يتصل السؤال عن مستقبل نظام التقاعد في لبنان بالوظيفة المطلوب من الدولة القيام بها، في ظل التوجه إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي واعتماد استرتيجية ترشيق القطاع العام. وبعيداً من الخطوات التي ستتّبع على المديين المتوسط والطويل، تعيش الإدارات العامة اللبنانية حالاً من السكون، إذ يشهد القطاع العام في البلاد إضراباً للموظفين، فيما التحق الأساتذة وعناصر الأسلاك العسكرية بأماكن عملهم بصورة منتظمة. وليس من قبيل المبالغة الحديث عن منسوب مرتفع من القلق تعيشه الأسلاك المدنية والعسكرية في لبنان بسبب الانهيار المتسارع للعملة الوطنية مقابل الدولار الذي بلغ يوم الثلاثاء 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 21500 ليرة، ما يعني خسارة الأجور والتعويضات التقاعدية قيمتها. وفي ظل تعدد أشكال الأنظمة التقاعدية، تبرز المطالبة بشمول نظام الموظفين فئة المياومين والمستخدمين وحصولهم على تقديمات الضمان الاجتماعي بعد التقاعد.
خلال أشهر قليلة، يدخل حيدر مرحلة التقاعد، ويدخل معها في المجهول. فهو يعمل مستخدماً في إحدى البلديات، وسيتقاضى قرابة ستين مليون ليرة تعويضاً عن سنوات الخدمة التي أمضاها في الملاك. يقارن قيمة المبلغ بالسابق وحاضراً، كان يساوي 40 ألف دولار، أما اليوم، فبات دون ثلاثة آلاف دولار. بالتالي، لن يتمكّن من تنفيذ المشروع الذي يدور في باله، ويتخوف من أن يكون بلا أي حماية اجتماعية بعد أن ينفق تعويض نهاية الخدمة. ويعاني حيدر من أمراض عدة على غرار كثيرين ممن يصلون منهكين إلى سن التقاعد. ولا يستفيد هؤلاء حالياً من تقديمات الضمان الاجتماعي، بسبب عدم وجود تشريع يسمح بذلك. وهذه هي حال المياومين الذين يبلغون السن القانونية، وتتم إحالتهم إلى التعاقد عند بلوغ 64 سنة.
موظفو القطاع العام في مواجهة صندوق النقد
يقدّر عدد المتقاعدين من القطاع العام في لبنان بـ120 ألفاً، غالبيتهم من المعلمين والعسكريين بحسب أرقام الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين.
من جهته، يتحدث العميد المتقاعد جورج نادر عن نحو 60 ألف عسكري متقاعد، من بينهم "شهداء الجيش وقوى الأمن والأشخاص ذوو الإعاقة المصابون خلال المعارك".
ويتعرض هؤلاء لهجوم منظّم من قبل أنصار الخصخصة ومنتقدي أداء القطاع العام في لبنان، باعتبارهم يشكّلون عبئاً على موازنة الدولة المثقلة أصلاً بالأعباء. إلا أن هذه "التهمة باطلة" بإجماع ممثلي متقاعدي القطاع العام، الذين ينطلقون من حقهم بالمحسومات التقاعدية، أي أن ما يتقاضونه عند التقاعد هو "ما اقتطعته الدولة من أجورهم طوال سنين الخدمة وصولاً إلى بلوغهم السن القانونية للتقاعد"، بحسب النقابي محمد قاسم، الذي يشرح كيفية تكوين هذا الاحتياط. "فالدولة تقتطع كل شهر من راتب الموظف في القطاع العام ما نسبته 6 في المئة. في المقابل، تلتزم الدولة دفع 6 في المئة مماثلة لتغطية نظام التقاعد عن كل سنة خدمة، علماً أن هذه النسبة كان يجب أن تكون 8.5 في المئة شهرياً لتغذية هذا الباب. ويستمر هذا الواقع التراكمي إلى حين بلوغ الموظف سن التقاعد، إذ يجب على الدولة أن تعوّضه عن سنوات خدمته".
لذلك، يصف قاسم التعويض التقاعدي بـ"الحق المكتسب للموظف"، وهو "ليس صدقة من أحد". ويعتقد أنه "حتى اللحظة، لم نشهد بعد أزمة في أساس التقاعد، وما زال المتقاعدون يحصلون على أجورهم التقاعدية بانتظام"، لافتاً إلى أن "الأساتذة المتقاعدين وحدهم من تضرر بسبب خسارتهم 50 في المئة من الزيادة التي احتسبتها سلسلة الرتب والرواتب".
أين صندوق التقاعد؟
تجمع الدولة اللبنانية المبالغ المتراكمة في الخزانة العامة، فيما يجب قانوناً إنشاء "صندوق مستقل لتقاعد موظفي القطاع العام" بناء على مراسيم تشريعية صدرت ما بين عامي 1938 و1983، وهو "صندوق مستقل يتم استحداثه من أجل تجميع المبالغ التراكمية المقتطعة فيه. ومن ثم استثمار هذه المبالغ في أنشطة اقتصادية مربحة، تزيد من العوائد"، بحسب النقابي محمد قاسم.
ولكن ما جرى هو العكس، "إذ وضعتها الدولة في الخزانة العامة، واستُخدمت في تغطية النفقات العامة، وحُوّلت إلى حساب شائع ومشترك، في ظل غياب باب خاص بتقاعد الموظفين"، بحسب قاسم الذي يضع هذا الأمر في دائرة الأفعال الخاطئة بحق الإدارة العامة.
ويقول إنه "لو تم توظيف المبالغ المقتطعة بعائد ربح بين 5 و10 في المئة لكانت تضاعفت التعويضات والمعاشات التقاعدية التي يستفيد منها القطاع العام. وبعد 40 سنة خدمة وبفعل التراكم، يمكن أن يصل عائد الموظف إلى 230 في المئة كحد أدنى".
ويؤكد أن الأزمة تطال الموظفين كافة، في الخدمة الفعلية أو التقاعد، إذ خسرت معاشاتهم أكثر من 10 أضعاف بسبب الانهيار. ويلفت إلى أن الرقم التقديري للحد الأدنى للأجور يجب أن يتراوح بين 7 و11 مليون ليرة لبنانية في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات والأعباء التي يفرضها رفع الدعم عن المحروقات والسلع الأساسية.
ويحذر قاسم من استغناء الدولة عن نموذج الرعاية الاجتماعية، لأن ذلك سيؤدي إلى أخطار كبيرة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي في ظل الاقتصاد الريعي وعدم دعم سياسة الإنتاج.
العسكر وتعويض الأخطار
لا تقتصر الشكوى على الأسلاك المدنية، إنما تتجاوزها إلى العسكرية، إذ يؤكد العميد المتقاعد نادر أن "الدولة تؤخر تقاعد العسكريين إلى حين بلوغ السن القانونية، أي 53 سنة، من أجل تخفيف الأعباء على الخزانة العامة"، لافتاً إلى "التأخر في سداد التعويضات التي تضاءلت قيمتها السوقية، كما أنه في حال نيل المتقاعد تعويضه، يتم احتجازه في البنوك على غرار ما يجري مع المواطنين كافة. وفي هذا الوقت، يستمر تأثير الانهيار المالي، فعلى سبيل المثال من كان يشكل تعويضه 120 ألف دولار، أصبح اليوم يساوي 8500 دولار، وهكذا دواليك".
ويتمسك نادر بأحقية العسكريين في التعويضات والمعاشات التقاعدية، فهم يخدمون 15 يوماً بمعدل 24 ساعة متواصلة في مراكز عملهم وثكناتهم، وهذا كحد أدنى"، مشبهاً ذلك بنظام "الأوفر تايم"، إذ يستحق الموظف أجراً إضافياً عن كل ساعة خدمة.
ويتحدث نادر عن "تعويض مخاطر" يستحقه العسكري، إذ "لا يبلغ أحد من العسكر سن التقاعد إلا وقد أُصيب بمرض مزمن، أو تعرّض لإصابة خلال أداء الخدمة أو الدفاع عن أرض الوطن"، مستذكراً أنه "خلال انتدابهم لرحلات تدريب في الخارج، اكتشفوا أن الدول المتقدمة كفرنسا، تمنح العناصر تعويضاً إضافياً بسبب الإقامة بصورة مؤقتة خارج منازلهم".
ويرفض المطالبات بحرمان زوجات العسكريين المتوفيين وبناتهم غير المتزوجات من معاشاتهم التقاعدية، مذكّراً بتهديد العسكريين المتقاعدين بانتفاضة في حال حرمان جهينة زغيب، ابنة الضابط محمد زغيب، الشهيد الأول للجيش اللبناني الذي سقط في معركة المالكية. ويسأل "أي منطق يسمح بحرمان عزباء بعمر 73 سنة من معاش والدها التقاعدي وبصورة مفاجئة؟". ويوضح أن الأسلاك العسكرية كانت الأقل استفادة من سلسلة الرتب والرواتب في 2017، إذ كانت الزيادة للعسكريين في الخدمة الفعلية بنسبة 52 في المئة، والمتقاعدين 42 في المئة، أما القطاع المالي فاستفاد من 140 في المئة، والقطاع التعليمي بنسبة 120 في المئة.
من جهته، يتطرق ممثل العسكريين المتقاعدين عبد السلام طالب، إلى مشكلة الطبابة التي تضرب نظام التقاعد، كما تضرب العسكريين في الخدمة الفعلية. ويقول، "في السابق، كانت تتم تغطيتنا بنسبة 100 في المئة، أما حالياً فيرفضون استقبال العسكر بسبب عدم دفع الدولة للمستشفيات". ويضيف "في السابق، كان العسكري قادراً على الحصول على منزل وشراء سيارة وعلى الحد الأدنى من الرفاهية، أما الآن فلم يعُد يكفيه معاشه للحصول على الحقوق الأساسية".