حتى قبل أن يصل إلى البيت الأبيض تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن بعقد قمة عالمية حول الديمقراطية، لكن تسعة أشهر مضت على توليه الحكم قبل أن تحدد إدارته أخيراً موعد القمة في 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبل عبر الإنترنت بمشاركة قادة 108 دول، وسط جدل حول قائمة المدعوين وجدول الأعمال، وما إذا كانت القمة بالفعل ديمقراطية كما يشير اسمها أم سياسية ترفع شعار الديمقراطية كسلاح لخدمة مصالح الولايات المتحدة في مواجهة الصين وروسيا، في وقت يشهد فيه الداخل الأميركي صراعاً وانقساماً حول حقوق الناخبين وعنف الشرطة وقضايا العرق، فكيف يمكن للرئيس بايدن وفريقه أن يضمن نجاح هذه القمة وما يليها من قمم؟
منذ اليوم الأول
حسب موقع وزارة الخارجية الأميركية، فإن إدارة بايدن أوضحت منذ اليوم الأول لها في الحكم أن تنشيط الديمقراطية والدفاع عنها في الداخل والخارج لا ينفصل عن تعزيز مصلحة الولايات المتحدة، ولهذا فإن أول قمة من نوعها من أجل الديمقراطية التي ستعقد يومي 9 و 10 ديسمبر 2021، ستجمع قادة الحكومات حول العالم والمجتمع المدني والقطاع الخاص لوضع أجندة إيجابية لتنشيط الديمقراطية والتصدي للتهديدات والتحديات الخطيرة التي تواجهها اليوم، من خلال العمل الجماعي لإثبات أن الديمقراطية لا تزال تعمل ويمكنها تحسين حياة الناس بطرق ملموسة.
وفي حين ترى الولايات المتحدة، أن القمة ستوفر فرصة للاستماع والتعلم والمشاركة مع مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة التي يعد دعمها والتزامها أمراً بالغ الأهمية لتنشيط الديمقراطية في العالم، فإنها تعترف أيضاً بالنواقص القائمة في عديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة، حيث يشير بيان الإعلان عن القمة إلى أهمية استعراض نقاط الضعف والعيوب ومواجهتها بصراحة وشفافية، من أجل تشكيل اتحاد ديمقراطي أكثر قوة.
أسئلة مبكرة
وعلى الرغم من المحاور الثلاثة التي أعلنتها الخارجية الأميركية لطرحها في هذه القمة، وهي الدفاع ضد السلطوية ومكافحة الفساد وتعزيز احترام حقوق الإنسان، فإن التفاصيل الدقيقة المتعلقة بجدول الأعمال لا تزال مجهولة، كما أثارت قائمة الدول التي وجهت لها الدعوات ونشرها موقع "بوليتكو" الأميركي، وأكد صحتها مسؤولون أميركيون، أسئلة مبكرة عما إذا كانت القمة يمكن أن تؤدي إلى توافق أو اتخاذ إجراءات ذات مغزى، لأن القائمة تضم مجموعة متنوعة للغاية من البلدان لكل منها مصالحها الفردية وأجنداتها.
كما أن المعايير التي استخدمت لتحديد الدول التي ستشارك في القمة غير معروفة أيضاً، لأن القائمة استبعدت دولاً من دون سبب واضح، على الرغم من أنها مصنفة على قائمة منظمة "فريدوم هاوس" التي تمولها الحكومة الأميركية باعتبارها حرة جزئياً ومنها أربع دول عربية، في حين تمت دعوة دول أخرى حصلت على نفس التصنيف، بل إن حكومات أخرى مصنفة على أنها غير حرة مثل أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والعراق لديها سجلات حقوقية إشكالية على صعيد الحقوق السياسية والحريات المدنية وجهت إليها دعوات للمشاركة.
خيارات صعبة
وعلاوة على ذلك سيكون الرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي، الذي صرح في السابق أنه لا يهتم بحقوق الإنسان، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي تتهمة منظمات حقوقية بأنه يقود الهند نحو الاستبداد، والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو الذي يحاول الانقلاب على الديمقراطية من بين أولئك الذين سوف يناقشون مع بايدن كيفية مساعدة الديمقراطية على الازدهار عالمياً، وهو ما يبدو محرجاً للإدارة الأميركية ويثير الشكوك حول مصداقية الحدث.
غير أن المسؤولين الأميركيين الذين شاركوا في التخطيط للقمة برروا ذلك بأن الدعوات وجهت إلى دول لها تجارب ديمقراطية مختلفة من جميع مناطق العالم، ولم يكن المعيار يتعلق بكون الشخص ديمقراطياً أم لا، لأن الهدف هو تحقيق التنوع الإقليمي والمشاركة الواسعة، ولهذا ستجمع القمة بين الديمقراطيات الناضجة مثل فرنسا والسويد، وكذلك دولا مثل الفيليبين وبولندا التي تخوض نزاعاً مع الاتحاد الأوروبي في شأن ما تصفه بروكسل بأنها تتراجع عن الديمقراطية.
مصالح أميركا
غير أن مراقبين وباحثين اعتبروا أن قائمة الاختيارات الأميركية تعكس كيف تلجأ إدارة بايدن إلى تحقيق التوازن بين مصالح الأمن القومي الأوسع للولايات المتحدة، وعلى رأسها مواجهة الصين الصاعدة وروسيا المتحفزة عسكرياً، وبين القيم والمثل الأعلى المتمثلة بوضوح في الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد، إذ تشير إيمي هوثورن، مديرة الأبحاث في مشروع "ديمقراطية الشرق الأوسط" إلى أن الاعتبارات الاستراتيجية المتعلقة بمواجهة الصين تلعب دوراً مهماً في دعوة الديمقراطيات المضطربة للغاية والمتراجعة، مثل الهند والفيليبين الموجودتين في جوار الصين، وهما دولتان حليفتان للولايات المتحدة، والشيء نفسه ينطبق على دعوة العراق الذي يطبق ديمقراطية معيبة بشدة، لكنه جار لإيران الدولة الخصم للولايات المتحدة.
لكن يبدو أن الولايات المتحدة عمدت إلى توسيع شبكة المشاركة الرسمية مع الحرص على عدم استعداء حلفائها حتى تحقق غرضها المنشود بأنها تقود العالم الديمقراطي في مواجهة الأشرار الذين يحاولون أن يقدموا نموذجاً سيئاً للعالم من الاستبداد، فباستثناء بعض الدول الحليفة بما فيها تركيا العضو في حلف الناتو، اتخذت واشنطن نهجاً مختلفاً قائماً على الالتزامات، وليس على الشروط، فقد طلبت من الحكومات المهتمة أن تخلق مبادرات أو تشرع في تطبيق إصلاحات ذاتية للديمقراطية ليتم طرحها في القمة وتنفيذها خلال العام التالي وصولاً إلى القمة الثانية التي يتوقع أن تنعقد حضورياً في ديسمبر 2022، لبحث التقدم والنتائج التي سيتوافق القادة على تنفيذها.
نهج قديم
وفي حين أن قمة الديمقراطية هي الأولى من نوعها، فإن بايدن لم يكن أول زعيم أميركي يبرز الديمقراطية في أجندة السياسة الخارجية، فمنذ أن وقع الرئيس فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل على ميثاق الأطلسي عام 1941، كان دعم الديمقراطية كأساس لنظام دولي قائم على القواعد، جزءاً أصيلاً ومركزياً من تفكير الولايات المتحدة في السياسة الخارجية، ورداً على التحديات التي تتراوح من الشيوعية إلى الفاشية والإرهاب والتطرف العنيف والقومية العرقية.
و"على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت غير متسقة وأحياناً منافقة، في دعمها للديمقراطية على مستوى العالم"، وفقاً لما يقوله الباحثان في المجلس الأطلسي دانيال فرايد وروز جاكسون، "فإن رؤساء كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي يواصلون دائماً العودة إلى استخدام الديمقراطية في مواجهة الخصوم".
أساس النزاع
ولأن العالم يمر حالياً بلحظة من التدهور الديمقراطي العميق سواء كان ذلك في أوغندا وتركيا والفيليبين والبرازيل وأجزاء من أوروبا، أو حتى في داخل الولايات المتحدة، فإن الحكومات تكافح للوفاء بالديمقراطية، بينما يستفيد القادة الاستبداديون في الدول العظمى محاولين إرساء رؤى أخرى للنظام الدولي، مثلما يفعل الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين حسب وجهة نظر الولايات المتحدة، فبدلاً من الديمقراطية، يريد بوتين عالماً ممزقاً يمكنه التلاعب به بينما يهدف إلى حرق النظام الدولي القائم الآن، في حين أن الرئيس الصيني شي وحزبه الشيوعي يطوران نوعاً جديداً من النظام الدولي، حيث يمكن أن يتعايش التكامل والازدهار الاقتصادي مع السيطرة السياسية المركزية والقمع الوحشي الذي تتطلبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسواء كان الفساد المتجذر في روسيا يتشابك مع الأنظمة المالية الأميركية والبريطانية أو الاستبداد التكنولوجي للحزب الشيوعي الصيني المخبأ في التطبيقات والشبكات والأجهزة التي يستخدمها مليارات الأشخاص حول العالم، فإن الصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية هو أمر منهجي بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ما يتطلب منها العمل الجماعي مع حلفائها، وهذا هو السبب في أن تأكيد بايدن على الديمقراطية ليس مجرد شعاراً نبيلاً أو عملاً أخلاقياً محضاً، ولكنه أساس سياسي للنزاع على الصعيد الدولي وفي الولايات المتحدة.
أصداء هلسنكي
ويحمل نهج إدارة بايدن أصداء عملية هلسنكي القديمة التي نبعت خلال مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتضمنت إقناع القادة غير الديمقراطيين في شرق أوروبا بالتعهدات بحقوق الإنسان التي يمكن لاحقاً محاسبتهم عليها، وهي عملية عززت في النهاية الحركات المنشقة الناشئة في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية التي تهيمن عليها موسكو.
وعلى الرغم من صعوبة توقع ما سينجح في لحظة معينة من التاريخ، فإن قمة الديمقراطية تمثل فرصة في لحظة ملحة، ترى إدارة بايدن أنه من الصعب تبديدها، وبدلاً من تعيين نفسها كقاض للمعايير الديمقراطية، سمحت إدارة بايدن بدرجة من الاختيار الذاتي من قبل الحكومات المهتمة لتقديم أطروحاتها باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع الاعتراف بأن الديمقراطيات فيها عيوب وتواجه تحديات، ولكن في الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة تريد ضمان أن يكون للمجتمع المدني مدخلات ذات مغزى في التعهدات الوطنية التي ستقدم في القمة والتأكد من قدرته على دفع البلدان للالتزام بأشياء جديدة وأحياناً صعبة، وليس مجرد عرض البرامج الحالية كمسار للدول بصرف النظر عن التنفيذ والالتزام.
تخوفات بكين
دعوة أميركا لقمة الديمقراطية أثارت على الفور مخاوف في بكين جسدها جيانغ تشيوان، مدير مكتب أبحاث السياسات في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، الذي اعتبر "أن محاولة إحياء الديمقراطية الغربية تعد مفارقة وسط المشكلات الديمقراطية المتصاعدة في أميركا وأوروبا، وأن هدف القمة هو قمع الدول الأخرى وتقسيم العالم إلى معسكرات مختلفة"، مشيراً إلى "أن الديمقراطية ليست براءة اختراع للغرب، ولا يمكن له تعريفها، لأن الديمقراطية الغربية يهيمن عليها رأس المال، وهي ديمقراطية الأغنياء، وليست حقيقية وهم يحاولون فرض نموذجهم على بلدان أخرى بينما ثورات السود والملونين في السنوات الأخيرة أدت إلى كوارث للسكان المحليين"، وأشار المسؤول الصيني إلى استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث، قال "إن 57 في المئة من المشاركين في جميع أنحاء العالم و72 في المئة من الأميركيين يرون أن الديمقراطية في الولايات المتحدة كانت نموذجاً جيداً في الماضي، ولكنها لم تكن كذلك أخيراً، بينما يشير استطلاع آخر إلى أن 81 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة يذهبون أن مستقبل الديمقراطية الأميركية في خطر".
تواضع أميركي
في المقابل يؤكد المسؤولون الأميركيون أن الولايات المتحدة ستقدم التزاماتها الخاصة بالديمقراطية خلال القمة، حيث تواجه واشنطن شكوكاً بشأن صحة ديمقراطيتها بعدما مهدت مزاعم ترمب الكاذبة بالاحتيال، الطريق أمام هجوم مؤيديه في 6 يناير (كانون الثاني) الماضي على مبنى الكابيتول في مشهد غير مسبوق أذهل الحكومات الأجنبية وشكك في قوة الديمقراطية الأميركية، فيما يعترف آخرون بأنه لا توجد ديمقراطية مثالية، بما في ذلك الولايات المتحدة بالطبع.
وبصفتها مضيفة القمة، ينبغي على الولايات المتحدة معالجة عيوبها لتوفير المصداقية للمشروع بأكمله، إذ لا تزال هناك تفاصيل انتخابية تحتاج إلى المراجعة لضمان عدم التلاعب الحزبي فضلاً عن معالجة الإرث الطويل لقمع الناخبين على أساس العرق ومواجهة التحديات الشائكة لانتهاكات الشرطة وتحقيق العدالة، وهي أمور لا يمكن حلها من قبل السلطة التنفيذية وحدها، بل من خلال الكونغرس والولايات المختلفة التي يكون لها تأثير كبير في جدوى مثل هذه الإصلاحات، ومن دون ذلك فإن الفشل في ضمان انتخابات حرة ونزيهة في الداخل الأميركي سيترك نظرة سلبية لبلد يتباهى باستمرار بأهمية ديمقراطيته في الخارج.