عندما يحتفل الفنان بفنه يفتتح رئات للجمال ودروباً للخيال تقلل من طغيان البشاعة الباسطة أجنحتها السوداء على بلادنا وبشرها وحجرها. الرسام والنحات مارون حكيم (1950) من مواليد مزرعة يشوع، في جبل لبنان، الفنان المتعدد والمبهر، يصدر بعد خمسين عاماً من "العمل والإبداع في عالم الفنون التشكيلية"، كتاباً جامعاً لمسارات احترافه، منذ عام 1966، وحتى عام 2020، ويضم صوراً للوحات ومنحوتات بالحجر والخشب والحديد، إضافة إلى الكثير من النصوص النقدية لشعراء ونقاد فنيين وصحافيين وشهادات لزملاء فنانين، تؤرخ لكل من المسارات الفنية إلى حينه.
لا يغيب الشخص الفنان عن هذا الاحتفاء؛ ذلك أن الكتاب الفني "الجميل" والضخم (665 صفحة)، شاءه الفنان دليلاً على حياته الشخصية، ومحطاتها المختلفة، والمتزامنة مع المسارات المشار إليها.
مرجع شامل
قبل الحديث عن المسارات، كل على حدة، يشير غلاف الكتاب الأخير، والمكتوب بلغات ثلاث (العربية، والفرنسية، والإنجليزية) إلى المدة الطويلة التي استغرقها إعداد الكتاب، وهي ثلاث سنوات، عمل الفنان، في خلالها، على جمع مادته الغزيرة؛ من كتالوغات وكتيبات المعارض الفردية التي أقامها والجماعية التي شارك فيها، إلى النصوص النقدية التي أعقبت المعارض أو تزامنت معها، فإلى النصوص الشعرية التي خطها الفنان بنفسه إيحاءً بأجواء الأعمال الفنية أو الاتجاه الفني الغالب، في حينه. أما صور اللوحات والمنحوتات فبلغت 1100، عدا عن العناية الإخراجية العالية الإتقان التي من شأنها تسليط النظر على المضمون الفني في كل عمل فني مصور، وبالأبعاد المتاحة للنظر، لكأنها صور أيقونية بتمثيليتها المرجعية. وعلى هذا النحو، يصير الكتاب "مرجعاً شاملاً" يعود إليه كل من قصد التعرف إلى الفنان مارون حكيم اللبناني والعربي والعالمي.
إذاً، يستهل الكتاب بمرحلة أولى سماها الفنان "البدايات"، وتمتد من عام 1966 حتى 1971، وقد بلغ الحادية والعشرين، وتجلت بنشاطات الفتى الكشفي، ثم الشاب المكتشف مواهبه الفنية بأعمال نحتية أولى في خلال هذه الأعوام. وكان الغالب فيها جميعاً النحت بالحجر، وفي هذا يروي الفنان كيف أنه تعامل مع الإزميل منذ الصغر، بل شغف به وبات له خير لعبة وكنزاً يقتنى إلى جانب ألعابه الأثيرة، يسرقه من أخيه المعماري منصور من أجل أن "يوقظ الحياة في صخرة هامدة" (ص:29)، "فتولد المنحوتة من سحر اليد الرؤوفة".
وفي سبيل أن يتمكن الفنان من تظهير مواهبه، وتجسيد شغفه بالنحت والرسم، دخل إلى كلية الفنون في بيروت، فاستمرت المرحلة الأكاديمية سبع سنوات (1970-1977)، تخرج فيها برسالة عن النحات "يوسف الحويك رائد النحت في لبنان والبلدان العربية". وكان الفنان قد اكتسب في هذه المرحلة خبرات عالية في الرسم، من أساتذته في كلية الفنون، ومن زياراته إلى متاحف باريس ولندن وروما وغيرها، أتاحت له تفعيلها في أعمال فنية لاحقة. وفي الكتاب صور للرسوم الإعدادية المنفذة أوائل السبعينيات، تنبئ بما سوف تكون عليه موضوعات فنه وشخوصه ومناظره الطبيعية واتجاهاته الأسلوبية.
مسارات إحترافية
بيد أن المسارات الاحترافية لدى الفنان مارون حكيم لم تبدأ إلا في عام 1977 واستغرقت خمس سنوات حتى عام 1982. وقد غلب عليها اهتمامان أو محوران، هما: تأثيرات الحرب اللبنانية وابتكار اللوحة المنحوتة. وفي هذا يشير الفنان إلى أنه، وبعد تخرجه في معهد الفنون الجميلة، قرر دراسة السيراميك في روما، ومن ثم انتقل إلى الرباط، بسبب الحرب اللبنانية، حيث أقام أول معرض فني له، إلى جانب تدريسه الرسم في دار المعلمين والمعلمات، فكان له العديد من لوحات الأكواريل والحبر الصيني، والكولاج، ولوحات العري، بالإضافة إلى تلك التي تختزل المعاناة الإنسانية الكبرى من الحرب عبر أشكال رمزية دالة، منها الصلب، والتشظي، والتقوقع.
أما المنحوتات التي عرضها الفنان حكيم، في ذلك المسار، فلنا عنها شهادة ناقد فني وفنان هو حليم جرداق، إذ قال "حجارة البرية، والخطوط والألوان، تصير معه أشكالاً متحضرة، فيها قوة الذوق، ودينامية اللطافة والدراية وفيها التصميم على عدم التوقف عند المفاهيم والأنماط التقليدية. إن النتاج الذي أمامنا، هو حصيلة جهد صادق، نستشف منه أن صاحبه يعرف ما يريد. ومن أجل ذلك نحن نرحب به ونقدره، لأنه يريد الجميل والأصيل".
في المسار الاحترافي الثاني (1980-1990) واصل الفنان تجاربه الفنية، نحتاً ورسماً. فبعد تجربة اللوحة المنحوتة، ينتقل الفنان إلى ما دعاه تجربة "القماشة المنحوتة"، وقد تجلت في لوحات عنوانها "ملحمة الأرض والشهادة"، تراوحت أجواؤها بين الفرح الغامر والمعاناة الدفينة. ولاحقاً كان للمسار الاحترافي الثالث (1990-2000) مكانته البارزة في مسيرته الفنية اللامعة؛ إذ شيد الفنان مارون حكيم منحوتاته مجبولة بالبشر لتجسد وجه الحرب ووجه الإنسان كليهما، وأطلق العنان لصرخته رفضاً للحزن ووعداً بالتلاقي. في هذا المسار، أبرزت منحوتات الحجر والخشب لديه الأطروحات الوجدانية التي تخالج الأديب والشاعر والموسيقار ذوي الأحاسيس المرهفة، من مثل النزوع إلى التحرر، وإلى الحنو، وتمثل الوضع الأنثوي، والاحتفاء بالربيع، والغضب، وغيرها من المشاعر. حتى صح فيه لقب "شاعر النحاتين" أطلقه عليه الناقد الشاعر جورج غانم، في حينه.
ثم إن لوحاته المنحوتة الأخرى، تلك المصوغة بالحبر الصيني، وبخليط الخشب والألوان المتفجرة والكامدة، وذات الاتجاه التجريدي الطفيف، لقيت ترحيباً واستحساناً واسعين من قبل المجتمع الفني والمجتمعين العربي والأجنبي، وفقاً للتقارير الصحافية عن المعارض الأجنبية والوطنية التي شارك فيها الفنان مارون حكيم، وقد بلغت 26 معرضاً، لهذا المسار وحده.
حوار القامات
وإلى أن بلغ الفنان مارون حكيم مساره الاحترافي الرابع (2000-2010) كان قد حاز مكانته العالمية، وترسخت إبداعيته في أعماله الفنية، رسماً ونحتاً؛ ذلك أن الناظر في مكونات لوحته الملونة وتلك المنحوتة على السواء، يجد أن الفنان أحكم خطابه الفني، وبات يتصرف بالثنائيات الضدية، نظير الطراوة والقسوة، واليأس والحلم، والغبطة والألم، وغيرها، تصرفاً ينم عن اكتمال رؤيته، من دون أن ينضب معين ذاته من الأفكار والمشاعر، على حد ما أورده في إحدى مقالاته بعنوان "النبع الداخلي والتجربة المشرعة على الضوء"، بما يعنيه من جمال وحقائق واعية ولا واعية، ومن شراكة فاعلة بينه وبين عناصر الطبيعة ومناظرها الميتة والحية، على السواء.
ولدى بلوغ الفنان مساره الاحترافي الخامس والأخير (2010-2020) يتبدى للمراقب البعد الروحاني في أعماله النحتية، وفي لوحاته ذات الصيغ اللونية الجديدة، الخليطة بين السوريالية والرمزية والانطباعية والإشراقية، بل الانفجارية اللونية، ولا سيما في آخر أعماله (الجلجلة، والمصلوب، ومنازل الفرح، وشرر، وغيرها). على أن موضوعات الفنان وموتيفاته الجديدة على الدوام يستقيها من معين ذاته في مواجهة تحديات عصره ووطنه وآمالهما، ومن الطبيعة التي ترفده بالكثير من المناخات والأفكار والأمزجة، وذلك من دون أن يتخلى عن هويته الفنية الماثلة أبداً في "طريقة مقاربته الموضوع التشكيلي الذي يود معالجته"، على حد قول محمد شرف الناقد الفني والرسام اللبناني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا ينتهي المسار الخامس بمعرض "حوار القامات"، وفيه تظهر الأعمال النحتية الممثلة شخوصاً ذات سمو، تتكامل فيها الجراح والأحلام، وتتصاعد الغرائز البدائية والأسطورية فتستحيل خلجات روحية قيد التحرر من أسر المادة ورواسبها. وفي المرحلة الأخيرة (2018-2020) تتكشف للفنان قيمة المعدن، ومزاياه، فيتضح له "أنه صلب، مقاوم ومطواع في الآن ذاته، لأنه يذوب ويلتحم ويتآخى مع اللون ويتماهى مع تخيلاتي، وكثرة احتمالات الابتكار" فيه، على حد تعبير الفنان مارون حكيم.
وإثباتاً لذلك، يعرض الفنان صوراً لمنحوتات من الحديد، مصوغة من بقايا مشاغل ميكانيك السيارات، ومعامل الحديد على أنواعها، من مثل منحوتة الشمس الدوارة، والنبات المعدني، والمرور المستحيل في مضيق هرمز، وغيرها.
ومما يجدر بقارئ الكتاب "الجميل" عن مسيرة الفنان مارون حكيم عدم إغفاله، هو مرافقة النصوص النقدية الموضحة والشارحة لمسارات الفنان وملحقاتها من الصور عن اللوحات والمنحوتات بأشكالها كافة. وأذكر أصحاب هذه النصوص، على توالي ورودها: عقل العويط، وعبد الله بن سمين، وعبد الله مدارهريا، وجان خليفة، وسمير الصايغ، ورياض فاخوري، وفؤاد أبو منصور، وجوزيف أبو رزق، وسمر ناهض حكيم، ومي منسي، والشاعر جورج غانم، وسونيا نيغوليان، وجوزيف طراب، وغازي قهوجي، وكلود أبو شقرا، ومحمد شرف، وآخرون.