تقول الحكاية التي كاد يجمع عليها كاتبو سيرة الفيلسوف الأميركي جورج سانتايانا أن هذا الأخير فيما كان يلقي دروسه على طلابه في صف الفلسفة في إحدى كليات جامعة هارفارد عند بدايات القرن العشرين، التفت فجأة إلى النافذة الزجاجية الممتدة على عرض الحائط فرأى الشمس مشرقة والأشجار تتراقص تحت وقع ريح خفيفة هادئة والعصافير تزقزق بغناء جزل، خيّل إليه أنه يسمعه كأنشودة للكينونة. نظر إلى ساعته وابتسم ثم جمع أوراقه والطلاب ينظرون إليه في دهشة وخرج وهو يجيب الذين تساءلوا من بين الطلاب عن مغزى ما يفعل بقوله، آسف أيها الرفاق. أنا عندي موعد مع الربيع، لا بد أن ألتزمه. ولحظتها حين اجتاز الأستاذ باب الصف رحل عن الجامعة والعمل إلى الأبد. وراح يعيش حياته بعد ذلك مستمتعاً بها وبالقراءة والكتب، بعيداً عن الواجبات العملية.
بين أميركا وأوروبا
على ذلك النحو يومها خسر تدريس الفلسفة الجامعي أستاذاً كبيراً. لكن الحياة نفسها كسبت واحداً آخر من عشاقها الكبار. وطبعاً إذا كان سانتايانا قد قطع يومها علاقته بالتدريس والعمل الجامعي، فإنه لم يقطع علاقته بالكتابة والفلسفة اللذين اعتبرهما دائماً جزءاً من ربيعه الدائم، وخلاصة أجمل مواعيده. والحقيقة أننا إذا كنا أشرنا هنا إلى سانتايانا بوصفه فيلسوفاً "أميركياً" لا بد من الإشارة إلى أن هذا الانتساب غير دقيق تماماً. فلئن كان صحيحاً أن سانتايانا يُحسب على الفلسفة الأميركية ويعد من أقطابها خلال النصف الأول من القرن العشرين، طالما أنه عاش وعلم في الولايات المتحدة وكتب مؤلفاته بلغتها، فإنه ذو أصل وطفولة إسبانيين وسوف يعيش أواخر سنوات حياته في أوروبا، لا سيما في إيطاليا حيث سيكون رحيله عام 1952 عن تسعين عاماً تقريباً (ولد عام 1863 في مدريد).
إلى العالم الجديد
إذاً سانتايانا الذي يصنف إلى جانب جون ديوي وويليام جيمس وغيرهما من كبار الفلاسفة الأميركيين في الأزمنة الأقرب إلينا، ولد في إسبانيا ابناً لأسرة عريقة، لكنه كان في التاسعة من عمره حين بارحها إلى بوسطن شمال شرقي الولايات المتحدة سعياً للقاء مع أمه التي كانت هاجرت إلى هناك، حيث اقترنت بتاجر أنجبت منه أولاداً، إضافة إلى ما كانت أنجبته من والد جورج. وهكذا بفضل هذا الوضع العائلي سيضحي سانتايانا أميركياً دون أن يتمكن أول الأمر من استحداث إضافات "أوروبية" في الفكر الأميركي الذي تبناه تماماً. أو ذلك ما يمكننا بالطبع رصده في عديد من كتاباته الأولى، وعلى الأقل حتى نهايات العقد الأخير من القرن التاسع عشر حين عاد بعد جولة أوروبية، وقد حدث لديه تبدل في فكره تضمن نوعاً من الرفض للطهرانية الأميركية ومن السخرية من الحياة في العالم الجديد وأخلاقها. ولسوف يبقى هذا دأبه في كتاباته طوال العقود التي تلت تخرجه من هارفارد، هو الذي سوف يتابع دراسته بعد ذلك لمدة عامين في برلين فتتعزز مرة أخرى علاقته بالفكر الأوروبي الذي ما إن عاد إلى بوسطن من جديد حتى راح يدَرّسه في هارفارد نفسها التي سيرتبط بها اسمه حتى العام 1912 أي حتى ذلك الموعد الشهير مع الربيع.
من الإبداع الأدبي إلى الفلسفة
لعل من خصوصيات فلسفة سانتايانا، في بداياته على الأقل، ولوجه عالم الفكر الفلسفي من خلال الشعر والأدب والإبداع عموماً. ومن هنا نلاحظ دنوه منه في كتب له ستلقى نجاحاً كبيراً حتى لدى جمهور قراء أعرض من جمهور قراء الفلسفة. ومن تلك الكتب "سونيتات وأشعار أخرى" الذي كان في عام 1994 أول كتاب يصدره ليصدر من بعده "الإحساس بالجمال" الذي سيتبعه بعد سنوات وخلال عمله الجامعي في هارفارد بواحد من أهم كتبه، بل الكتاب الذي اعتبر علامة من علامات الفلسفة الجديدة في أميركا حينها "تأويلات في الشعر والدين"، غير أن تألق هذا الكتاب سرعان ما خبا، نسبياً على الأقل، حين أتبعه بمؤلف في خمسة مجلدات سيعتبر مؤلفه الرئيس، "حياة العقل"، الذي سيعكس نهضة فكرية جديدة دون أن يتوانى المعلقون عن اعتباره نوعاً جديداً من التعبير عن فلسفة سانتايانا نفسه الشخصية. وعلى الرغم من أن سانتايانا سيصدر بعد "حياة العقل" هذا مؤلفات عديدة لا تقل عنه قوة ونجاحاً وإثارة للجدل، كما يجدر بكل كتاب فلسفي حقيقي أن يكون، ومنها "مناجيات في إنجلترا" و"ممالك الوجود" في أجزائه الأربعة، وحتى "آخر الطهرانيين" تلك الرواية الغريبة العميقة التي أصدرها وهو في السادسة والسبعين كتمهيد لسيرة ذاتية اختتم بها كتاباته الكبرى بعنوان "أشخاص وأمكنة"، على الرغم من كل تلك المؤلفات "المتأخرة" سيبقى "حياة العقل" مرجع المعلقين الرئيس في الحديث عن سانتايانا.
على خطى رحالة الأزمنة الغابرة
ويتحدث الباحث الجامعي الإنجليزي ت. ل.س. سبرنغز في السيرة الموجزة لسانتايانا المنشورة في "دليل أكسفورد في الفلسفة" الصادرة ترجمته البديعة إلى العربية في مجلدين عن "هيئة البحرين للثقافة والآثار" ضمن مشروعها المميز لـ"نقل المعارف" عن "حياة العقل" أو بعنوانه الثانوي "أطوار التقدم البشري" واصفاً إياه بأنه "مخطط لما قدمته فروع الفكر البشري الأساسية، ومفاهيم الحس المشترك والتنظيم الاجتماعي والعقائد والمؤسسات الدينية والفن والعلم، من خدمات لحياة العقل". والحال أن الذي يبدو الأكثر أهمية في هذا الكتاب الضخم والشامل وربما الفريد من نوعه في تاريخ الفلسفة الأميركية، على الأقل "هو تلك الذاتية التي تطبعه على الرغم من شمولية موضوعه" حيث يلاحظ القارئ، الصبور على أية حال، كيف أن سانتايانا يجعل نصه يبدو وكأنه رحلة في الزمان والمكان على نمط الرحلات الجغرافية، شارحاً "الأمكنة" و"الأزمنة" التي يزورها من موقع تحليل علاقات "البشر" الذين يلتقيهم أو يرصدهم بالأفكار التي تولد بين ظهرانيهم، وذلك منذ فجر التاريخ، راسماً صورة بديعة لكيف راح العقل البشري يتوسع ويترسخ مرحلة بعد أخرى وحقبة إثر سابقتها، تبعاً لتوسع العلاقات الاجتماعية وتضخم رقعة المجتمعات غير ساه عن الأثر الكبير الذي راحت الظروف المتعددة بما في ذلك حركة المناخ والتجارة والتبعات الاقتصادية والتحركات الاحتجاجية وحتى الغزوات العسكرية التي غالباً ما صاحبتها "غزوات فكرية"، تلعبه في حياة العقل. بيد أن ذلك كله إنما كان على الدوام، مشروطاً، بحسب سانتايانا، بما يتسم به العقل الفردي بل كذلك العقل الجماعي، من رغبة في خوض ذلك التطور الصاعد غالباً إلى الأمام، وغالباً على الرغم من العديد من العوامل المحبطة أكانت ذاتية أم موضوعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نوع من التحدي والاستجابة
غير أن سانتايانا لا يتورع عن تنبيهنا، بالشواهد التاريخية والأمثلة الموثقة، إلى أنه سوف يكون من الخطأ اعتبار التأثير المذكور، حتمياً بصورة أوتوماتيكية، ما يفسر الاضمحلال الذي لا شك سيصيب حضارات بأسرها ومجتمعات ترفض الاستجابة لرغبة أفرادها المميزين في خوض سياسة التقدم. ومن الواضح هنا أن المؤرخ "المثالي" أرنولد توينبي في نظريته الأساسية حول "التحدي والاستجابة"، إنما كان ينهل من هذه الأفكار الكبرى التي عبر عنها سانتايانا في كتاب رئيس يمكن القول بعد كل شيء إنه لم ينل حظه أو ما يستحقه من الاهتمام خارج الحلقات الجامعية ونخبة الفلاسفة وقراء الفلسفة الخالصة، وربما يعود ذلك إلى ضخامة حجمه. بيد أنه لا يعود أبداً إلى صعوبة في لغته أو تعرجات في أسلوب كاتبه. بل على العكس فلئن كان معلقون كبار قد امتدحوا الكتاب، ومن خلاله كتابات سانتايانا بصورة عامة، فإن جزءاً من المديح طاول لغته تحديداً، حيث نجد ويل دورانت يقول عنه "لم يقيّض للفلسفة أن تتكلم بمثل هذه اللغة الجميلة، منذ عهد أفلاطون"، فيما قال هوايتهيد "يثير سانتايانا الإعجاب لما في فكره الرائع من وضوح، هو الذي لا يشاطره هذه الميزة سوى عباقرة القرنين السابع عشر والثامن عشر"...