داخل كراجه الصغير الغارق في فوضى المعدات والإطارات والأسلاك الكهربائية، ينهمك أبو أشرف برهم (65 سنة) بإصلاح شاحنة معطلة، عله يتقاضى أجر تشغيلها قبل نهاية يومه الشاق. فظروفه الاقتصادية الصعبة، دفعته إلى جانب عمله في إصلاح السيارات إلى تجميع قطع الحديد والخردة وصناعة مدافئ حطب صغيرة، حيث يقوم ببيعها بأسعار رخيصة لمقدسيين كحاله، يعانون قُبيل فصل الشتاء من تردي أوضاعهم المعيشية وقلة فرص العمل.
المنطقة الصناعية المقدسية الوحيدة التي يعمل فيها برهم إلى جانب مئات المقدسيين في حي وادي الجوز شرق القدس، والمعروفة بِضيق شوراعها وبنيتها التحتية المهترئة ومحالها المتراصة الفقيرة، ستتحول خلال خمس سنوات فقط، إلى منطقة صناعية وسياحية وتجارية وبؤرة تكنولوجية متقدمة. فبلدية القدس أعلنت في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مصادقتها النهائية على مشروع "تطوير وادي الجوز" كأكبر وأضخم مشروع نوعي تشهده المدينة بشطريها.
وادي السيليكون
مشروع "تطوير وادي الجوز" أو كما يعرف بوادي السيليكون، هو جزء من مبادرة حكومية إسرائيلية بقيمة 2.1 مليار شيقل (677 مليون دولار) مدتها خمس سنوات، تهدف إلى تقليل الفجوات بين القدس اليهودية والفلسطينية، وهو واحد من مشاريع عدة، روج لها رئيس بلدية القدس موشيه ليون في الأشهر الأخيرة، "كأكبر الاستثمارات العامة على الإطلاق في القدس الشرقية". برهم ومن معه من تجار في المنطقة الصناعية المستهدفة للمشروع، فوجئوا تماماً عندما ظهرت أوامر الإخلاء على عتبات محالهم، فمن المقرر أن يتم هدم ما يصل إلى 200 مصلحة تجارية مملوكة للفلسطينيين معظمها من محال تصليح السيارات، كجزء من مشروع وادي السيليكون.
يقول برهم مُستهجناً لـ"اندبندنت عربية"، "أرسلت لنا أوامر الإخلاء بعنوان وقف الاستخدام الاستثنائي، على اعتبار أننا كأصحاب كراجات نستخدمها بشكل مخالف منذ سنوات، على الرغم من أننا نجدد رخصة المهنة سنوياً ويأخذون منا الضرائب. موافقتنا على مشروع وادي السيليكون، تعني أنه سيتم نقل المستأجرين والمحال في المنطقة الصناعية إلى مناطق أخرى مثل العيسوية وأم طوبا، وهي مناطق فلسطينية لا تضم ورشات لتصليح السيارات، وليست مخصصة كمناطق صناعية مثل وادي الجوز، وهناك من سيتم نقلهم إلى المناطق الصناعية الإسرائيلية في عطروت ومشير أدوميم. انتقالنا إلى أي من تلك الأماكن سيُلحق بنا الخسائر، فالزبائن لن تلحق بنا ومحالنا أصبحت في أماكن بعيدة عنهم".
ويضيف "المنطقة الصناعية في وادي الجوز موقعها حيوي واستراتيجي قريب من البلدة القديمة والمسجد الأقصى والأسواق كافة، لذلك تسعى البلدية إلى اقتلاعنا منها وإحلال مشاريع ضخمة استيطانية جديدة، تخدم مصالحها التهويدية".
صفحة جديدة
في الوقت الذي يتخوف فيه الفلسطينيون من اقتلاعهم من أماكن عملهم، ويشككون في المشروع وأهدافه، تؤكد البلدية أن وادي السيليكون هو "مشروع بالموافقة". وقال ليون لصحيفة "إسرائيل اليوم"، إنه يقوم بخطوة تاريخية "لتعويض التقصير، وفتح صفحة جديدة مع المقدسيين" تقوم على الثقة المتبادلة مع البلدية، التي ستفعل كل ما بوسعها لإنجاح هذا المشروع العصري. كما يأمل ليون أن تقلل المشاريع من عدم المساواة بين القدس الشرقية والغربية.
سيخصص مشروع وادي السيليكون 200 ألف متر مربع لشركات "الهايتك" (تكنولوجيا متقدمة)، و50 ألف متر مربع للفنادق، و50 ألف متر مربع أخرى للمساحات التجارية، فيما سيحتوي تطوير الشارع على ممرات وأحواش عريضة ستخصص للعروض الفنية، التي ستنعش الحركة الليلية في المكان، وستدر الأموال على أصحاب المصالح الصغيرة في المنطقة. وعند اكتماله، سيكون المجمع وفق البلدية ضِعف حجم محطة "غراند سنترال" في نيويورك، والتوأم لمنطقة "سيليكون فالي" التكنولوجية في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأميركية، حيث سيتم إنشاء مركز تكنولوجي يوفر 10 آلاف وظيفة ذات أجر جيد للمقدسيين في شرقي القدس.
وحول أهمية المشروع، تقول لورا وارتون، وهي عضو في بلدية القدس، وفق صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، "التفكير هنا هو تطوير الهايتك والصناعات الأخرى التي ستسمح للمقدسيين الشرقيين بالعثور على عمل في القدس. قابلت عديداً من الفلسطينيين الموهوبين الذين يعملون في رام الله وأماكن أخرى، لأنه لا يوجد كثير من الهايتك في القدس، وما هو موجود تابع للإسرائيليين ومن أجل الإسرائيليين. من الجيد توفير عمل جيد للمقدسيين الشرقيين. أعتقد أن الأهداف نبيلة، لكني لست متأكدة بعد ما إذا كانت المدينة ستكون قادرة على تحقيق كل الآمال والوعود".
قبضة محكمة
تشير إحصاءات إسرائيلية رسمية إلى أن 75 في المئة من الفلسطينيين شرق القدس فقراء، مقابل 29.8 في المئة في المجتمعات اليهودية، في حين تصل نسبة البطالة بينهم إلى 30 في المئة. أما معدل الدخل الشهري للفلسطيني فلا يتجاوز ألف دولار، وهو أقل من نصف تكلفة المعيشة في مدينة القدس.
ويقول مدير مركز القدس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية زياد الحموري لـ"اندبندنت عربية"، إن "الهدف من وراء المشاريع التي تحمل شعار التطوير هو دمج المقدسيين العرب بالمجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، ليتخلى الشباب عن عاداتهم وثقافتهم العربية، بخاصة أن أوضاع الشباب المقدسي معقدة جداً، فهم لا يحملون أي جنسية، وإنما جواز سفر مؤقت، ولا يستطيعون الحصول على حقوق اقتصادية واجتماعية كاملة، وهذه إحدى أدوات الضغط التي تؤثر على حياتهم". ويشير إلى أن "ما تمارسه أذرع الاحتلال من سياسات يومية، هدفه الضغط الاقتصادي على المقدسيين وإضعافهم ودفعهم إلى الهجرة خارج المدينة بأعداد أكبر، أو القبول بوظائف تحت شروط خطيرة".
السكن أولاً
بين صد ورد وقبول وتشكيك، يصر الفلسطينيون في معظم جلسات التفاهم مع البلدية على بند "السكن"، فخطة وادي السيليكون التي تخصص منشآت تجارية في الطوابق السفلى ومكاتب في الطوابق العليا، وكلية تكنولوجية وشركات "هايتك" في بنايات شاهقة، لا تكترث بأي خطط لبناء وحدات سكنية جديدة أو إضفاء الطابع القانوني على وحدات قائمة، إذ تعاني القدس الشرقية من أزمة إسكان منذ عقود، والفلسطينيون الذين يشكلون حوالى 40 في المئة من سكان المدينة، محصورون في 50 ألف وحدة سكنية فقط (حوالى 25 في المئة من المنازل)، وهو ما أدى إلى زيادة البناء غير القانوني بأعدادٍ كبيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول الخبير المتخصص في تخطيط المدن مراد النتشة إن "الحاجة الأساسية للمقدسيين اليوم ليست الهايتك وإنما الإسكان، يريد الناس توسيع أعمالهم وتحسين دخلهم، ولكن الحاجة الأكثر إلحاحاً هي مزيد من الوحدات السكنية. والبلدية لم تلب ذلك".
ووفق خبير تخطيط المدن في المنظمة الحقوقية "بيمكوم" ساري كرونيش، فإن "الجدل حول عدد الوحدات السكنية التي سيتم تضمينها كان أحد القضايا التي أدت إلى فشل مشروع سابق، لكن مناطق وسط المدينة مثل وادي السيليكون تحتاج إلى مساكن لتزدهر، ولهذا السبب يتم بناء المباني السكنية الشاهقة في المناطق التجارية في القدس الغربية. ومع ذلك، في القدس الشرقية، لا يزال التخطيط الحضري يبدو مختلفاً تماماً".
وكانت البلدية قالت، في بيان، إن مشروع وادي السيليكون هو جزء من خطة أكبر للتجديد الحضري في وادي الجوز، مشيرة إلى أنه سيتم إنشاء بعض المساكن الجديدة في إطار الخطة.
هدم ذاتي
وفق الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، هدمت السلطات الإسرائيلية عام 2020، 170 منشأة في القدس، منها 104 منازل. في المقابل، قدمت للمستوطنين في العام نفسه 5500 وحدة سكنية جديدة. كما أن ثلث سكان القدس يعيشون من دون ترخيص ومنازلهم مهددة بالهدم، وبين عامي 2004 و2019 قامت إسرائيل بهدم 968 منزلاً، وتهجير 3177 شخصاً منهم 1704 أطفال بحجة البناء من دون ترخيص.
ويقول مدير الائتلاف زكريا عودة، لـ"اندبندنت عربية"، "تستغل سلطات الاحتلال 88 في المئة من أراضي القدس الشرقية، ولا تترك سوى 12 في المئة للمقدسيين، وهو ما يضعهم تحت كثير من التحديات والعوائق، فالنقص الحاد في الأراضي يدفعهم للبناء من دون ترخيص، لأن تكلفته المالية باهظة وقد تصل إلى عشرات آلاف الدولارات، وإجراءات البلدية تستغرق مدة زمنية طويلة قد تصل إلى سنوات، ومتطلبات وشروط إثبات ملكية الأرض من خلال الطابو معقدة للغاية".
أما عن الهدم الذاتي، فيشير عودة إلى أن "مدينة القدس تشهد أخيراً ازدياداً ملحوظاً في هذه السياسة، فخلال عام 2020 قامت 67 عائلة بهدم منزلها بأيديها، وذلك تفادياً لدفع مبالغ عالية في ما لو قامت جرافات البلدية بالهدم، وهذا ينعكس سلباً على الوضع النفسي للمقدسيين، بخاصة الأطفال الذين يشاهدون منازلهم وغرفهم الجميلة التي لطالما حلموا بها تهدم بيد آبائهم".