على الرغم من ردود الفعل الدولية الواسعة، والتي أصبحت بمثابة إجماع نادر من كافة الدول والمؤسسات السياسية العالمية، كالمنظمة الدولية ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ومجلس حقوق الإنسان في جنيف والاتحاد الأفريقي، على رفض انقلاب قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان في الإثنين 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك والوضع الدستوري الانتقالي الديمقراطي في السودان. وعلى الرغم من صدور أهم بيان سياسي في هذا الصدد باسم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات، داعياً إلى العودة للعمل بالوثيقة الدستورية ومطالباً بـ"عودة الحكومة المدنية الانتقالية ومؤسساتها على الفور"، فإن الوضع لا يزال على حاله في السودان، وسط أنباء عن الوصول إلى طريق مسدودة، فيما يُزعم وجود مفاوضات يجريها الانقلابيون مع حمدوك (الذي لا يزال قيد الإقامة الجبرية في منزله ممنوعاً عنه التواصل حتى بالهاتف، مما يضع علامة استفهام أصلاً عن كيفية التفاوض مع شخص ممنوع من الحديث مع العالم؟).
وعلى ضوء الترتيبات المحتملة لردود فعل الولايات المتحدة والمؤسسات الاقتصادية الدولية (تم تنفيذ بعضها كتجميد الولايات المتحدة مبلغ 700 مليون دولار إلى جانب مؤسسات دولية أخرى كالبنك الدولي) كمشروع القرار الذي تقدم به نواب ديمقراطيون وجمهوريون في الكونغرس الأميركي، ويقضي بالاعتراف والتعامل مع حمدوك ووزرائه كقادة دستوريين، ويدعو إلى إيقاع عقوبات شخصية على قادة الانقلاب، يمكن القول، إن الطريق التي يسير فيها الانقلابيون ستبدو اليوم، بكل وضوح، أكثر خطورة، من أي وضع سابق وخطير في التاريخ السياسي للسودان، لا سيما بعد إصرار الشعب السوداني على المقاومة السلمية لهذا الانقلاب حيث خرج الملايين إلى الشوارع والساحات في أكثر من 25 مدينة يوم 30 أكتوبر الماضي، الأمر الذي سيضع البلاد أمام تعقيدات وانسدادات خطيرة.
ما لا يدركه الانقلابيون اليوم، هو أن الساحة السياسية السودانية بعد ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت بالجنرال عمر البشير، أصبحت مكشوفةً تماماً ودالة بكل وضوح على أن أي سيناريو للالتفاف على المرحلة الانتقالية الدستورية، لن يخلو من احتمالين فقط لا ثالث لهما؛ إما أن تعود الأمور إلى نصابها بعد كل مغامرة غير محسوبة للالتفاف على الثورة والمرحلة الانتقالية الدستورية، وإما إدخال السودان في نفق مظلم من الحروب الأهلية والخراب. لذا، فإن أي سيناريو ثالث يتوهم أصحابه إمكانية حكم الشعب السوداني على الطريقة التي حكمه بها نظام البشير 30 عاماً (كما يتوهم هؤلاء الانقلابيون) هو فاشل لا محالة.
كل من يحاول التأمل في مقارنات بينية حول ثورة السودانيين في 19 ديسمبر 2018 وما جرى من انتفاضات فيما سمي "الربيع العربي" منذ عام 2011، أو يحاول قراءة ردود الفعل الانقلابية على الثورة السودانية، على غرار سيناريوهات حدثت في دول عربية أخرى، يُمكننا القول إن مقارنات كتلك التي يفترضها "محللون" عرب مثل عبد الباري عطوان (الذي قاس قياساً فاسداً بين ما جرى من فض لاعتصام الثوار السودانيين أمام مبنى القيادة العامة في الخرطوم 3 يونيو (حزيران) 2019 وفض اعتصام ميدان رابعة في مصر عام 2013، وكذبت النتائج ظنه بعد ذلك، بطبيعة الحال، حين خرج الشعب السوداني بالملايين في 30 يونيو، أي بعد 27 يوماً من أحداث فض الاعتصام، وأجبر انقلاب المجلس العسكري الانتقالي بقيادة البرهان على توقيع الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية في 17 أغسطس (آب) 2019 مع قوى إعلان الحرية والتغيير، مما أعاد الأوضاع السياسية لصالح الثورة)، هي مقاربات مجانية لا تدرك حقائق أساسية عن الشعب السوداني سواءً حول تاريخه السياسي الحديث (الذي فجر ثورتين في القرن العشرين أطاحت بنظامين عسكريين قبل الربيع العربي بعقود في عامي 1964 و1985) أو علاقاته التاريخية القديمة مع خيار الحرية الذي أوقف جيوش الفتح الإسلامي على حدود أسوان، وطرد الأتراك العثمانيين من السودان خلال الثورة المهدية عام 1985 بعد أقصر مدة احتلال قضاها الأتراك في حكم المنطقة (حيث حكموا السودان 65 عاماً).
لكل ذلك يمكن القول: إن خيار الشعب السوداني في المقاومة السلمية لهذا الانقلاب سيكون خياراً نهائياً لا يقبل المساومة، خصوصاً بعد خروج جداول التصعيد الثوري والإضرابات والعصيان المدني والتظاهرات من تجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة في قوائم النقابات المنضوية تحت تجمع المهنيين السودانيين كنقابة المصرفيين والمعلمين والطيارين والأطباء والصيادلة وغيرها من النقابات والاتحادات المهنية الفاعلة.
من جهة أخرى، بدا تخبط الانقلابيين واضحاً في المواعيد التي ضربوها لإنجاز الحكومة ومجلس السيادة بعد أكثر من 10 أيام على انقلابهم، وباءت كل خياراتهم بالفشل، حيث إنه سيكون من المستحيل، في ظل الحصار السياسي والدبلوماسي الدولي، أن تكون هناك نجاحات محتملة لتدابيرهم الفاشلة، بل يمكن القول إن هذا الانقلاب حتى الآن تسبب في أضرار كبيرة بالغة لما حققته حكومة الثورة السابقة بقيادة حمدوك من مكاسب سياسية واقتصادية ودبلوماسية، بعد العزلة الدولية الطويلة التي كانت مفروضة على السودان منذ 30 سنة والتي أرجعت البلاد عشرات السنين إلى الوراء بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضربه العالم على نظام الإخوان المسلمين بقيادة البشير – الترابي، فأثر على نحو كارثي خطير على كافة المشروعات القومية، إضافة إلى التخريب الذي أحدثه نظام البشير في جهاز الدولة العام ودمره على نحو بالغ الخطورة.
السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل مراقب للأوضاع هو: ماذا أراد الانقلابيون بهذه الحركة غير المحسوبة لقطع الطريق أمام المرحلة الانتقالية الديمقراطية؟ وهم يدركون تماماً أنهم أعجز بكثير عن تحدي الشعب السوداني الذي انتصر بثورة سلمية ألهمت العالم عام 2018 على نظام عقائدي عتيد كنظام الإخوان المسلمين توفر على قادة سياسيين وتنظيمات حزبية وسلطة دولة وجيش وأمن؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعند الوصول إلى نقطة الاستغراب هذه، والتي ستبدو كافية لإظهار الخطأ الجسيم الذي تورط فيها هؤلاء الانقلابيون، يمكننا القول، إن المصائر المفتوحة أمام هذه الحركة الانقلابية الجزافية وغير المحسوبة لقائد الجيش لا تخلو من مصيرين اثنين؛ إما الاستجابة للدعوات والوساطات التي بذلتها جهات كثيرة على رأسها وساطة المبعوث الأممي رئيس البعثة الأممية السياسية في السودان فولكر بيرتس، إلى جانب وساطات لشخصيات وطنية وازنة، وكلها تدعو إلى ما دعا إليه البيان الرباعي للولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، وهذا هو الخيار الأسلم الذي سوف يحقن الدماء ويؤدي إلى التسوية الممكنة.
وإما أن يتعنت الانقلابيون ويصروا على المضي قدماً في مسار الانقلاب على الوثيقة الدستورية وتقويض المرحلة الانتقالية الديمقراطية. وفي هذه الحال، سيواجهون مقاومة سلمية لا هوادة فيها، بل وأشرس من مقاومة الشعب السوداني لنظام البشير، لا سيما أنه قد بدا تماماً من تخبط الانقلابيين وترددهم أنهم حتى في خطوتهم الانقلابية تلك لم يدرجوا على ما يدرج عليه الانقلابيون عادةً في مثل الانقلابات، من القطع مع المراحل السابقة لانقلابهم. إذ خرج قائد الجيش في اليوم الثاني ليقول في مؤتمر صحافي، إن حمدوك معه في المنزل، وأنه اتفق معه على توصيف الأزمة، ثم يقول في مناسبة أخرى، إن المشاورات جارية مع حمدوك من أجل تشكيل حكومة تكنوقراط؟!
كيف يستقيم أن ينقلب قائد جيش على وضع دستوري سابق، ثم يدعو مرة أخرى رئيس وزراء الوضع الدستوري السابق لتولي حكومة انقلابية؟!
بطبيعة الحال، ما يرشح اليوم هو أن كل محاولات الانقلابيين لإقناع حمدوك باءت بالفشل، وإلا لمَ وضعه لا يزال على هذا النحو من الإقامة الجبرية واعتقال وزراء حكومته وبعض قادة الأحزاب السياسية وقطع الإنترنت عن السودان؟
كل المعطيات تشير إلى أن الهوايات المؤذية للانقلابيين في ممارسة تجريب سياسوي مضحك، كقول المستشار الإعلامي لقائد الجيش العميد الطاهر أبو هاجة "هناك من يؤلب المؤسسات الدولية ضد شعبنا ووطننا" (يقصد بذلك أكثر من 60 سفيراً سودانياً حول العالم انشقوا على نظام الانقلاب). والقرارات المتخبطة، والوعود المؤجلة لتشكيل مجلسي الوزراء والسيادة لا تعكس، حتى الآن وعياً حقيقياً بخطورة المجازفة التي أقدم عليها البرهان بتلك الحركة الانقلابية!
وإذ لا تزال هناك فرصة للعودة عن هذا الخيار الخطير بتلبية عروض المبادرة الأممية والمبادرات الأخرى، نرجو ألا يكون هناك خيار عدمي يذهب بالسودان إلى الجانب المظلم من التاريخ!