باريس خاوية وصامتة، لا أحد في شوارعها. برج إيفل، متحف اللوفر، قوس النصر، نهر السين وغيرها من معالم مدينة الأنوار، جميعها ولأول مرة وحيدةً وحزينةً ليلاً ونهاراً..
منذ أكثر من عام كانت هذه الصورة واقعاً فرضته جائحة فيروس كورونا، واليوم يعيدها إلى ذاكرتنا الفيلم الفرنسي "8 Rue de l'Humanité" أو "8 شارع الإنسانية" الذي بدأ عرضه على شبكة "نتفليكس" العالمية في أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، وهو من إخراج داني براون المشارك في كتابة السيناريو إلى جانب لورانس أرنيه.
وما إن عرضت "نتفليكس" الفيلم بعنوانه الدولي "عالقون في باريس"، حتى انضم إلى قائمة أكثر أعمالها مشاهدةً في فرنسا، كونه يعرض مرحلة حرجة ما زالت تبعاتها حاضرة إلى الآن.
الكوميديا لعلاج المأساة
تلك الأحداث الغرائبية ما كان أحد ليصدق أننا سنعيشها يوماً. لقد مرت ثقيلةً ككابوس فظيع. وبالنسبة إلى الفرنسيين، لم يفكروا أبداً ولا في أشد أحلامهم سرياليةً أن تصبح باريس مدينة أشباح، وأن تخلو ليس من سياحها بجنسياتهم المختلفة فقط، وإنما من أهلها أيضاً..
لمواجهة هذه المأساة المفاجئة، لجأ صناع الفيلم إلى الكوميديا التي تجلت كصفة أساسية تميز معظم شخوصه من جهة، وفي المواقف والأحداث الناتجة من تفاعلهم مع بعضهم بعضاً خلال فترة الحجر الصحي الصارمة من جهة أخرى. جميعهم غريبو الأطوار، ولكل واحد منهم، شخصيته التي تزدحم فيها إيجابياته وسلبياته، التي تجلت أمامنا بأحداث متتالية ومتشعبة لساعتين و6 دقائق.
وعلى الرغم من أن الفيلم اختار الكوميديا كنمط فني، إلا أنه حاول بشدة إظهار المعاني واللفتات الإنسانية المرتبطة بالجائحة في مشاهده، وحولها إلى مواقف أخف حدة نجحت في إثارة الضحك، لكن المشكلة أنه قدمها ضمن قالب درامي بسيط جداً، مبالغ في سذاجته ويبعث على التساؤل حول المغزى والمضمون.
سجناء المبنى
يعود "عالقون في باريس" إلى الفترة ما بين مارس (آذار) ومايو (أيار) من عام 2020، حين فرضت الحكومة الفرنسية إجراءات الإغلاق المشددة. وقتها يخوض سكان أحد مباني باريس معاركهم اليومية جنباً إلى جنب، ويضطرون إلى بناء علاقات اجتماعية في مدة زمنية قصيرة، لم تضطرهم إليها كل سنينهم التي عاشوها في تلك المدينة الكبيرة.. إنهم ومنذ بدء الحظر ينظرون في وجوه جيرانهم، يكتشفون ملامحهم، صفاتهم، ويُصدمون بإنسانيتهم، رسام صحافي وزوجته المحامية، الرجل الثري الفظ، مدرب رياضي وصديقته الموسيقية الحامل، طبيبة طوارئ، عالم طموح يسكن في مخبره في بهو المبنى، يقابله كل من صاحبة المقهى المقفل وزوج عاملة النظافة التي نقلت إلى المستشفى بسبب إصابتها بـ"كوفيد 19".
بداية الحكاية كانت على خلفية مقطع من خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قال فيه، "نحن في حالة حرب. حرب صحية بالطبع. إننا لا نقاتل عدواً ولا أمة أخرى، لكن العدو موجود، صعب المنال وغير مرئي ويتقدم وهذا يتطلب تحركنا جميعاً"، حيث رصدت الكاميرا بحزن، شوارع باريس الفارغة، وتركتنا عالقين في ذاكرتنا عند هذه اللحظات بالذات.
وبعد أن هيأت لنا الزمان والمكان، تنتقل الكاميرا إلى مشهد يعلو فيه صوت التصفيق، وقد ألفه الشارع الفرنسي لشهرين ونصف تقريباً، ففي تمام الساعة الثامنة كل مساء خلال فترة الإغلاق الأول، كان الفرنسيون يقفون على شرفاتهم ونوافذهم في جميع أنحاء البلاد يحيون الفرق الطبية العاملة في المستشفيات، يشعرون للحظات بأنهم ما زالوا على قيد الحياة، قادرين على التفاعل.
ومن هذا الفضاء المفتوح، نتوجه إلى الفضاءات المغلقة، إلى المنازل والغرف التي تحولت إلى سجون إجبارية تحتجز السكان رغماً عنهم، يدخلون مجبرين ووحيدين للغاية ليواجهوا مشكلات المرحلة الكئيبة والخطيرة.
مرحلة التعارف والاكتشاف
وبينما هم ما يزالون على الشرفات يأخذنا ابن الرجل الثري، الطفل ذو 8 سنوات في جولة تعارف عن بعد، ويبدأ بشق طريق الفيلم من شرفة إلى أخرى، ومن ساكن إلى آخر بمعلومات مختصرة جداً. إنه يمنحهم صفات عابرة ناتجة من معرفة عائلته بهم، فلا أسماء حتى، مجرد أحكام شخصية سريعة. وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى سكان باريس!
في تلك الأسابيع القلقة والمضطربة، يشرع سكان المبنى بتوطيد علاقاتهم وتعارفهم. أحياناً كانت تبدأ العلاقات بموقف فظ وأحياناً بموقف لطيف إنسانياً، من طريق الصدفة أو عن سابق إصرار، الأمر الذي يجعل الفيلم يفيض بالاكتشافات الغريبة وبالانقلابات سواء في طباع الشخصيات أو في مواقفها. مثلاً، صاحبة المطعم المغلق التي شارفت على الإفلاس، اكتشفت من طريق الصدفة أن المشروبات الكحولية تفيد في التعقيم، فصارت تبيعها وتكسب كثيراً. واكتشف سكان المبنى أن تلك السيدة التي لم تكن تخالطهم ولا تخرج للتصفيق بينما تخرج من منزلها ليلاً كل يوم، لدرجة أنهم أخبروا عنها الشرطة مدعين مخالفتها لقواعد الإغلاق، هي طبيبة طوارئ في إحدى مشافي باريس، كانت تلتزم بيتها ولا تخالط أحداً خوفاً على السكان من العدوى.
كذلك، اكتشفت الطفلة ابنة الرسام والمحامية كم يحبها الطفل ابن الرجل الثري، وبدلاً من معاملته بطريقة سيئة، صارت تبادله المشاعر ذاتها.
اكتشافات أخرى سريعة وغير منطقية، حدثت وقد يصعب تصديقها، غير أنها أراحتنا بسذاجتها، نحن الباحثين عن النهايات السعيدة دوماً..
الشخصية النمط
لا يقدم العمل شخصيات متفردة أو جديدة في خصائصها وصفاتها، فجميعها بسيطة، كلاسيكية وخالية من التعقيد. لقد جعل منها أنماطاً تمثل واقع عيش شرائح كبيرة من الناس في ظل الفيروس اللعين. مثلاً يعكس داني بون الذي يجسد شخصية الرسام الصحافي، الهوس المرضي بالنظافة الشخصية والتعقيم المبالغ فيه، لدرجة أنه يستشعر أعراض المرض ويصاب بضيق تنفس ونوبات هلع نفسية خوفاً من الإصابة. بينما نشاهد شخصية الرجل الثري بصورته المعتادة، فظ، فاشل في التعامل مع الآخرين، لم يكمل تعليمه، ويظن أن الثراء هو معيار التقييم الوحيد بين الناس.
كذلك عند اقترابنا من شخصية المدرب الرياضي وزوجته. إنه شخص نشيط. في البداية لم ييأس وظل يحاول استغلال موهبته الحقيقية في مواصلة التدريب عن بعد، لكنه فشل واستسلم في نهاية الأمر لأكل السكريات والنشويات. وبالمقابل، استطاعت صديقته أن تستثمر الفرصة وتستحوذ على متابعين كثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأنها غنت أغنية للجائحة، بغض النظر عن صوتها الذي لطالما أغضب الجيران، وعن كونها ليست مغنية أساساً.
أما طبيب التحاليل، وبشخصيته الطموحة والهيستيرية المتخبطة، فهو نمط بحد ذاته. إنه نسخة عن العالِم والمفكر بمظهره الشبيه بأنيشتاين، فضلاً عن كونه يجسد حالة التخبط في القطاع الصحي الفرنسي، الأمر الذي انتقده عديد من الأطباء الفرنسيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرحلة الذروة والخلاص
داخل كل منزل في المبنى يعيش السكان علاقات متخبطة لم يختبروها من قبل. ضياع، ملل، اكتشافات جديدة لأنفسهم ولمن يعيشون معهم، تضعهم في حالة من التوتر النفسي الآخذ بالتصاعد مشهداً تلو الآخر. كل شخص له أسلوبه في التعامل مع الضغط، منهم من بقي يحاول أن يكون لطيفاً وإنسانياً حتى آخر نَفَس، ومنهم من نسي طعم الحياة الحقيقية ورائحة الشجر وصار يتوق إلى الحياة السابقة لظهور الفيروس.
لكن لحظة الانفجار لا ترحم أحداً. الكل دون استثناء وصلوا إلى مرحلة الذروة، وفجأة وجدوا أنهم غير قادرين على الاستمرار للخطوة التالية. ومع حدوث المواجهات التي وصلت إلى المشاجرة مرات، استطاع سكان المبنى تجاوز لحظة الانفجار. تخطوا انهيارهم ووقفوا من جديد واضعين حداً لمشكلاتهم، لكنهم هذه المرة قد وقفوا معاً.
ولعل المشهد الأخير الفائض بالرومانسية، حين يعود دييغو إلى المبنى حاملاً رفات زوجته باولا التي غلبها الفيروس، هو اختصار لفكرة الفيلم المؤكدة كيف كسرتنا الجائحة وصدمتنا لكنها أيضاً، عرفتنا إلى الآخرين، واكتشفنا معهم كيف يكون الإنسان إنساناً.
فيلم رومانسي، اعتمد على المواقف البسيطة بشخصياته النمطية، لكنه في الوقت نفسه لامسَ ما بداخلنا، أضحكنا، وأبكانا. وأخيراً اختتم مَشاهده بإهداء "لأجل جميع من عانوا. للإنسانية المتحدة".