بدأت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة منذ سنتين في لبنان، تؤثّر في سلوك السكان في التنقل. ويعاني هذا البلد من غياب شبه تام لوسائل النقل العام وتداعي البنى التحتية.
وقد بدأت عربات "التوكتوك" تظهر في عدد من المدن والبلدات، بينما تبرز مبادرات خاصة لتسيير حافلات ركاب بتعرفة منخفضة واستخدام الدراجات... ففي ظل نقص المحروقات، يسعى كثيرون لتأمين حلول بديلة لمشكلات النقل.
ويتجاوز عدد السيارات والعربات المسجلة في لبنان المليونين، وفق إحصاءات رسمية، فيما يعيش ثمانون في المئة من إجمالي السكان البالغ عددهم قرابة ستة ملايين، تحت خط الفقر.
وقبل بدء الأزمة الاقتصادية التي صنّفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، اعتادت غرايس عيسى (23 سنة) "استخدام سيارة (الأسرة) أو التاكسي، لكنّ العملية باتت مكلفة" راهناً.
وتوضح بينما تستقلّ حافلة تسيّرها شركة خاصة ناشئة، أنها باتت تصرف "نحو ثلاثين في المئة من راتبي على المواصلات عوضاً عن سبعين في المئة".
وشهد لبنان خلال الأشهر الماضية أزمة محروقات اضطر معها السكان إلى الانتظار لساعات في طوابير طويلة من أجل تزويد سياراتهم بالبنزين، جراء صعوبات في استيراد الوقود نتيجة انهيار غير مسبوق في سعر صرف الليرة مقابل الدولار ونضوب احتياطي العملة الأجنبية.
وعلى وقع الانهيار، تراجع شراء السيارات بأكثر من سبعين في المئة، وفق مركز الدولية للمعلومات. وبات شراء سيارة لغير الميسورين ترفاً مع فقدان الليرة أكثر من تسعين في المئة من قيمتها. وارتفعت كذلك كلفة التنقّل في السيارات الخاصة أو سيارات الأجرة بعد ارتفاع ثمن الوقود جراء رفع الدعم الحكومي عنه.
مبادرات وحلول
ومع تسيير حافلات من شمال لبنان إلى بيروت، بمبادرة خاصة، صار في إمكان عيسى قبول عرض عمل في مطعم راق قرب المدخل الشمالي لبيروت.
ويوضح "لم يعد بمقدوري استخدام سيارة، خصوصاً مع أزمة البنزين" التي بلغت ذروتها خلال الصيف.
وبات ثمن عشرين ليتراً من البنزين بعد رفع الدعم الشهر الماضي، يعادل قرابة ثلث الحدّ الأدنى للأجور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أطلق القطاع الخاص مبادرات عدة لتسيير حافلات تنطلق عموماً من مناطق بعيدة نسبياً عن بيروت، وتسير وفق خطوط منتظمة وفي مواعيد محددة، الأمر الذي قد يبدو عادياً في أي بلد لكن ليس في لبنان حيث الحافلات العامة متهالكة وغير منتظمة. ويشكو البعض من أنها قد تكون أحياناً مساحة غير آمنة خصوصاً للنساء اللواتي قد يتعرضن فيها للتحرش أو النشل.
ويقول بطرس كرم (26 سنة)، الذي أطلق وثلاثة من أصدقائه إحدى المبادرات، إن "مشكلة النقل العام قديمة لكنّها تضخمت مع أزمة البنزين وعدم قدرة الناس على التنقل بسبب ارتفاع الكلفة".
وتتلقى الشركة طلبات متزايدة من ركاب "لم يعتادوا استخدام وسائل النقل المشترك" التي تلتصق بها، وفق كرم، "صورة نمطية"، فكثيرون "يقولون إنها غير نظيفة... وغير آمنة".
وفي سبيل كسر هذه الصورة، "أخذنا كل هذه النقاط بالاعتبار". فالحجز المسبق ضروري والحافلات مزودة بخدمة تعقّب وإنترنت وسلامة الركاب أولوية، ما جعل ستين في المئة من زبائنه من النساء، على حدّ قوله.
طيلة عقود، فشلت محاولات عدة لتنظيم النقل العام في لبنان، على الرغم من وضع خطط ورصد أموال.
وتوقفت شبكة القطارات التي أنشئت في نهاية القرن التاسع عشر عند اندلاع الحرب الأهلية (1975- 1990)، ولم تعد إلى العمل بسبب عدم تأهيلها، فيما لا يزال موظفو مصلحة سكك الحديد يتقاضون رواتبهم.
أسلوب حياة
وكانت آخر المحاولات حزمة تمويل أقرّها البنك الدولي عام 2018 بقيمة 295 مليون دولار لمشروع نقل عام في بيروت الكبرى، بهدف إطلاق أول شبكة مواصلات عامة حديثة في البلاد. لكن المشروع لم ينفّذ، وتسعى الحكومة اليوم للاستفادة من الأموال المرصودة لدعم الأسر الأكثر فقراً.
ورداً على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية، قال البنك الدولي، "تجري مناقشات مع الحكومة اللبنانية بشأن جدوى إعادة هيكلة وإعادة برمجة محفظة البنك الدولي بأكملها والتي تشمل مشروع النقل العام في بيروت الكبرى، لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً للشعب اللبناني".
وفي مدينة البترون الساحلية في الشمال، وبعدما كان سياح يستخدمون "التوكتوك" خلال الصيف لاكتشاف المدينة، بات السكان يعتمدونها وسيلة تنقل يومية، وفق المسؤول في إحدى شركات النقل طوني جرجس.
ويقول جرجس إن طلبات الزبائن لا تتوقف، مضيفاً "غيّرت الأزمة عادات اللبنانيين في التنقل. التوكتوك خيار أقل كلفة وأسرع" خصوصاً خلال الزحمة.
وقدّر البنك الدولي عام 2018 كلفة التكدّس المروري سنوياً بأكثر من ملياري دولار.
على بعد أكثر من عشرين كيلومتراً عن البترون، في طرابلس، كبرى مدن لبنان، يلاحظ نذير حلواني الذي يستخدم دراجته الهوائية منذ عقدين وأطلق مبادرات عدّة لتشجيع سكان مدينته على التخلي عن قيادة السيارات الملوثة والمكلفة، ازدياد عدد من يستخدمون الدراجة الهوائية في تنقلاتهم.
ويقول الشاب (35 سنة) الذي يدير شركة تسويق، "السيارة باتت في لبنان أسلوب حياة أكثر مما هي وسيلة تنقّل"، مبدياً أسفه لأن اللبنانيين لم يفكروا في خيارات بديلة إلا عندما اضطروا إلى الانتظار لساعات أمام محطات الوقود.
ويرى في الأزمة الحالية "فرصة ملائمة لإعادة التفكير" بمفهوم النقل العام، فيما يرغب في أن "يتذوق كل شخص طعم قيادة الدراجة الهوائية والحرية التي تلازم ركوبها".