في أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضي، طرحت شركة مايكروسوفت نسخة مطورة من برنامج "وورد"، وانتشر بسرعة متزامنًا مع نجاح "الاحتكار" الذي لطالما لازم الشركة الشهيرة السبّاقة في خلق حاجات "كومبيوترية" إن جاز التعبير، ودفع الناس إلى "الإدمان" عليها. ضمن هذا المعنى فإن التكنولوجيا أكثر من جذابة وساحرة، تؤدي باقتدار دور مغناطيس هائل لا يكاد أحد يقدر على الإفلات منه.
لم تكن المقالات والمراجعات التي روجت لبرنامج وورد، من حيث هي غطت خبر إصداره، أو نظرت في إمكاناته، منتبهة وقتها على "النموذج الأعلى"، إن صحت الاستعارة، التي استند إليها مصمموه، ومفهومه الرئيس: الناشر. إذ تعرضت وظائفه الأساسية من رقن وتصحيح وتحرير وتنضيد وتصميم، للأتمتة بشكل شبه تام.
إذ لم يكن استهداف "النموذج الأعلى" هذا ظاهرًا بداية، وساد ظن أن الكاتب هو المستهدف، وأتذكر بدقة وقتها وصف المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي - الشغوف بالتكنولوجيا - برنامج وورد، حيث قال ما معناه إن البرنامج قد يحل محل الكاتب، وإن مهنة الكتابة باتت "مهددة"، نظرًا إلى قدرة الآلة على تصحيح الأخطاء اللغوية، ومحو الفقرات غير المرغوب بها، والإضافة والحفظ، فضلاً عن التنضيد المطابق للكتب المطبوعة، باختصار التجهيز شبه التام للطباعة.
وفي الجملة يمكن القول إن الوظائف المشتركة بين الكاتب والناشر المختصرة تحت لفظ التحرير، هي التي تمّت أتمتتها.
بيد أنه سواء كان الناشر أم الكاتب قد تحولا إلى مفهوم يُبنى عليه "كومبيوتريًا"، فإن المخطوط المكتوب باليد كان الضحية التي بدت هامشية وقتها وتحولت مع مرور الأيام إلى ضحية مختفية وراء كم من الأصوات العالية والرائجة وخطاب شهير سائد يزيد ويعيد في المفاضلة بين الورقي والإلكتروني.
لا حداد ولو رمزياً
لم يعلن أحد وقتها ولا بعدها تقريبًا ولو حدادًا رمزيًا على حامل الأفكار والثقافة التليد والمخلص: المخطوط، إذ إن التسهيلات الهائلة التي قدّمها برنامج وورد كانت باهرة للعيون، قاهرة لوسيط النقل هذا، ومؤثرة أيضًا في العلاقة بين الناشر والكاتب. صحيح أن أغلبية الكتّاب لم يهرعوا إلى استبدال الورقة والقلم بالكومبيوتر، إلا أن مسار الأمور الذي نعرفه يبين كيف أن إبدالًا لا عودة عنه وقع، وإن اختُصر على نجو مجحف حقًا بمقارنة شبه أبدية بين الورقي والإلكتروني. وهي مقارنة تبسيطية تمنع الاقتراب من عالمين متوازيين: عالم الكتابة وعالم النشر، إذ تزيح مجموعة من الوظائف الخاصة بكليهما، وتركزّ على المنتوج النهائي من ناحية ضيقة وشكلية ربما.
لعل المرء لا يحتاج حقًا للدفاع عن تاريخ المخطوط وتطوره، عن فوائده التي لا يمكن حصرها، في نقل المعارف والعلوم ضمن حلقات وجماعات وبلاد، وصولًا إلى التأثير في ثقافات برمّتها. ثمة أمثلة معروفة عن ذلك: عن انتقال الفلسفة العربية مثلًا إلى أوروبا، وعن حركة الترجمة إلى العربية من اليونانية في قرون الإسلام الأولى، وغيرها. وثمة طرائف أيضًا وقصص تروى عن مخطوط أدى إلى هلاكٍ أو أنقذ منه، أو جعل صاحبه على الحافة كما يروى مثلًا عن ابن مناذر (198/ 813) الشاعر العباسي وكان يقرأ في مخطوط لعلم العَروض، ويبدو أن النسخة بحوزته احتوت دوائر الخليل، فجاء إليه أحد خصومه، وإذ لم يفلح في فهم فحوى المخطوط، هاجم ابن مناذر واتهمه بالزندقة. ثمة في التراث العربي قصص كثيرة، وعبر وفيرة، عن أهمية هذا الوسيط النزيه وضرورته. وليست أخبار الوراقين استثناءً في ذلك.
لم يفتر الاهتمام بالمخطوط مع ظهور الطباعة، بل على العكس، شهدت عملية "إنتاج" الكتب قفزة مستحقة، أدت إلى انتشار العلوم والتعليم من دون أن تمس "حياة المخطوط" ومن دون أن توليه العناية اللازمة أيضًا. الاهتمام بالمخطوط وقيمته التاريخية والعلمية هي من منجزات الحداثة الغربية كما نعلم، بمعنى حفظ المخطوطات في أماكن ذات شروط مخصوصة مثل المتاحف والمكتبات العامة، خلافًا للطريقة العربية في وضع المخطوطات في أماكن العبادة والمكتبات من دون كبير اهتمام بتوفير الشروط الملائمة. وفي كلام آخر فإن "حياة المخطوط" بقيت غائبة عن مجالنا العربي.
حياة المخطوط
القصد أن الأمر لا يقتصر على العناية بالمخطوط كغرض ملموس، بل يتجاوزه إلى ما هو أبعد وأعمق معنى. فللمخطوط حياته لدى كاتبه التي لا تنفصل عن حياته لدى ناشره. ثمة اتصال وتواصل خاصين بين الكاتب والناشر مداره واحد: المخطوط.
فقبل أن يُحترم المخطوط بوضعه في المتاحف سواء العامة أم الخاصة بالمخطوطات أم بكتّاب بعينهم، يعيش المخطوط حياته لدى الكاتب، ويتشكل وفقًا للإضافة والحذف، التنقيح والتصحيح، والملاحظات التي ستندغم فيه لاحقًا. ومن ثم يستأنف المخطوط حياته حين يصل إلى الناشر، الذي سيعيد تلك المحطات تحت يافطة فضفاضة: التحرير، لكن دومًا عبر الحوار مع الكاتب، إلى أن ترسو الصورة النهائية له. وفي كلام آخر لئن كانت طريقة الكاتب في "تحرير" المخطوط موصوفة ومعروفة، فإن طريقة الناشر في "التحرير" غامضة وشخصية ولا يمكن ضبطها "إلكترونيًا" فالناشر إذ يحرّر، فإنه مثلًا يقدّم اقتراحات هادفة حول العنوان، أو التنظيم أو تطوير الموضوع، أو التحولات في الأسلوب.
وما نعرفه عن العلاقة بين الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 - 1994) ومحرّره جون مارتن، يضيء حياة المخطوط في مرحلتيها. إذ قبل اللقاء بينهما، لم يكن بوكوفسكي نظرًا إلى طبيعته الخاصة، يحتفظ بنسخ كربونية من القصائد التي يرسلها إلى المجلات للنشر، وزعم أنه فقد حوالى 500 قصيدة في البريد. الأمور تغيرت حين تعاونا معًا، فقد أسس مارتن دار "بلاك سبارو" لنشر القصائد، وألزم الشاعر وضع نسختين واحدة للناشر وأخرى ترسل للمجلات. أمّا النسخة الأصلية فتبقى لدى بوكوفسكي الذي باع أرشيفه في النهاية إلى غير ما مكتبة.
الأمور بين الرجلين كانت تسير على النحو الآتي: الناشر هو المسؤول عن اختيار القصائد التي ستظهر في المجموعات الشعرية وتحريرها. فكان يتلقى أوراق المخطوطات، يصنفها، ويختار منها مرة في العام ويدفع بها إلى الطبع بعد تحرير "بسيط". لم يكن بوكوفسكي يغيّر شيئًا، يقرأ النسخة، ويعطي الضوء الأخطر للشروع بالنشر. ويقال إنه نظرًا إلى عزارة إنتاجه، لم يكن ينتبه لـ "التحرير" الذي يقوم به الناشر واستمر في القيام به.
المفارقة أن ما "عدّل" هذه العلاقة بين الرجلين، لم يكن إلا الكومبيوتر، فقد ازداد إنتاج بوكوفسكي غزارة حين تلقى في أوائل التسعينات بمناسبة الأعياد كومبيوترًا كهدية. فصار يكتب ويرسل فورًا إلى المجلات، حد أنه كتب لناشره "لم يعد لدي مجلات لأرسل إليها قصائد، بل إن منشورات الجامعات تأخذها الآن أيضًا". إلا أن هذا لم يخلّ بالعلاقة بينهما، واستمر الناشر بعمله في "تحرير" القصائد وإصدارها حتى بعد وفاة الشاعر.
بين الكاتب والناشر
تفسر هذه القصة القول في حياة المخطوط بين كاتبه وناشره، وإذ يشكر المرء العادة الغربية الحميدة في الاحتفاظ بمخطوطات الكتاب وأوراقهم الخاصة في المتاحف والمكتبات التي تزداد عددًا باستمرار، لا يسعه إلا الانتباه إلى أن تزويد أماكن مماثلة بمخطوطات المؤلفين لن يستمر طويلًا، بسبب تغيّر عادات الكتابة وتأثرها بالتكنولوجيا. وليس في وسع المرء إنكار ما تقدمه التكنولوجيا من خدمات، بيدَ أن لا مديح كاملًا من نصيبها في حال التأليف البشري. الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس التي أهدت إرشيفها إلى جامعة سيراكيوس تقول: "يمكن للإنترنت أن يوفر نوعًا من الجمال المرئي، لكن ذلك لا يبدو دائمًا ولا "موضوعيًا" إذ يمكن استبداله بسهولة بالصورة التالية". وهذه النقطة تبدو مفصلية في نظري، فالاستبدال السريع لصورة بأخرى على وقع النقر على الشاشة، يقلل من قيمة الأشياء بعامة فما بالك بالكتابة والتأليف؟
فكرة استبدال صورة بصورة بسرعة كبيرة، تصلح ربما للنظر في أحوالنا العربية ومخطوطاتنا لا التراثية بالطبع فهذه شأنها مختلف، بل المخطوطات التي خطّها آلاف الكتّاب العرب من القرن التاسع عشر وإلى اليوم، أي باختصار تلك المخطوطات التي تعكس نتائج مرحلتين تاريخيتين مهمتين: النهضة والحداثة.
إذ إن الانتباه إلى أهمية أوراق العلّامة أحمد فارس الشدياق ومخطوطاته مثلًا جاء متأخرًا ومبتسرًا، فحفيدة حفيدته الراحلة روز سليم الشدياق، لم تكن ترغب بداية في التخلي عنها لذويها من آل الشدياق، الأمر الذي حرم الثقافة العربية من فوائد لا تحصى، ليس أقلها عدم نشر كل آثار الشدياق نتيجة ذلك، وعدم توثيقها وإحصائها، فضلاً عن تناثرها بين أماكن عدة. لا تشذ حفيدة الحفيدة في ذلك عن قاعدة اجتماعية عربية سائدة في احتفاظ أهل الكاتب من بعد وفاته بمخطوطاته وأوراقه الخاصة باعتبارها من "أملاك العائلة" إلى أن تتبعثر مع رياح الوقت، بدلًا من التبرع بها إلى المكتبات والمؤسسات المتخصصة إن وجدت بالطبع. وإن كان ذلك سائدًا ومعروفًا وأمثلته وفيرة، فإن الأمر الأقل انتشارًا يتعلق أيضًا بالمخطوطات التي قد تكون في حوزة الناشر.
وتضافر مع هذه العادة الاجتماعية غير الحميدة، تأخر الوعي بمخطوطات هذه الفترة الزمنية وقيمتها، أي مخطوطات ما قبل الإنترنت، وعدم توافر البنية التحتية الكافية من مؤسسات ثقافية سواء كانت رسمية أم خاصة للاحتفاظ بها. وزاد الأمر تعقيدًا تلك النظرة البليدة في حصر الأمر بالمفاضلة بين الورقي والإكتروني بطريقة سطحية فعلًا وغير مجدية، هكذا بغفلة من الزمان، عُدّت مخطوطات هذه الفترة من نوافل الأمور، وقُلّل من شأنها من دون أية معرفة أصلًا بشأنها الذي يتجاوز الوجود المادي، ليطاول العلاقة مع الناشر، وكل ما يحمله المخطوط من فرص ضرورية لإغناء الثقافة العربية. فكم من باحث شكا من صعوبة الوصول إلى المخطوطات والأوراق الخاصة بكاتب ما، وأثر ذلك في نتائج بحثه.
ولو نظرنا إلى الغرب، لهالنا الاهتمام بمخطوطات الكتّاب وأوراقهم الخاصة، وعادات الكتاب الجديدة والمستجدة في منح أرشيفهم إلى الجامعات والمكتبات قبل وفاتهم، وتقديرهم للناشرين والمحررين، فاصلين بذلك بشكل تام بين الورقي والإلكتروني، مانعين "التكنولوجيا" من القضاء على "حياة المخطوط".