثين من عمره كتابة تلك الرواية التي سيعلن فيها خيبته الكبرى من أيديولوجية كان هو من منظريها والساعين إلى تطبيقها منذ صباه المبكر بحماسة كلفته كثيراً تحت الحكم القيصري، وأقامت شرخاً بينه وبين أبيه الذي كان قسيساً أورثوذكسياً صارماً. كانت الرواية تحمل عنواناً غريباً هو "نحن" من دون أن يبدو واضحاً منذ البداية من هم "نحن" الذين تتحدث عنهم الرواية.
أولى الروايات المهربة
أنجز زامياتين روايته في ذلك العام، لكنه لم يتمكن من نشرها إلا لاحقاً، وفي الغرب إذ تمكن من تهريب مخطوطتها التي رفضها اتحاد الكتاب السوفيات وبالتالي باتت ملعونة في نظر السلطات السياسية والحزبية طبعاً. وبهذا بات زامياتين أول المنشقين ثم أول الهاربين بعد سنوات قليلة من الفردوس البلشفي، لتكون روايته أول عمل أدبي يكتبه شيوعي ويمنعه الشيوعيون. لكن الأهم من ذلك أن "نحن" ستكون فاتحة لذلك الأدب الرائع والغاضب الذي سار في عالم الخيال العلمي عبر مسار سياسي منطلقاً من أفضل أعمال الإنجليزي إتش. دجي. ويلز ("حرب العوالم"، "آلة الزمن"...) وصولاً إلى أفضل ما كتبه جورج أورويل (1984) وآلدوس هكسلي (أفضل العوالم الممكنة). ولنبادر إلى القول هنا إن "نحن" و"أفضل العوالم" و"1984" تشكل عادة بالنسبة إلى المؤرخين، "ثلاثية" مؤسسة لتلك الكتابات التي اعتادت أن تختبئ وراء حكايات مستقبلية للتعبير عن موقف ورؤى سياسية، ودائماً في لغة أدبية رؤيوية شيقة تجمع بين الغضب السياسي والرعب الأيديولوجي ومتعة القراءة. وهنا لا بد من المبادرة إلى القول أيضاً إن رواية زامياتين سبقت روايتي هكسلي وأورويل زمنياً وفكرياً، بل حتى كانت العمل الذي بنى هذان الآخران نصّيهما انطلاقاً منه. وواضح أن هذا يجعل الكاتب الروسي رائداً كبيراً في هذا المجال.
موت بائس منسي
كبير ولكن ربما منسي أيضاً هو الذي مات في باريس عام 1937 بعدما تمكن من الهروب إليها. وهو مات فيها فقيراً معدماً ودفن كالفقراء لا يودعه سوى نفر قليل من عارفيه. فالزمن لم يكن بعد الزمن الذي يكلل فيه المنشقون بالغار وتغدق عليهم الأموال والمكاسب والجوائز. الحرب الباردة وضروراتها لم تكن قد اندلعت بعد. لكن "نحن" عادت واكتشفت لاحقاً كما أعيد اكتشاف كاتبها إنما بعد فوات الأوان، بل اكتشفت فيها الأسس الأسلوبية والحكائية التي ستعم ذلك النوع من الأدب سواء أنتجه الكاتبان الكبيران اللذان تحدثنا عنهما أو كتاب مبدعون آخرون ساروا على منوالهما شكلياً لكنهم ساروا في الحقيقة على خطى زامياتين، كحال راي برادبري في "فهرنهايت 452" التي اقتبسها الفرنسي فرانسوا تروفو بالعنوان نفسه، أو فيليب ك. ديك في تحفته "رجل القصر العالي" التي لا بد أن نشاهدها في اقتباس سينمائي كبير ذات يوم.
فلسفة وهندسة وأدب
من هنا نعود إلى "نحن" في الذكرى المئوية الأولى لولادتها، لنذكر أول ما نذكر أن كاتبها (1884–1937) كان في الأصل مهندساً وفيلسوفاً إضافة إلى كونه كاتباً. ولا شك أن الفلسفة والهندسة تبدوان طاغيتين في عمله الأدبي بحيث إنهما تكادان تكونان الخط الفكري الأساسي الذي يسيّر هذا العمل، علماً بأنه يتابع هنا ما كان قد بدأه في رواية أولى له عنوانها "أهل الجزيرة" كان قد كتبها عام 1916 حين كان مقيماً في مركز صناعي في نيوكاسل بإنجلترا يشرف على تصنيع كاسحات ثلوج آلية جبارة لحساب بلده الروسي. وهو رصد هناك بعين الغضب والرعب السياسات الهندسية التصنيعية أحادية البعد التي تحول الإنسان إلى آلة وإلى شيء نازعة عنه بعده البشري. يومها في ذلك العمل، أقنع زامياتين نفسه، وربما قراءه القلائل حينها بأن ذلك جزء من منظومة رأسمالية ستأتي الثورة الشيوعية وتقضي عليه. وكان أمله في ذلك كبيراً إنما لم يتمكن من إزالة شيء من رعب مستقبلي ظل يتآكله، رعب سنجده يعبر عن تحققه وسط خيبة أمل هائلة في "نحن" التي ربما أتت لتقول أشياء مثيرة، أهمها أن ذلك الانعتاق الذي كان يأمله بحذر من مصير للإنسان ذي بعد واحد صار أمراً مستحيلاً. وما "نحن" سوى تعبير عن تلك الاستحالة وعن أن النظامين الرأسمالي والشيوعي متطابقان في تشييء الإنسان. والمدهش أن زامياتين اكتشف باكراً جداً تلك الحقيقة التي لن يكتشفها الآخرون إلا بعده بسنوات أي تحت وقع الحكم الستاليني.
السعادة على طريقة "الدولة"
إذاً، في "نحن" يحدثنا زامياتين عن مجتمع يؤخر وجوده حتى الألفية الثالثة من التاريخ، وهو مجتمع يفيدنا الكاتب منذ البداية أن "سعادة قصوى ما" قد تحققت فيه تحقيقاً ليوتوبيا رافقت الإنسان منذ بدايات وجوده الاجتماعي. وهكذا نجد الكاتب يروي لنا متسائلاً "هل تعرفون حكاية الفردوس القديمة؟ لقد باتت في الحقيقة حكايتنا. باتت جزءاً أساسياً من راهننا. ففي البدء كان هناك زوج من البشر خُيّر بين الحرية دون سعادة والسعادة دون حرية... دون أن يكون ثمة خيار آخر. وهما اختارا الحرية فدفعا الثمن باهظاً طوال ألوف السنين. أما نحن فقد تمكنا من العثور على طريقة نعيد بها السعادة إلى العالم". وهذه السعادة تتمثل بالنسبة إلى الراوي في تلك المدينة الزجاجية العملاقة التي يعيش فيها المواطنون مكشوفين أمام الجميع مرصودين في كل ما يفعلونه، إلا خلال ساعات أسبوعية معدودات يعيش الواحد خلالها حياته الخاصة وأفعاله الحميمية دون أن ترصده عيون الآخرين كما تفعل في بقية الأوقات تحت سيطرة الدولة ورقابتها المطلقة. أما سكان هذا العالم الغارق في الشفافية المتواصلة فلا يُعرفون إلا بأرقام تعطى لهم وهم ينامون ويأكلون ويعيشون يومياتهم تبعاً لتلك الأرقام. أما السيد المطلق في ذلك العالم فيعرف بـ"فاعل الخير" الذي لا يتجلى إلا حين يحتاج إلى تشغيل تلك الآلة العملاقة التي تتولى، ودائماً في عرض صاخب عام، التخلص من المنشقين الذين لا يمكن إصلاحهم. ولا سيما منهم أولئك الذين قد يحدث للواحد منهم أن يحوز ذلك الوعي الخطير الذي فيه الضرر كل الضرر للدولة الآمرة الناهية. وهؤلاء يوضعون في حضور "فاعل الخير" والمواطنين جميعاً تحت جرس زجاجي عملاق يتولى امتصاصهم تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤامرات في غابة الحرية
مقابل تلك الدولة هناك الغابة التي يفصلها عنها جدار بالغ السماكة والمتانة. ويعيش في الغابة قوم يعرفون باسم "مفيس" يتمتعون بكل حريتهم ويتوحدون مع الطبيعة ويناضلون لكي يهزموا الدولة المجاورة يوماً ويزيلوها من الوجود. والحال أن هذا كله إنما يروى لنا في يوميات مهندس ينتمي إلى "الدولة" يحمل الرقم "د-503" ويعرف به. وهو يعلمنا بأنه مهندس يشتغل على تصنيع مركبة فضائية ضخمة مهمتها التجوال في فضاءات الكون لفرض سيطرة "الدولة" عليه. ولكن، تماماً كما في هذا النوع من الأدب سيلتقي المهندس يوماً بامرأة سيدرك لاحقاً أنها "منشقة" تحمل الرقم "إي – 1330" ستكون هي إذ يغرم بها، من سيطلعه على وجود الـ"مفيس" الذين تشتغل معهم خفية وتجرّه بدوره إلى الانضمام سراً إليهم. ويدون المهندس ذلك كله في يومياته غير عارف طبعاً بأنها ستكتشف يوماً، فتعتقل الفتاة وتعذب بعد افتضاح المؤامرة... أما المهندس قتمارس عليه، على العكس منها، عمليات تتمكن من إلغاء ما كان قد اكتسبه من وعي من طريق الفتاة وارتباطه بها كما تتمكن من محو كل ما كان قد فكر به ليتحول إلى مجرد آلة وبالتحديد إلى إنسان آلي يضحى جزءاً من "نحن" الذين كان قد حكى لنا بنفسه عن ذلك المستقبل الباهر الذي يتحولون فيه إلى آلات منتجة، سعيدة وحرة... ولكن على تلك الطريقة الأحادية التي تنتزع من الإنسان مشاعر وعواطف بشرية تفيض عن حاجة "الدولة" وإرادة "فاعل الخير" الذي يحكمها.