قبل أكثر من 26 عاماً، في أول اجتماع قمة "كوب" عقده العالم حول تغير المناخ في برلين، أثارت انتباه الدبلوماسيين وغيرهم من المشاركين، نجمة صاعدة على الساحة السياسية الألمانية شغلت، آنذاك، منصب وزيرة البيئة في بلادها.
وبدا أن الوزيرة التي انتخبت لترؤس الاجتماع تدرك أهمية هذا اللقاء. وفي خطابها الافتتاحي، وصفت حماية المناخ بوصفها إحدى أكبر التحديات السياسية التي تواجه العالم. وكذلك أشارت إلى عدم كفاية الالتزامات التي تعهدت بها الدول الصناعية، مشيرة إلى ضرورة إحداث تغيرات جذرية.
وفي ذلك الوقت، انتقلت أنغيلا ميركل، تلك العالمة الأربعينية والمتخصصة في الفيزياء الكمومية، إلى العمل في السياسة. وعملت على بناء التحالفات بهدوء، وناقشت التفاصيل على هامش الاجتماع، ونجحت في حمل المشككين بذلك الموضوع على إبرام اتفاق عن المناخ. لاحقاً، سوف تعتبر تلك القمة أول نجاح للمستشارة الألمانية في حقل الدبلوماسية الدولية. وفي المقابل، إنه لن يكون الأخير.
ختمت ميركل هذا الأسبوع حضور آخر قمة "كوب" لها بصفتها زعيمة ألمانيا، بعد أكثر من ربع قرن قضته كشخصية دولية تتمتع بأسلوب مفاوضات فريد جعل منها مسؤولة بارزة.
ويشير مات كفورتروب، بروفيسور العلوم السياسية والعلاقات الدولية في "جامعة كوفنتري" ومؤلف كتاب "أنغيلا ميركل، أكثر الزعماء الأوروبيين تأثيراً "، إلى أن "كونها عالمة أدى إلى اختيارها كي تشغل منصب وزيرة البيئة. ومن الملفت أن نلحظ أن أول مساهماتها تمثلت في التفاوض على اتفاق حول المناخ. جاء أسلوبها فريداً من نوعه، واشتهرت بالتفاوض خلال اجتماعات القمم".
واستطراداً، تناولت دراسات كثيرة أسلوب ميركل المتكتم في القيادة. ركزت إحاطة أجريت الشهر الماضي في "كلية هارفرد للحقوق" على تنشئتها في ألمانيا الشرقية في ظل الحكم الشيوعي، ما اضطرها غالبية الأحيان إلى أن تزن كلماتها بحذر وتفكر في وقعها على غرار ما يفعل لاعب الشطرنج، "وتظل متقدمة على منافسيها بخطوات عدة"، بحسب رجل الدين الألماني الشرقي المنشق راينر إيبلمان في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" في 2014.
ومن الدروس الأخرى التي يمكن استخلاصها من أسلوب ميركل في التفاوض، هنالك قدرتها على النظر إلى تصرفاتها من خلال عيون الآخرين كي تراها بطريقة أكثر عقلانية، وإصغاؤها إلى نظرائها من دون مقاطعتهم، قبل أن تطرح عليهم الأسئلة طلباً لاستيضاح آرائهم، وتركيزها على العقل بدل الغريزة. وكذلك أشارت إحاطة "كلية هارفرد للحقوق" إلى أن "الانفعالية يمكن أن تشكل خطراً في المفاوضات".
ويصف البروفيسور كفورتروب أسلوب ميركل بأنه "حكم قائم على برامج وجداول وليس على تغريدات"، ما يفسر التوتر بين ألمانيا والولايات المتحدة في ظل حكم الرئيس دونالد ترمب آنذاك، الذي استند أساساً إلى غريزته. وكذلك يرى البروفيسور كفورتروب، أن أسلوبها "يستند إلى الدقة والوقائع. ويتمثل هدف ذلك الأسلوب في حل المشكلة بدل الفوز بالنقاش. إذ يعري النقاش من السياسة والغضب".
واستطراداً، حينما واجهت ميركل شخصيات ميالة إلى العدوانية والقتال كترمب أو رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، سعت إلى توجيه النقاش نحو حل أي خلافات بينهما بدل أن تحاول إحراز نقاط لصالحها. وفي المقابل، عمل خصومها على إطلاق هجمات تلقى شعبية في أوساط الحشود. لم تقع ميركل يوماً في هذا الفخ. إذ دأبت على القول "حسناً. كيف نحل هذه المشكلة؟".
أخيراً، وصف بيتو فان واردن، مؤرخ قضايا الإعلام والسياسة في "جامعة لند" السويدية، ميركل على أنها سياسية تمثل "النموذج الصرف للشخصية المناهضة للشهرة"، وقارنها مع ترمب وروماريو دي سوزا فاريا، لاعب كرة القدم البرازيلي الذي أصبح سيناتوراً، وفولوديمير زيلنسكي، الكوميدي الأوكراني الذي أصبح رئيساً للبلاد. وكتب "بدت سياسات ميركل غير استعراضية وعرفت بصدقها الواضح ومظهرها المحايد وتفاديها العروض الإعلامية، وانعدام العواطف والانفعالية لديها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك، يحمل أسلوبها بعض السلبيات. ومن المحتمل أنها تفتقر إلى الرغبة بالتفكير في الحوافز السياسية البحتة، ما أدى إلى عجزها عن تبين بعض التطورات كصعود نجم ترمب و"بريكست".
مثلاً، في 2014، نقلت إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ديفيد كاميرون الذي كان يحاول الحد من حرية التنقل باتجاه بريطانيا وسط مطالبات بتنفيذ "بريكست" ضمن حزبه، أن "معدل البطالة لديك متدنٍّ، واقتصادك مزدهر وأنت تنمو بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وتجذب يداً عاملة عالية المهارة مقابل تكلفة زهيدة. اشرح لي المشكلة".
لا شك في أنه يمكن اعتبار أسلوب ميركل موجهاً إلى جمهورها الخاص. وهي تستفيد من وجود طبقة وسطى مثقفة في ألمانيا تنبذ الديماغوجية وتفضل الجوهر على الشعارات الرنانة.
في سياق متصل، أظهرت استطلاعات الآراء مرة تلو الأخرى أن أسلوبها المباشر وغير المزخرف في القيادة السياسية، يلقى الاستحسان في كل أرجاء العالم. وجد استطلاع للآراء أجرته مؤسسة "بيو للأبحاث" أن غالبية السكان في كل الدول التي شملها الاستطلاع تقريباً تثق بأن ميركل تتصرف بالشكل الصحيح في الشؤون الدولية. فقد سحقت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ، فيما تقدمت على الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأميركي جو بايدن. وختمت الدراسة بأنه "في معظم الأماكن التي شملها الاستطلاع، لم تكن الثقة في المستشار الألماني أكبر يوماً (مما هي عليه مع ميركل)".
وبعد تقاعدها من موقعها كمستشارة، هل نتوقع رؤية ميركل تسخر مهاراتها التفاوضية في سبيل حل المشاكل العالمية كتغير المناخ أو أزمات الشرق الأوسط؟ يشك البروفيسور كفورتروب في الموضوع. فابتداءً من ويلي برانت ووصولاً إلى هلموت كول أو غيرهارد شرودر، يميل المستشارون الألمان إلى الابتعاد عن الأضواء بعد انتهاء ولاياتهم.
وكذلك يشير البروفيسور كفورتروب "سوف تستمتع بتقاعدها. لو عرضت عليها مهمة صغيرة وعملية في الأمم المتحدة، يرجح أن تقبل بها. ولكنني أتخيل كذلك أنها قد تكثر من ارتياد الأوبرا".
© The Independent