ما إن تتحدّر إلى الجنوب التونسي، وتتّجه صوب مدينة نفطة، حتى تجد نفسك أمام سلسلة من الكثبان الرملية، يأخذ بعضها برقاب بعض. كثبان ذات ألوان مختلفة تتوالى دون انقطاع على امتداد الطريق المؤدي إلى هذه المدينة. فوق قمم هذه الكثبان ترتفع من حين إلى آخر، بعض الزوايا، تخفق فوق قبابها، رايات خضراء، لتشير إلى تقليد مغاربي قديم يتمثل في تشييد مقامات للعلماء يزورها الناس، وربما اتخذوها كتاتيب لأطفالهم.
تتوالى الكثبان بألوانها المختلفة على طرفي الطريق، تتجاور حيناً، وتتداخل حيناً آخر، لكنها لا تنقطع أبداً. تتذكر، وأنت تنظر إليها قصائد شعراء الجريد الذين احتفوا بالصحراء في دواوينهم، مستدعين الأسطورة كلما تحدثوا عن مشاهدها البديعة، فثمة في هذا المشهد الجليل ما يذكر بالأساطير القديمة.
تنفتح الكثبان في النهاية على واحة نفطة الجميلة. هندسة المدينة وشوارعها الملتوية وأزقّتها الغارقة في الظل تفرض عليك أن تتأنّى في السير وتتأمل واجهات المنازل التي تملؤها الزخارف. صحيح، إن روح المدن العربية القديمة واحدة، لكن طرق التعبير عن تلك الروح تبقى متعددة مختلفة. فنفطة القديمة بطرقها الضيقة، وأحيائها المتلاصقة وأسواقها الصاخبة، وصناعاتها التقليدية الساحرة، تذكرك بالمدن العربية العتيقة، لكن تعدد زواياها ومقاماتها ومدارسها وكتاتيبها يجعل منها مدينة ذات نكهة خاصة وملامح متميزة.
تجمع كتب التاريخ على أن هذه المدينة قد نهضت، منذ قرون الفتح الأولى، بدور كبير في المجال العلمي، بحيث أضحت في ظرف وجيز مركزاً من أهم المراكز العلمية والثقافية في المغرب العربي، فتوافد عليها الطلبة من ليبيا والجزائر والسنغال، وغيرها من البلاد الأفريقية، يملأون مساجدها ودور العلم فيه... لهذا سميت الكوفة الصغيرة.
حلقات السماع
على هذا التاريخ الحافل بنى أهل المدينة مهرجانهم "روحانيات"، ليحتفوا بتاريخ نفطة الروحي، وبفنونها وآدابها. فعلى امتداد خمسة أيام أقامت بعض الفرق الموسيقية "حفلات سماع" استعادت، من خلالها، نماذج من الإنشاد الصوفي في تنوعه وتعدده. بعض هذه الفرق جاء من مصر، وبعضها من سوريا، وبعضها الآخر من العاصمة التونسية. قد تتغير أساليب الإنشاد، وقد تتنوع حلقات الرقص، لكن الجوهر، جوهر كل الفرق، يظل واحداً، وهو إذكاء الحنين إلى الأصل الذي تحدّرنا منه جميعاً كما قال جلال الدين الرومي.
لم يقتصر المهرجان على الفرق المحترفة ذات الشهرة الواسعة، وإنما دعا أيضاً الفرق الموسيقية التي تنتسب إلى الطرق الصوفية، لتنتشر داخل المدينة مستعيدة قصائد ابن الفارض التي تتغنى بجمال المحبوب. كانت غاية هذا المهرجان "استدراج" المدينة، كل المدينة، إلى الاحتفال بالموسيقى الصوفية، أو لنقل إن غاية المهرجان كانت عقد مصالحة بين المدينة وموسيقاها الروحية بعد تراجع دورها في العصور الحديثة.
وينبغي التذكير، في هذا السياق، أن الموسيقى الصوفية أصبحت متداولة في المهرجانات التونسية منذ أن تولى توظيفها الفنان سمير العقربي في عرض كبير سماه "الحضرة"، وفيه جمع أشكال "الموسيقى الطرقية" من مختلف جهات البلاد ليجعل من خيوطها المتناثرة وحدة. وقد أصبح هذا العمل الكبير مرجع الفنانين كلما أرادوا استرفاد الموسيقى الصوفية أو تجديدها أو توظيفها في أعمال درامية. وربما أفادوا أيضاً من أعمال صوفية أخرى في البلاد الإسلامية. وكان ختام حلقات السماع الحفلة التي أقامها الفنان لطفي بوشناق، واستعاد من خلالها أجمل القصائد الصوفية في التراث العربي. ونظم المهرجان مجالس للشعر الصوفي استمع خلالها الحاضرون إلى قصائد من شعر جلال الدين الرومي، مرفوقة بسيرة حياته، كما استمعوا إلى بعض التجارب الشعرية التونسية التي استلهمت الخطاب الصوفي.
ومن أهم النشاطات الفكرية في هذا المهرجان كانت المداخلة التي قدمتها التونسية ألفة يوسف، وتحدثت من خلالها بلغة شعرية راقية عن التجربة الروحية، بوصفها تجربة ذاتية، مسترفدة الدرس الفلسفي في المقام الأول، ثم المواقف الصوفية في المقام الثاني. كانت المداخلة لافتة في مضمونها، وفي شكلها، لافتة في مضمونها إلى أنها تناولت عدداً من القضايا الفلسفية التي أقضّت مضجع المفكرين المسلمين منذ أقدم العصور، ولم يتمكنوا من محاصرتها، وإيجاد حلول لها. ولفتت في شكلها، لأنها حاولت أن تعالج تلك القضايا بلغة واضحة، قريبة المأخذ، خالية من كل المصطلحات المتداولة في مجالي الفلسفة والتصوف. بجرأة كبيرة، أفصحت الباحثة عن أسئلتها وانتقلت، بخفة طائر، من موضوع إلى آخر، مذكرة الحاضرين أن القناديل كثيرة، والضوء واحد.
روحانيات الدورة الخامسة
تمكن المهرجان في دورته الخامسة من ترسيخ اسمه في ذاكرة المتفرج التونسي، وأصبح يستقطب الكثير من المهتمين بالثقافة الصوفية من داخل البلاد وخارجها. وقد أصبح للمهرجان متابعون ياتون إليه من بلاد بعيدة. كل هذا يؤكد أن المهرجان استجاب لرغبة عميقة في نفوس متابعيه شرقاً وغرباً، ويؤكد أن مدينة نفطة بصدد التحول إلى قطب ثقافي كبير يتوجه إليها كل خريف، المهتمون بالثقافة الروحية لحضور فعاليات مهرجانها. كنا نغادر المدينة ونخيلها المثقل هذه الأيام بإعذاق التمر حين أشار أحد الأطفال إلى بيت قديم، وقال: هذا بيت الشاعر مصطفى خريف. ثم أشار إلى بيت ثانٍ، وقال: هذا بيت البشير خريف (صاحب الدقلة في عراجينها).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول كتب التاريخ إن هذه الواحة، واحة نفطة، ساعدت أهلها على الاستقرار منذ أقدم العصور، في حين ظل سكان الصحراء من الرحل يبحثون باستمرار عن مساقط الماء، وساعد الاستقرار الأهالي على الإعمار وابتكار صناعات للإيفاء بحاجاتهم، بل جعل من هذه المدينة محطة مهمة في طريق التجارة الصحراوية الرابطة بين أفريقيا والموانئ المتوسطية.
ولكن، بعد أفول التجارة الصحراوية وسقوط النظام الإقطاعي القديم، تحولت "الكوفة الصغيرة" إلى محطة ثقافية مهمة، ضمت عدداً من كتاب تونس الجدد وشعرائها، وأصبح اسمها رديف الأدب التونسي الجديد الذي ظهر في ستينيات القرن الماضي مفعماً بالأسئلة الاجتماعية والحضارية.